الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم : الصبر نصف الإيمان على ما سيأتي وجه كونه نصفا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من أقل ما أوتيتم " اليقين وعزيمة الصبر ، ومن أعطي حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ، ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضا وينكركم أهل السماء ، عند ذلك ، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه "، ثم قرأ قوله تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم ، الآية .

وروى جابر أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال الصبر والسماحة وقال أيضا: الصبر كنز من كنوز الجنة وسئل مرة : ما الإيمان ؟ فقال : الصبر وهذا يشبه قوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة "، معناه معظم الحج عرفة وقال أيضا صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس .

وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام تخلق بأخلاقي وأن من أخلاقي أني أنا الصبور وفي حديث عطاء عن ابن عباس لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار فقال : أمؤمنون أنتم فسكتوا ، فقال عمر نعم يا رسول الله ، قال : وما علامة إيمانكم ، قالوا : نشكر على الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى بالقضاء ، فقال صلى الله عليه وسلم : مؤمنون ورب الكعبة .

وقال صلى الله عليه وسلم : في الصبر على ما تكره خير كثير وقال المسيح عليه السلام : إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كان الصبر رجلا لكان كريما ، والله يحب الصابرين والأخبار في هذا لا تحصى .

التالي السابق


(وأما الأخبار) الواردة في فضيلة الصبر (فقد قال صلى الله عليه وسلم: الصبر نصف الإيمان) ، رواه أبو نعيم والخطيب والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود بزيادة: واليقين الإيمان كله، وقد تقدم (على ما سيأتي وجه كونه نصفا، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أقل ما أوتيتم") ، كذا في النسخ، وفي القوت: إن "أقل ما أوتيتم (اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكني أخاف أن تفتح الدنيا عليكم بعدي فينكر بعضكم بعضا وينكركم أهل السماء، عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه"، ثم قرأ قوله تعالى: ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا ، الآية) ، تقدم هذا الحديث في كتاب العلم مختصرا، وذكر العراقي أنه لم يجده هكذا بطوله، وهو هكذا في القوت، وعزاه إلى أبي أمامة الباهلي من رواية شهر بن حوشب عنه، وسيأتي بتمامه في آخر كتاب الزهد في الفصول التي نلحقها بخاتمته، (وروى جابر) بن عبد الله رضي الله عنه (أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان) ما هو (فقال) : هو (الصبر والسماحة) ، قال صاحب القاموس: "وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا، وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان؛ بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه السماحة، وترك ما نهيت عنه والبعد عنه، فالحامل عليه الصبر اهـ .

وقد سبقه البيهقي بهذا فقال: يعني بالصبر الصبر عن محارم الله، وبالسماحة أن يسمح بأداء ما افترض عليه انتهى. وتبعهما إمام الطائفة الحسن البصري فقال: يعني الصبر عن المعصية والسماحة على أداء الفرائض، قال العراقي : رواه الطبراني في مكارم الأخلاق، وابن حبان في الضعفاء، وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر ضعيف، ورواه الطبراني في الكبير من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده اهـ. قلت: وذكر صاحب القوت أنه من رواية ابن المنذر عن جابر، وقد رواه أبو يعلى كذلك، وقوله في يوسف أنه ضعيف هو قول النسائي، وروى الذهبي عنه أنه قال فيه: إنه متروك، ثم ساق له مما أنكر عليه هذا الخبر، وأما حديث عبيد بن عمير عن أبيه وهو عمير بن واقد الليثي له صحبة، فأخرجه البخاري في التاريخ بلفظ: "أفضل الإيمان الصبر والسماحة"، ورواه الديلمي هكذا في مسند الفردوس من حديث معقل بن يسار، وعزاه صاحب القاموس إلى كتاب الأدب المفرد للبخاري بلفظ المصنف .

