الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله وولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا .

وقال صلى الله عليه وسلم : انتظار الفرج بالصبر عبادة .

وقال صلى الله عليه وسلم : ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله به ذلك .

وقال أنس حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال : يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه ؟ قال : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، قال الله تعالى جزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر ولم يشكني إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له ، وإن توفيته فإلى رحمتي .

وقال داود عليه السلام يا رب ، ما جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك ؟ قال : جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان فلا أنزعه عنه أبدا وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبته : ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوضه منها الصبر إلا كان ما عوضه منها أفضل مما انتزع منه وقرأ: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وسئل فضيل عن الصبر فقال : هو الرضا بقضاء الله ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : الراضي لا يتمنى فوق منزلته .

وقيل : حبس الشبلي رحمه الله في المارستان فدخل عليه جماعة فقال من أنتم ؟ قالوا : أحباؤك جاءوك زائرين ، فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون ، فقال : لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة ويطالعها وكان فيها : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ويقال أن : امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت ، فقيل لها أما تجدين الوجع ؟ فقالت : إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه .

وقال داود لسليمان عليهما السلام يستدل على تقوى المؤمن بثلاث حسن التوكل فيما لم ينل وحسن ، الرضا فيما قد نال وحسن الصبر فيما قد فات . وقال نبينا صلى الله عليه وسلم : من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك ويروى عن بعض الصالحين أنه خرج يوما وفي كمه صرة فافتقدها فإذا هي قد أخذت من كمه فقال : بارك الله له فيها لعله أحوج إليها مني، وروي عن بعضهم أنه قال : مررت على سالم مولى أبي حذيفة في القتلى وبه رمق فقلت له : أسقيك ماء ؟ فقال : جرني قليلا إلى العدو واجعل الماء في الترس فإني صائم ، فإن عشت إلى الليل شربته فهكذا كان صبر سالكي طريق الآخرة على بلاء الله تعالى ، فإن قلت : فبماذا تنال درجة الصبر في المصائب وليس الأمر إلى اختياره فهو مضطر شاء أم أبى ، فإن كان المراد به أن لا تكون في نفسه كراهية المصيبة فذلك غير داخل في الاختيار ، فاعلم أنه إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وشق الجيوب وضرب الخدود والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة وتغير العادة في الملبس والمفرش والمطعم ، وهذه الأمور داخلة تحت اختياره فينبغي أن يجتنب جميعها وأن يظهر الرضا بقضاء الله تعالى ويبقى مستمرا على عادته ويعتقد أن ذلك كان وديعة فاسترجعت كما روي عن الرميصاء أم سليم رضي الله عنها أنها قالت : توفي ابن لي وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية البيت فقدم أبو طلحة فقمت فهيأت له إفطاره فجعل يأكل ، فقال : كيف الصبي ؟ فقلت بأحسن حال بحمد الله ، فإنه لم يكن منذ اشتكى خيرا منه الليلة ، ثم تصنعت له أحسن ما كنت أتصنع قبل ذلك حتى أصاب مني حاجته فقلت : ألا تعجب من جيراننا ؟ قال : ما لهم ؟ قلت : أعيروا عارية فلما طلبت منهم واسترجعت جزعوا ، فقال : بئس ما صنعوا ، فقلت هذا ابنك كان عارية من الله تعالى ، وأن الله تعالى قبضه إليه ، فحمد الله واسترجع ، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : اللهم بارك لهما في ليلتهما ، قال الراوي : فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرءوا القرآن وروى جابر أنه عليه السلام قال : رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وقد قيل الصبر الجميل هو أن لا يعرف صاحب المصيبة من غيره ولا يخرجه عن حد الصابرين توجع القلب ولا فيضان العين بالدمع إذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت سواء ولأن البكاء توجع القلب على الميت ، فإن ذلك مقتضى البشرية ، ولا يفارق الإنسان إلى الموت ، ولذلك لما مات إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه فقيل له أما نهيتنا عن هذا ؟ فقال : إن هذه رحمة ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء بل ذلك أيضا لا يخرج عن مقام الرضا ، فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألم بسببه لا محالة ، وقد تفيض عيناه إذا عظم ألمه ، وسيأتي ذلك في كتاب الرضا إن شاء الله تعالى وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء : إن أحق من عرف حق الله تعالى فيما أخذ منه من عظم حق الله تعالى عنده فيما أبقاه له ، واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك ، والباقي بعدك هو المأجور فيك ، واعلم أن أجر الصابرين به فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه .

