الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فالصبر على التحقيق عبارة عنها والعمل هو كالثمرة يصدر عنها ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم فإن الصبر خاصية الإنس ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة أما في البهائم فلنقصانها وأما في الملائكة فلكمالها .

وبيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وصارت مسخرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة ، وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا .

وأما الملائكة عليهم السلام فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية ، والابتهاج بدرجة القرب منها ، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف .

وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب وليس له قوة الصبر البتة إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما ، وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم فوكل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه ، والآخر يقويه ، فتميز بمعونة الملكين عن البهائم ، واختص بصفتين إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب ، وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف ، فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب ، بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط ، فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ وأما الدواء النافع مع كونه مضرا في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه ، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر ، فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلا ، ولكن لا قدرة له على دفعه فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه ، فوكل الله تعالى به ملكا آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة ، فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوي ذلك ، بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد كما أن نور الهداية أيضا يختلف في الخلق اختلافا لا ينحصر .

فلنسم هذه الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات وقهرها باعثا دينيا ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعث الهوى وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى ، والحرب بينهما سجال ومعركة هذا القتال قلب العبد ، ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله تعالى ، ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله تعالى .

التالي السابق


(فالصبر على التحقيق عبارة عنهما) عن تلك المعرفة والحالة، (والعمل هو كالثمرة يصدر عنها ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين) الموجودات والملائكة والإنس والبهائم، (فلا يتصور ذلك في البهائم والملائكة أما) عدم تصوره (في البهائم فلنقصانها) ، وتسفل درجاتها في نفس الحياة التي بها شرفها، لأن الحي هو الدراك الفعال، وفي إدراك البهيمة نقص، وفي فعلها نقص، أما إدراكها فنقصانها أنه مقصور على الحواس، وإدراك الحس قاصر لأنه لا يدرك الأشياء إلا بمماسة أو بقرب منها، فالحس معزول عن الإدراك إن لم يكن مماسة ولا قرب، فإن اللمس والذوق يحتاجان إلى المماسة، والسمع والبصر والشم يحتاجون إلى القرب، وكل موجود لا يتصور فيه مماسة ولا قرب، فالحس معزول عن إدراكه في هذه الحالة، وأما فعلها فسيأتي في سياق المصنف قريبا .

(وأما) عدم تصوره (في الملائكة فلكمالها) ، وعلو درجتها، (وبيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وصارت مسخرة) أي: منقادة (لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا) ، وهو إشارة إلى نقصانها في فعلها. (وأما الملائكة عليهم السلام فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، والابتهاج بدرجة القرب منها، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن) مطالعة (حضرة الجلال بجند [ ص: 9 ] آخر يغلب الصوارف) ولتقدسها عن الشهوة كانت داعية للقرب إلى الله تعالى .

(وأما الإنسان) فدرجته متوسطة بين الدرجتين، فكأنه مركب من بهيمة وملكية، (فإنه خلق في ابتداء الصبي ناقصا مثل البهيمة) أي: في الإدراك؛ إذ ليس له منه أولا إلا الحواس التي يحتاج في الإدراك بها إلى طلب القرب في المحسوس بالسعي والحركة إلى أن يشرق عليه نور العقل المتصرف في ملكوت السماوات والأرض من غير حاجة إلى حركة بالبدن، وطلب قرب أو مماسة مع المدرك له، بل مدركه الأمور المقدسة عن قبول القرب والبعد بالمكان (لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه) ، فهي مستولية عليه (ثم يظهر فيه شهوة اللعب والزينة) ، وفي أثناء ذلك يظهر فيه شهوة الغضب، وبحسب مقتضى كل هذه الشهوات يكون انبعاثه (ثم شهوة النكاح على الترتيب) إلى أن يظهر فيه الرغبة في طلب الكمال والنظر للعاقبة وعصيان مقتضى تلك الشهوات، (وليس له قوة الصبر البتة إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبتهما، وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم) يدعو إلى أفعال ملائمة لشهوته .

(ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده) وكرمه (أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم) إذ قد خصهم بالكمال في الإدراك وفي العقل، (فوكل به) أي: بكل واحد منهم (عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه، والآخر يقويه، فتميز بمعونة الملكين عن) رتبة (البهائم، واختص بصفتين إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله و) الثانية (معرفة المصالح المتعلقة بالعواقب، وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف، فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصالح العواقب، بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط، فلذلك لا يطلب إلا اللذيذ فأما الدواء النافع مع كونه مضرا في الحال فلا تطلبه) ولا ترغب إليه (ولا تعرفه، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات لها مغبات مكروهة في العاقبة) يقال للأمر غب بالكسر ومغبة أي: عاقبة، (ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر، فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلا، ولكن لا قدرة له على دفعه فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها) من أصلها (عن نفسه، فوكل الله تعالى به ملكا آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود) باطنة (لم تروها وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوات، فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوى، وذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد) والمعونة، (كما أن نور الهداية أيضا يختلف في الخلق اختلافا لا ينحصر فلنسم هذه الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات وقهرها باعثا دينيا) لكون تلك القوة تبعث إلى أمور الدين، (ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعث الهوى) لكونها تبعث إلى هوى النفس، (وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى، والحرب بينهما سجال) أي: منوال لا ينقطع، (ومعركة هذا القتال) أي: ميدانه ومحله (قلب العبد، ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله، ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله) ومعرفة هذا من الإيمان لله تعالى، وهو تصديق الله تعالى فيما أخبر به من عداوة النفس والشيطان والشهوات للعقل والمعرفة والملك الملهم للخير، وأن الشهوات والنفس من حزب الشيطان، والمعرفة والعقل والملائكة من جند الله [ ص: 10 ] وحزبه، وهذا الإيمان واجب لا يستغنى عنه سالك لطريق الله تعالى. .




الخدمات العلمية