(وقال) صلى الله عليه وسلم: (الصبر كنز من كنوز الجنة) ، قال العراقي : غريب لم أجده، اهـ. قلت: ربما يشهد له ما رواه سعيد بن منصور والخطيب من حديث علي رضي الله عنه: "أربعة من كنوز الجنة؛ إخفاء الصدقة، وكتمان المصيبة، وصلة الرحم، وقول لا حول ولا قوة إلا بالله"، وهذا لأن كتمان المصيبة من جملة الصبر، ويحتمل أن يكون من كنوز الخير بدل من كنوز الجنة، وقد روي ذلك من قول الحسن البصري: "الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله [ ص: 6 ] إلا لعبد كريم عنده"، (وسئل) صلى الله عليه وسلم (مرة: ما الإيمان؟ فقال: الصبر) ، أي: بجميع أنواعه الآتي ذكرها فيها تتم مراتب الإيمان، وقد أحاله العراقي على حديث علي الآتي ذكره للمصنف في الآثار ولفظه: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد"، ولا يخفى أنهما حديثان متغايران، فتأمل .

(وهذا يشبه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، معناه معظم الحج عرفة) ، وقد تقدم في كتاب التوبة وفي كتاب الحج أي: معظم أركانه، فكذلك الصبر معظم أركان الإيمان، (وقال أيضا) صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس) ، هكذا هو في القوت واستطرد ذكره في كتاب التوبة فقال: ثم على التائب أن يعمل في قطع معتاد إن كان، ثم ليصبر على مجاهدة النفس في الهوى إن بلي به، ثم قال: فهذه الخصال من أفضل أعمال المريدين وأزكاها، ومعها تلهم النفس المطمئنة رشدها وتقواها، وبها تخرج من وصف الأمارة بالسوء إلى وصف المطمئنة إلى أخلاق الإيمان، وهذا أحد المعاني في الخبر المشهور: "أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس"، لأن النفس تكره خلاف الهوى، والهوى ضد الحق، والله تعالى يحب الحق فصار إجبار النفس على خلاف الهوى على وفاق الحق؛ لأن محبة الحق من أفضل الأعمال، اهـ. وقال العراقي : لا أصل له مرفوعا، وإنما هو من قول عمر بن عبد العزيز، هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب محاسبة النفوس وقيل: (أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام) : يا داود (تخلق بأخلاقي وإن من أخلاقي أني أنا الصبور) ، نقله صاحب الرسالة. والتخلق بأخلاق الله تعالى والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه ليصير بذلك ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة على بساط القرب، وسيأتي الكلام على ذلك .

(وفي حديث عطاء) بن أبي رباح التابعي المكي الثقة (عن ابن عباس ) رضي الله عنه قال: (لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار فقال: أمؤمنون أنتم فسكتوا، فقال عمر) بن الخطاب رضي الله عنه وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم أو كان جالسا معهم إذ ذاك، فأجاب نيابة عنهم، وقال: ( نعم يا رسول الله، قال: وما علامة إيمانكم، قالوا: نشكر على الرخاء) أي: الرخص والسعة، (ونصبر على البلاء) أي: الاختبار والشدة (ونرضى بالقضاء، فقال صلى الله عليه وسلم: مؤمنون أنتم ورب الكعبة) . هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي : رواه الطبراني في الأوسط من رواية يوسف بن ميمون وهو منكر الحديث عن عطاء، اهـ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: في الصبر على ما تكره خير كثير) ، ولفظ القوت: إن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، قال العراقي : رواه الترمذي من حديث ابن عباس ، وقد تقدم. (وقال المسيح عليه السلام: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون) ، ولفظ القوت: "إلا بالصبر"، (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان الصبر رجلا لكان كريما، والله يحب الصابرين) ، قال العراقي : رواه الطبراني من حديث عائشة ، وفيه صبح بن دينار ضعفه العقيلي ، اهـ. قلت: ورواه كذلك أبو نعيم في الحلية من طريق صبح بن دينار البلدي عن المعافى بن عمران عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن عائشة ، ثم قال: غريب تفرد به المعافى .

(والأخبار في هذا) الباب (مما لا تحصى) لكثرتها، ومن ذلك ما رواه الديلمي بلا إسناد من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما: "الصبر مفتاح الفرج، والزهد غنى الأبد"، وروى القضاعي من حديث ابن عمر وابن عباس : "انتظار الفرج بالصبر عبادة"، وروى الطبراني في الكبير من حديث الحكم بن عمير الثمالي: "الصبر والاحتساب من عتق الرقاب، ويدخل الله صاحبهن الجنة بغير حساب".




الخدمات العلمية