فإذا مهما دفع الكراهة بالتفكر في نعمة الله تعالى عليه بالثواب نال درجة الصابرين ، نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب ، وقد قيل : من كنوز البر كتمان المصائب والأوجاع والصدقة .

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا) .

قال العراقي : رواه ابن عدي في الكامل من حديث أنس بسند ضعيف، اهـ. قلت: وكذلك رواه الحكيم في النوادر والديلمي في مسند الفردوس. (وقال صلى الله عليه وسلم: انتظار الفرج بالصبر عبادة) رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث ابن عمر وابن عباس وابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة من حديث ابن عمر دون قوله بالصبر، وكذا رواه أبو سعيد الماليني في مسند الصوفية من حديث ابن عمر وكلها ضعيفة. وللترمذي من حديث ابن مسعود: أفضل العبادة انتظار الفرج، وتقدم في الدعوات، انتهى. قلت: وممن رواه دون قوله بالصبر ابن عدي والخطيب من حديث أنس بسند ضعيف، ورواه الترمذي وحسنه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث، وقد روي من حديث علي بمثل لفظ القضاعي رواه ابن عبد البر والبيهقي وروى ابن أبي الدنيا وابن عساكر من حديث علي بلفظ: انتظار الفرج عبادة، ومن رضي بالقليل من الرزق رضي الله عنه بالقليل من العمل.

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله تعالى: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني) بالمد (في مصيبتي واعقبني خيرا منها إلا فعل الله به ذلك) .

قال العراقي : رواه مسلم من حديث أم سلمة، انتهى .

قلت: لفظ مسلم: "ما من عبد يصيب مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها" قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أحمد عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال: لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به، قالت أم سلمة فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منه ثم رجعت إلى نفسي من أين لي خيرا من أبي سلمة فأبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه الطيالسي وأبو نعيم في الحلية بلفظ: ما من عبد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فآجرني منها واعقبني منها خيرا إلا أعطاه الله ذلك. وروى ابن سعد في الطبقات من حديث أم سلمة: ما من عبد يصاب بمصيبة فيفرح إلى ما أمره الله به من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي هذه وعوضني خيرا منها إلا آجره [ ص: 28 ] الله في مصيبته وكان قمنا أن يعوضه الله منها خيرا منها.

وروى أحمد وابن ماجه من حديث الحسين بن علي: ما من مسلم ولا مسلمة يصاب مصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعا إلا جعله الله له عند ذلك فأعطاه أجرها يوم أصيب. (وقال أنس) رضي الله عنه (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه؟) أي: عينيه ويقال للعين كريمة لكونها مكرمة عند صاحبها، (قال:) جبريل (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، قال) الله عز وجل (جزاؤه الخلود في داري والنظر في وجهي) .

قال العراقي : رواه الطبراني في الأوسط من رواية أبي ظلال القسملي، واسمه هلال أحد الضعفاء، عن أنس ، ورواه البخاري بلفظ: إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، ورواه ابن عدي وأبو يعلى بلفظ: إذا أخذت كريمتي عبد لم أرض له ثوابا دون الجنة، قلت: يا رسول الله وإن كانت واحدة، قال: وإن كانت واحدة. وفيه سعيد بن سليم قال ابن عدي: ضعيف، انتهى .

