الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الحالة الثانية : أن تغلب دواعي الهوى ، وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين ، فيسلم نفسه إلى جند الشياطين ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة ، وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون وهم الذين استرقتهم شهواتهم وغلبت عليهم شقوتهم فحكموا أعداء الله في قلوبهم التي هي سر من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله وإليهم الإشارة بقوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم وقيل : لمن قصد إرشادهم فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم وهذه الحالة علامتها اليأس والقنوط والغرور بالأماني ، وهو غاية الحمق كما قال صلى الله عليه وسلم : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله وصاحب هذه الحالة إذا وعظ قال : أنا مشتاق إلى التوبة ، ولكنها قد تعذرت علي فلست أطمع فيها أو لم يكن مشتاقا إلى التوبة ، ولكن قال : إن الله غفور رحيم كريم فلا حاجة به إلى توبتي ، وهذا المسكين قد صار عقله رقيقا لشهوته فلا يستعمل عقله إلا في استنباط دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته ، فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفار فهم يستسخرونه في رعاية الخنازير وحفظ الخمور وحملها ومحله عند الله تعالى محل من يقهر مسلما ويسلمه إلى الكفار ويجعله أسيرا عندهم لأنه بفاحش ؛ جنايته يشبه أنه سخر ما كان حقه أن لا يستسخر ، وسلط ما حقه أن لا يتسلط عليه ، وإنما استحق المسلم أن يكون متسلطا لما فيه من معرفة الله وباعث الدين ، وإنما استحق الكافر أن يكون مسلطا عليه لما فيه من الجهل بالدين وباعث الشياطين ، وحق المسلم على نفسه أوجب من حق غيره عليه ، فمهما سخر المعنى الشريف الذي هو من حزب الله وجند الملائكة للمعنى الخسيس الذي هو من حزب الشياطين المبعدين عن الله تعالى كان كمن أرق مسلما لكافر بل هو كمن قصد الملك المنعم عليه فأخذ أعز أولاده وسلمه إلى أبغض أعدائه فانظر كيف يكون كفرانه لنعمته واستيجابه لنقمته ؛ لأن الهوى أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى والعقل أعز موجود خلق على وجه الأرض .

التالي السابق


(الحالة الثانية: أن تغلب دواعي الهوى، وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين، فيسلم نفسه إلى جند الشيطان) فيستولى عليها، (ولا يجاهد ليأسه عن المجاهدة، وهؤلاء هم الغافلون) الظالمون لأنفسهم، (وهم الأكثرون وهم الذين استرقتهم شهوتهم) أي: تملكتهم وجعلتهم كالأرقاء، (وغلبت عليهم شقوتهم) وسوء حظهم، (فحكموا أعداء الله في قلوبهم التي هي سر من أسرار الله تعالى) والمراد بها اللطيفة الربانية لا المضغة اللحمانية بدليل قوله (وأمر من أوامره وإليهم الإشارة بقوله: [ ص: 18 ] ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) وكذلك قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا ، وقوله: ولو شاء الله ما اقتتلوا ، وقوله: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم) وبارت تجارتهم، (وقيل: لمن قصد إرشادهم) بلسان الوحي ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ) .

(وهذه الحالة علامتها اليأس والقنوط والغرور بالأماني، وهو غاية الحمق) ونهاية الجهل (كما قال صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه) أي: ملكها (وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) الأماني. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس، وقد تقدم في ذم الغرور .

(وصاحب هذه الحالة إذا وعظ قال: أنا مشتاق إلى التوبة، ولكنها قد تعذرت علي فلست أطمع فيها أو لم يكن مشتاقا إلى التوبة، ولكن قال: إن الله غفور رحيم كريم فلا حاجة به إلى توبتي، وهذا المسكين قد صار عقله رقيقا) أي: مملوكا (لشهوته فلا يستعمل عقله إلا في استنباط دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته، فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفار فهم يستسخرونه) أي: يستخدمونه (في رعاية الخنازير وحفظ الخمور وحملها) من موضع إلى موضع، (ومحله عند الله تعالى محل من يقهر مسلما أو يسلمه إلى الكفار ويجعله أسيرا عندهم؛ لأن تفاحش جنايته سببه أنه سخر ما كان حقه أن لا يستسخره، وسلط من كان حقه أن يتسلط عليه، وإنما استحق المسلم أن يكون متسلطا لما فيه من معرفة الله وباعث الدين، وإنما يستحق الكافر أن يكون مسلطا عليه لما فيه من الجهل بالدين وباعث الشياطين، وحق المسلم على نفسه أوجب من حق غيره عليه، فمهما سخر المعنى الشريف الذي هو من حزب الله وجند الملائكة للمعنى الخسيس الذي هو من حزب الشياطين المبعدين عن الله تعالى كان كمن أرق مسلما لكافر) أي: جعله رقيقا له، (بل هو كمن قصد الملك المنعم عليه) المحسن له (فأخذ أعز أولاده وسلمه إلى) يد (بعض أعدائه فانظر كيف يكون كفرانه لنعمته واستيجابه) أي: استحقاقه (لنقمته؛ لأن الهوى أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى) ، وقد روي ذلك من حديث أبي أمامة بلفظ: "أبغض إله عبد عند الله في الأرض هو الهوى"، هكذا رواه الطبراني في الكبير بإسناد ضعيف. (والعقل أعز موجود خلق في الأرض) ، وقد وردت فيه أخبار تقدم ذكرها في آخر كتاب العلم .




الخدمات العلمية