الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان الدواء الذي به يستجلب حال الخوف .

اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر ، وشرحناه في كتاب الصبر والشكر ، هو كاف في هذا الغرض ؛ لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء ؛ لأن أول مقامات الدين اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى ، باليوم والآخر والجنة والنار وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة ، والرجاء والخوف يقويان على الصبر ، فإن الجنة قد حفت بالمكاره : فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء ، والنار قد حفت بالشهوات : فلا يصبر على قمعها : إلا بقوة الخوف ؛ ولذلك قال علي كرم الله وجهه : .

من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات : ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة ، والتجرد لذكر الله ، تعالى والفكر فيه على الدوام : ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها : مقام الرضا ، والتوكل ، وسائر المقامات فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف ، والرجاء ، ولا بعدهما مقام سوى الصبر ، وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهرا وباطنا ، ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس ، ومن ضرورة المحبة الرضا بفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل ، فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية ، ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي : فنقول : الخوف يحصل بطريقين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر ومثاله أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف ، وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها ، ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها .

فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه ، ويحتال في الهرب ، منها قام معه وغلب عليه الخوف ، ووافقه في الهرب ، فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية ، وسمها ، وخاصيتها ، وسطوة السبع ، وبطشه ، وقلة مبالاته .

وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ، ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه ، فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين : أحدهما الخوف من عذابه ، والثاني الخوف منه . فأما الخوف منه فهو خوف العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة ، والخوف ، والحذر المطلعين على سر قوله تعالى : ويحذركم الله نفسه ، وقوله : عز وجل اتقوا الله حق تقاته ، وأما الأول فهو خوف عموم الخلق : وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار ، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان ، وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة ، وأصناف العذاب في الآخرة ، وتزول أيضا بالنظر إلى الخائفين ، ومجالستهم ، ومشاهدة أحوالهم فإن فاتت المشاهدة فالسماع : لا يخلو عن تأثير .

التالي السابق


(بيان الدواء الذي به يستجلب حال الخوف)

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن ما ذكرناه في دواء الصبر، وشرحناه في كتاب الصبر والشكر، هو كاف في هذا الغرض؛ لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء؛ لأن أول مقامات الدين) هو (اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر) والجنة، والنار، وله درجات ومراتب، قد تقدم ذكرها في كتاب العلم .

(وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار و) يثير (الرجاء للجنة، والرجاء والخوف يقويان على الصبر، فإن الجنة قد حفت بالمكاره) أي: شدائد الأمور مما تكرهها النفوس (فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء، والنار قد حفت بالشهوات) أي: الملاذ النفسية من كل ما تميل إليه النفوس (فلا يصبر على قمعها) أي: دفعها ومنعها (إلا بقوة الخوف؛ ولذلك قال علي كرم الله وجهه: من اشتاق إلى الجنة سلا) ، وفي لفظ: تبتل [ ص: 222 ] (عن الشهوات) أي: انقطع عنها (ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات) كذا في القوت. وقد روي مرفوعا من طريقه بلفظ: من اشتاق إلى الجنة سابق إلى الخيرات، ومن أشفق من النار لها عن الشهوات، ومن ترقب الموت صبر عن اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. رواه البيهقي وتمام وابن عساكر وابن النجار.

(ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة، والتجرد لذكر الله، والفكر فيه على الدوام) أي: كل من الذكر والفكر من غير انقطاع، بل يكون بإزائهما، فإذا سئم من الذكر اشتغل بالمراقبة والتفكير، ثم إذا أراد أن ينفصل عنه فليعد إلى الذكر حتى يثبت له الدوام، ولا يتخلل بينهما الشيطان. (ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس) بالله تعالى، (ودوام الفكر) يؤدي (إلى كمال المعرفة) بالله تعالى، (ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة) وهو أعلى المقامات، (ويتبعها) أي: المحبة (مقام الرضا، والتوكل، وسائر المقامات) الآتي ذكرها. (فهذا هو الترتيب في سلوك منازل) السائرين (في الدين) وفي عروج مقامات الطائرين إليه (فليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف، والرجاء، وليس بعدهما مقام سوى الصبر، وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهرا وباطنا، ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق) وأذن له بالدخول فيه (إلا الهداية والمعرفة) لقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا .

(ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس، ومن ضرورة المحبة الرضا بفعل المحبوب) كيف كان (والثقة بعنايته وهو) بعينه مقام (التوكل، فإذا فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية، ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي) أي: إجمالي (فنقول: الخوف يحصل بطريقتين مختلفتين أحدهما أعلى من الآخر) وتقريب ذلك إلى الأذهان إنما يكون بمثال يضرب له في الظاهر فيقيس الغائب على الشاهد (ومثاله أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف، وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها، ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف) في الحال (من الحية) أو من السبع (وهرب منها، فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه، ويحتال في الهرب، قام معه وغلب عليه الخوف، ووافقه في الهرب، فخوف الأب عن بصيرة) وعقل (ومعرفة بصفة الحية، وسمها، وخاصيتها، وسطوة السبع، وبطشه، وقلة مبالاته، وأما خوف الابن فإيمان بمجرد التقليد) والتبعية (لأنه يحسن الظن بأبيه، ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه، فيعلم أن السبع مخوف) وأن الحية مخوفة (ولا يعرف وجهه) لجهله .

(وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين: أحدهما الخوف من عذابه، والثاني الخوف منه في ذاته. فأما الخوف منه) تعالى في ذاته (فهو خوف العلماء) بالله، (وأرباب القلوب) والبصائر النافذة (العارفين من صفاته) تعالى (ما يقتضي الهيبة، والخوف، والحذر) وهي صفات الربوبية (المطلعين على سر قوله تعالى: ويحذركم الله نفسه ، وقوله تعالى: اتقوا الله حق تقاته ، فأما الأول فهو خوف عموم الخلق) أي: الخوف من عذابه (وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزئين على الطاعة والمعصية) وقد يقوى ذلك وقد يضعف (وضعفه بسبب الغفلة وبسبب ضعف الإيمان، وإنما نزول الغفلة بالوعظ والتذكير وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة، وأصناف العذاب في الآخرة، وتزول أيضا بالنظر إلى الخائفين، ومجالستهم، ومشاهدة أحوالهم) في [ ص: 223 ] حركاتهم وسكناتهم (فإن فاتت المشاهدة فالسماع) أي: التلقف من الأفواه (لا يخلو عن تأثير) .




الخدمات العلمية