قلت: وروى الترمذي من حديث أنس ، وقال: حسن غريب، بلفظ: إن الله تعالى يقول: إذا أخذت كريمتي عبد في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة. ورواه من حديث أبي هريرة، وقال: حسن صحيح، بلفظ: يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة، ورواه هناد كذلك، وروى الطبراني في الكبير وابن السني في عمل يوم وليلة، وابن عساكر من حديث أبي أمامة، أن الله تعالى يقول: يا ابن آدم إذا أخذت منك كريمتيك فصبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى لم أرض لك ثوابا دون الجنة. ورواه أحمد وابن ماجه مثله بلفظ: يقول الله تعالى: يا ابن آدم، وروى عبد بن حميد وسمويه وابن عساكر من حديث أنس قال الله عز وجل: وعزتي لا أقبض كريمتي عبد فيصبر لحكمي ويرضى بقضائي فأرضى له بثواب دون الجنة. وحديث أنس عند البخاري رواه أيضا أحمد وزاد: يعني عينيه، ورواه كذلك الطبراني في الكبير من حديث جرير، وفي لفظ له من حديثه: قال الله عز وجل: من سلبت كريمتيه عوضته منهما الجنة، وروى ابن حبان والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر من حديث العرباض بن سارية، قال الله: إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له بهما ثوابا دون الجنة إذا حمدني عليهما، ورواه الطبراني وحده من حديث أبي أمامة نحوه بلفظ: قال ربكم، وروى أحمد وأبو يعلى من حديث أنس : قال ربكم: من أذهبت كريمتيه ثم صبر واحتسب كان ثوابه الجنة، وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بلفظ: يقول الله: لا أذهب بصفيتي عبد فأرضى له ثوابا دون الجنة.

(وقال صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر ولم يشكني إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له، وإن توفيته فإلي رحمتي) .

قال العراقي : رواه مالك في الموطأ من حديث عطاء بن يسار مرسلا، وقال ابن عبد البر في التمهيد: رواه عباد بن كثير عن زيد بن أسلم، انتهى. قلت: وقد رواه الحاكم مرفوعا من حديث أبي هريرة بلفظ: قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عواده أطلقته من أساري ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، ثم يستأنف العمل. وقد رواه البيهقي كذلك ورواه الطبراني وابن عساكر من حديث أنس بلفظ: ثلاث من كنوز البر، إخفاء الصدقة، وكتمان المصيبة، وكتمان الشكوى، يقول الله تعالى: إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر ولم يشكني إلى عواده ثم أبرأته أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، وإن أرسلته أرسلته ولا ذنب عليه، وإن توفيته توفيته إلى رحمتي.

(وقال داود عليه السلام) في بعض مخاطباته مع الله عز وجل: (يا رب، ما جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك؟ قال: جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان فلا أنزعه عنه أبدا) ، رواه الديلمي وابن عساكر من حديث ابن مسعود، وفيه جسر بن فرقد ضعيف، ولفظه: قال داود عليه السلام: إلهي ما جزاء من شيع ميتا إلى قبره ابتغاء مرضاتك؟ قال جزاؤه أن تشيعه ملائكتي فتصلي على [ ص: 29 ] روحه في الأرواح، قال: اللهم فما جزاء من يعزي حزينا ابتغاء مرضاتك؟ قال: أن ألبسه لباس التقوى، وأستره به من النار فأدخله الجنة، الحديث .

(وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في خطبته: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوض منها الصبر إلا كان ما عوضته منها أفضل مما انتزع منه، وقرأ قوله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) أخرجه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الجبار، حدثنا سعيد بن غانم عن محمد بن عمر، وقال: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب فقال: ما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه فعاضه مما انتزع منه الصبر إلا ما كان ما عاضه خيرا مما انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب "، وقد نقله كذلك صاحب العوارف .

(وسئل فضيل) بن عياض رحمه الله تعالى (عن الصبر فقال: هو الرضا بقضاء الله، قيل: وكيف ذلك؟ قال: الراضي لا يتمنى فوق منزلته) وكأنه يشير إلى ثاني مقام من مقامات الصبر الذي هو درجة الزاهدين، وإليه يشير ما رواه الحكيم والديلمي وابن عساكر من حديث أبي موسى الأشعري: الصبر الرضا، وفي لفظ: الصبر رضا، يعني أن التحقيق بالصبر هو الذي يفتح الوصول إلى مقام الرضا. (وقيل: حبس الشبلي رحمه الله تعالى) وقتا (في المارستان) هو دار المرضى (فدخل عليه جماعة فقال) لهم: (من أنتم؟ قالوا: أحباؤك جاءوك زائرين، فأخذ يرميهم بالحجارة) اختبارا لمحبتهم له (فأخذوا يهربون منه، فقال:) لهم (لو كنتم أحبائي) صادقين (لصبرتم على بلائي) اعتبارا بنفسه فيما هو من بلاء السجن في المارستان، ونسبته إلى الجنون، وليس بمجنون، نقله القشيري في الرسالة .

(وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة ويطالعها) أي: يقرأ ما فيها، (وكان فيها: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) ولفظ القشيري في الرسالة: وقال بعضهم: كنت بمكة فرأيت فقيرا طاف بالبيت، وأخرج من جيبه رقعة ونظر فيها ومر، ولما كان بالغد فعل مثل ذلك، فترقبته أياما وهو يفعل مثل ذلك، فيوما من الأيام طاف ونظر في الرقعة وتباعد قليلا وسقط ميتا، فأخرجت الرقعة من جيبه فإذا فيها: "واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا" .

(وقيل: إن امرأة فتح) بن شخرف (الموصلي) وكانت من العارفات (عثرت) أي: وقعت برجلها (فانقطع ظفرها فضحكت، فقيل لها أما تجدين ألم الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه) . أورد المصنف هذه القصة هنا استدلالا بها على الصبر على البلايا، ومعلوم أن المستلذ بالبلية لا يعد صابرا حقيقة، ولذلك لم يوصف سيدنا أيوب عليه السلام بالصبار فقال تعالى: إنا وجدناه صابرا ولم يقل "صبارا" لكونه كان يستلذ ما نزل به في بعض أحيانه .

(وقال داود لسليمان عليهما السلام) يختبره: بم يستدل على تقوى المؤمن؟ فقال: (يستدل على تقوى المؤمن بثلاث) خصال الأولى (حسن التوكل فيما لم ينل، و) الثانية (حسن الرضا فيما قد نال و) الثالثة (حسن الصبر فيما قد فات. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك) .

قال العراقي : لم أجده مرفوعا، وإنما رواه ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات من رواية سفيان عن بعض الفقهاء قال: من الصبر أن لا تحدث بمصيبتك، ولا بوجعك، ولا تزكي نفسك، انتهى .

قلت: وقال صاحب القوت: وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا مقطوعا: الصبر في ثلاث، الصبر عن تزكية النفس، والصبر عن شكوى المصيبة، والصبر على الرضا بقضاء الله خيره وشره.

(ويروى عن بعض الصالحين أنه خرج يوما) إلى السوق فساوم شيئا من الطعام (و) كانت (في كمه صرة) فيها دراهم، فأراد أن يدفع لصاحب الطعام منها فضرب بيده عليها، (فافتقدها فإذا هي قد أخذت من كمه) أي: اختلست أو انحلت الصرة فوقعت الدراهم (فقال: بارك الله له فيها لعله أحوج إليها مني) ، فهذا من الصبر على المصيبة وعدم إظهار الجزع، وقد دفع مثل هذا لابن مسعود رضي الله عنه .

(وروي عن بعضهم أنه قال: مررت على سالم مولى أبي حذيفة) بن عتبة بن ربيعة بن عتبة بن عبد شمس، أحد السابقين الأولين، وكان من أكثرهم قرآنا (في القتلى) وكان معه لواء المهاجرين، روى ابن المبارك في كتاب الجهاد له أنه قال حينئذ: بئس حامل القرآن أنا، يعني: إن فررت، [ ص: 30 ] فقطعت يمينه، فأخذه بيساره فاعتنقه، إلى أن صرع، فقال لأصحابه : ما فعل أبو حذيفة؟ يعني مولاه، قيل: قتل، قال: فأضجعوني بجنبه (وبه رمق) أي: بقية الروح (فقلت: أسقيك ماء؟ فقال: جرني قليلا إلى) جهة (العدو واجعل الماء في الترس فإني صائم، فإن عشت إلى الليل شربته) ومات على حالته، ولم يشرب الماء، فأرسل عمر ميراثه إلى مولاته ثبيتة.

