وأما النوع الثاني فهو ضروري أشد ضرورة أشد من الأول ، وهو اشتغاله بالمطعم والملبس وأسباب المعاش ، فإن تهيئة ذلك أيضا تحوج إلى شغل إن تولاه بنفسه وإن تولاه غيره فلا يخلو عن شغل قلب بمن يتولاه ولكن بعد كلها يسلم له أكثر الأوقات إن لم تهجم به ملمة أو واقعة وفي تلك الأوقات يصفو القلب ويتيسر له الفكر وينكشف فيه من أسرار الله تعالى في ملكوت السموات والأرض ما لا يقدر على عشر عشيره في زمان طويل لو كان مشغول القلب بالعلائق والانتهاء إلى هذا هو أقصى المقامات التي يمكن أن تنال بالاكتساب والجهد فأما مقادير ما ينكشف مبالغ ، ما يرد من لطف الله تعالى في الأحوال والأعمال . ، فذلك يجري مجرى الصيد ، وهو بحسب الرزق فقد يقل الجهد ويجل الصيد وقد يطول الجهد ويقل الحظ والمعول وراء هذا الاجتهاد على جذبة من جذبات الرحمن فإنها توازي أعمال الثقلين وليس ذلك باختيار العبد : نعم اختيار العبد في أن يتعرض لتلك الجذبة بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا فإن المجذوب إلى أسفل سافلين لا ينجذب إلى أعلى عليين ، وكل مهموم بالدنيا فهو منجذب إليها فقطع العلائق الجاذبة هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : قطع العلائق وذلك لأن تلك النفحات والجذبات لها أسباب سماوية إذ قال الله تعالى : إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها وفي السماء رزقكم وما توعدون وهذا من أعلى أنواع الرزق والأمور السماوية غائبة عنا ، فلا ندري متى ييسر الله تعالى أسباب الرزق فما علينا إلا تفريغ المحل والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أجله كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش ويبث البذر فيها وكل ذلك لا ينفعه إلا بمطر ، ولا يدري متى يقدر الله أسباب المطر إلا أنه يثق بفضل الله تعالى ورحمته أنه لا يخلي سنة عن مطر فكذلك فلما تجلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب عن حشيش الشهوات ، وبذر فيه بذر الإرادة والإخلاص ، وعرضه لمهاب رياح الرحمة .
وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع ، وعند ظهور الغيم ، فيقوى انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة ، وعند اجتماع الهمم وتساعد القلوب كما في يوم عرفة ، ويوم الجمعة ، وأيام رمضان فإن الهمم والأنفاس أسباب بحكم تقدير الله تعالى لاستدرار رحمته حتى تستدر بها : الأمطار في أوقات الاستسقاء وهي لاستدراك أمطار المكاشفات ولطائف المعارف من خزائن الملكوت أشد مناسبة منها لاستدرار قطرات الماء واستجرار الغيوم من أقطار الجبال والبحار ، بل الأحوال والمكاشفات حاضرة معك في قلبك ، وإنما أنت مشغول عنها بعلائقك وشهواتك ، فصار ذلك حجابا بينك وبينها ، فلا تحتاج إلا إلى أن تنكسر الشهوة ويرفع الحجاب فتشرق أنوار المعارف من باطن القلب وإظهار ماء الأرض بحفر القنى أسهل وأقرب من الاسترسال إليها من مكان بعيد منخفض عنها ولكونه حاضرا في القلب ، ومنسيا بالشغل عنه سمى الله تعالى جميع معارف الإيمان تذكرا فقال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى : وليتذكر أولو الألباب وقال تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .
فهذا هو وهو آخر درجات الصبر . علاج الصبر عن الوساوس والشواغل