(فهكذا كان صبر سالكي طريق الآخرة على بلاء الله تعالى، فإن قلت: فبماذا تنال درجة الصبر في المصائب وليس الأمر إلى اختياره فهو مضطر شاء أم أبى، فإن كان المراد به أن لا تكون في نفسه كراهية المصيبة فذلك غير داخل في الاختيار، فاعلم أنه إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وشق الجيوب وضرب الخدود) والهلع والتسخط (والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة) أي: الحزن (وتغير العادة في الملبس والمفرش والمطعم، وهذه الأمور داخلة تحت اختياره فينبغي أن يجتنب جميعها) فإنه يفسد واجب الصبر، ويحبط عمله في أجر المصيبة، بل يأثم على فعله (و) عليه (أن يظهر الرضا بقضاء الله تعالى ويبقى مستمرا على عادته) في سائر أحواله، ومن فعل شيئا مما تقدم ذكره فلا ثواب له على مصيبة لأن نفس المصيبة لا ثواب عليها؛ لأن الله لا يثيب العباد إلا على ما يدخل تحت اختيارهم، وإنما الثواب على الصبر لا على المصيبة، بل هو آثم في تسخطه على قضاء ربه .

(و) عليه أن (يعتقد أن ذلك كان وديعة) عنده (فاسترجعت كما روي عن الرميصاء أم سليم رضي الله عنها) هي ابنة ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية، وهي أم أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتهرت بكنيتها، واختلف في اسمها على أقوال: سهلة أو روميلة أو رميثة أو مليكة أو الرميصاء أو العميصاء، وقيل: بل هما لقبان لها (أنها قالت: توفي ابن لي وزوجي أبو طلحة) زيد بن سهل (غائب) وكانت قد أسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب زوجها مالك بن النضر، وخرج إلى الشام، فمات بها فتزوجت بعده أبا طلحة، وكان صداقها الإسلام (فقمت فسجيته) أي: غطيته (في ناحية البيت فقدم أبو طلحة) من غيبته (فقمت فهيأت له إفطاره فجعل يأكل، فقال: كيف الصبي؟) وكان مريضا، (فقلت بأحسن حال بحمد الله، فإنه لم يكن منذ اشتكى خيرا منه الليلة، ثم تصنعت له أحسن ما كنت أتصنع قبل ذلك حتى أصاب مني حاجته) يعني خالطها، (فقلت: ألا تعجب من جيراننا؟ قال: ما لهم؟ قلت: أعيروا عارية فلما طلبت منهم واسترجعت جزعوا، فقال: بئس ما صنعوا، فقلت هذا ابنك كان عارية من الله تعالى، وأن الله تعالى قبضه إليه، فحمد الله واسترجع، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: اللهم بارك لهما في ليلتهما، قال الراوي: فلقد رأيت لهما بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرءوا القرآن) .

قال العراقي : رواه الطبراني في الكبير، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية، والقصة في الصحيحين من حديث أنس ، مع اختلاف، انتهى .

قلت: قصتها في الصحيح لما مات ولدها من أبي طلحة فقالت: لما دخل لا يذكر أحد ذلك لأبي طلحة قبل، فلما جاء وسأل عن ولده قالت: هو أسكن ما كان، فظن أنه عوفي، وقام وأكل ثم تزينت له وتطيبت، فنام معها وأصاب معها، فلما أصبحت قالت له: احتسب ولدك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: بارك الله لكما في ليلتكما، فجاءت بولد، وهو عبد الله بن أبي طلحة، فأنجب ورزق أولادا قرؤوا القرآن منهم عشرة كاملا.

(وروى جابر) بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم قال: رأيتني دخلت الجنة فإذا بالرميصاء امرأة أبي طلحة) .

قال العراقي : رواه النسائي في الكبرى بإسناد صحيح، انتهى. قلت: رواه من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر عن جابر، وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا حميد عن أنس قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدي فإذا أنا بالغميصاء بنت ملحان. ومن طريق حماد عن ثابت عن أنس نحوه لكن قال "الرميصاء" أوردهما في ترجمة أم سليم، وقد رواه أيضا أحمد ومسلم [ ص: 31 ] والنسائي وأبو يعلى وابن حبان كلهم من حديث أنس بالروايتين .

(وقد قيل) في قوله تعالى: فاصبر صبرا جميلا (الصبر الجميل هو أن لا يعرف صاحب المصيبة إذ يشبه غيره) ولفظ القشيري في الرسالة: هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو، (ولا يخرجه من حد الصابرين توجع القلب) ورقته (ولا فيضان العين بالدمع على الميت، فإن ذلك مقتضى البشرية، ولا يفارق الإنسان إلى الموت، ولذلك لما مات إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم) من مارية القبطية (فاضت عيناه) بالدموع (فقيل له أما نهيتنا عن هذا؟ فقال: إن هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) . قال العراقي متفق عليه من حديث أنس باختلاف .

(بل ذلك أيضا لا يخرج عن مقام الرضا، فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألم بسببه لا محالة، وقد تفيض عينه) بالدمع (إذا عظم ألمه، وسيأتي في كتاب الرضا إن شاء الله تعالى) . ومما لا يخرجه من حد الصابرين أيضا حكاية المصيبة للتداوي، وللعالم يتعلم منه الصبر والرضا، والصديق ليعرف الحال، لا على قصد الشكوى، لأن هذا مما تعم به البلوى، (وكتب ابن أبي نجيح) هكذا هو في النسخ أبو يسار المكي الثقفي مولاهم، وأبو نجيح كعظيم اسمه يسار روى له الجماعة، وفي نسخة القوت: ابن أبي يحيى، وهو عبد الله بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، لقيه سحبل، وقد ينسب إلى جده، روى له أبو داود (يعزي بعض الخلفاء فكتب: إن أحق من عرف حق الله تعالى فيما أخذ منه من عظم حق الله تعالى عنده بما أبقاه، واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك، والباقي بعدك هو المأجور فيك، واعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون فيه) والحمد لله رب العالمين، كذا نقله صاحب القوت .

(فإذا دفع الكراهة بالتفكير في نعمة الله تعالى عليه بالثواب نال درجة الصابرين، نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصيبات، وقد قيل: من كنوز البر كتمان المصائب والأوجاع والصدقة) ، ففي إظهار المصيبة والوجع والتحدث بها قدح في الصبر مفوت للأجر، وكتمانها رأس الصبر .

وقد شكا الأحنف بن قيس إلى عمه وجع ضرسه وكدره فقال: مه! لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة فما شكوتها لأحد. فكتمان هؤلاء الثلاثة كنز يدخر لصاحبه ليوم فاقته لا يطلع على ثوابه ملك، ولا يدفع إلى خصمائه، بل يعوضهم الله من باقي أعماله أو خزائن فضله ليبقى له كنزه، وذلك إذا كان صبرا منه ورضا عن ربه وحياء منه أن يشكو أو يستغني بأحد من خلقه، وهذا قد روي مرفوعا، وإنما تبع المصنف فيه صاحب القوت حيث لم يصرح برفعه فقد رواه أبو نعيم في الحلية، وكذا البيهقي من حديث زافر بن سليمان عن عبد العزيز بن رواد عن نافع عن ابن عمر رفعه، ثم قال أبو نعيم : غريب تفرد به زافر عن عبد العزيز، انتهى. وقال الذهبي: زافر بن سليمان، قال ابن عدي: لا يتابع على حديثه وعبد العزيز بن أبي رواد يروي عن نافع عن ابن عمر نسخة موضوعة، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وروى الطبراني من حديث أنس : ثلاث من كنوز البر: كتمان الشكوى، وكتمان المصيبة، وكتمان الصدقة.

ورواه الطبراني أيضا وابن عساكر من حديثه: ثلاث من كنوز البر: إخفاء الصدقة، وكتمان المصيبة، وكتمان الشكوى، يقول الله تعالى: إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر... الحديث. وقد تقدم قريبا، وبهذا ظهر أن الحديث له أصل وإيراد ابن الجوزي إياه في الموضوعات فيه نظر .




الخدمات العلمية