الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار فلها أيضا سببان : .

أحدهما : كثرة المعاصي وإن قوي الإيمان ، والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي وذلك ؛ لأن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة .

وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته ، فإن كان ميله الأكثر إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عند ، الموت فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من الشهوات الدنيا ومعصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويصير محجوبا عن الله تعالى فالذي لا يقارف الذنب إلا الفينة بعد الفينة فهو أبعد عن هذا الخطر ، والذي لم يقارف ذنبا أصلا فهو بعيد جدا عن هذا الخطر ، والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جدا ، ونعرف هذا بمثال وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى إنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهدته في اليقظة وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه ؛ لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبه النوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقتضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب ، وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف فطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضا مرجح وكذلك تخالف أيضا منامات الصالحين منامات الفساق فتكون غلبة الإلف سببا ؛ لأن تتمثل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه فربما تقبض عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته وإن كان أصل الإيمان باقيا بحيث يرجى له الخلاص منها وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما بالمقارنة بأن يكون قد ورد على الحس منه

إما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلا آخر وإما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحا ويتأمل في شدة التفاوت بينهما وإما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين مثل أن ينتقل من شيء ثان ومنه إلى شيء ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة فكذلك لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب من هذا الجنس ، وكذلك عند سكرات الموت ، فعلى هذا والعلم عند الله من كانت الخياطة أكثر أشغاله فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل إصبعه التي لها عادة بالكشتبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى تفصيله ثم يمد يده إلى المقراض

ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامه نفسه عنها ، وفي قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول : خمسة ستة أربعة ، فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت .

وقال بعض العارفين من السلف : العرش جوهرة تتلألأ نورا فلا يكون العبد على حال إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف وما ذكره صحيح وسبب الرؤيا الصادقة قريب من ذلك ، فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهي جزء من أجزاء النبوة فإذا رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار دخولا كليا ، وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة ؛ لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والمواظبة عليه مما يؤثر فيه ولكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط ، وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه . : قال حكيت لشيخي أبي القاسم الكركاني مناما لي وقلت : رأيت قلت : لي كذا فقلت : لم ؟ ذاك قال : فهجرني شهرا ولم يكلمني ، وقال : لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم .وهو كما قال ، إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه ، فهذا هو القدر الذي نسمح بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة ، وما وراء ذلك فهو داخل في علم المكاشفة وقد ظهر لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن ترى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزجى جميع العمر في طاعة الله من غير معصية ، فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك ، وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح ، وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة جدا .ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك ولكني أعجب ممن نجا كيف نجا ؟ ولذلك قال حامد اللفاف إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا : كيف نجا هذا من دنيا فسد فيها خيارنا .

وكان الثوري يوما يبكي فقيل له : علام تبكي ؟ فقال : بكينا على الذنوب زمانا .

فالآن نبكي على الإسلام .

وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطرابا من السفينة وأمواج الخواطر أعظم التطاما من أمواج البحر ، وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب .

التالي السابق


(وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية الخلود في النار فلها أيضا سببان: أحدهما: كثرة المعاصي وإن قوى الإيمان، والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي وذلك; لأن مفارقة المعاصي) أي: ملابستها (سبب غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته، فإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عند موته، فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من شهوات الدنيا ومعصية من المعاصي فتقيد بها قلبه ويصير محجوبا عن الله تعالى) لاشتغاله بما تقيد به قلبه .

(والذي لا يقارف الذنب إلا الفيئة بعد الفيئة) أي: المرة بعد المرة (فهو أبعد عن هذا الخطر، والذي لم يقارف ذنبا أصلا فهو بعيد جدا عن هذا الخطر، والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جدا، ويعرف هذا بمثال وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى أنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهداته) أو يقاربها (في اليقظة وحتى إن المراهق) وهو من قارب الاحتلام (الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع) ؛ لأنه لم يعهده قبل ذلك .

(ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه; لأنه إنما يظهر في حالة النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبه النوم) ولذلك قيل إنه أخوه (ولكنه فوقه) بمراتب (ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقتضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب، وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف وطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضا مرجح ولذلك تخالف منامات الصالحين منامات الفساق فيكون غلبة الإلف سببا; لأن يتمثل في قلبه صورة فاحشة وتميل إليها نفسه فربما تفيض عليها روحه فيكون ذلك سوء الخاتمة وإن كان أصل الإيمان باقيا بحيث يرجى له الخلاص منها) بسببه .

(وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى يعرف بعضها) بتعريف الله إياه (ولا يعرف بعضها كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة أو [ ص: 240 ] بالمضادة أو بالمقاربة بأن يكون قد ورد على الحس معه إما بالمشابهة فبات ينظر إلى جميل فيتذكر جميلا آخر) سواه وهو مشابه له في جماله .

(وإما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحا ويتأمل في شدة التفاوت بينهما) في الجمال والقبح (وإما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس) كان (قد رآه قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان) بانتقال الخاطر إليه (وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وبواسطتين) وأكثر (مثل أن ينتقل من شيء إلى شيء ثان ومنه إلى ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة) ظاهرة توجب انتقال الخاطر إليه (ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة) إما قريبة أو بعيدة .

(فكذلك لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب من هذا الجنس، وكذلك عند سكرات الموت، فإن الخواطر تنتقل فيها في أمور بعضها مرتبط بالبعض بأسباب مختلفة، ومن أراد أن يكف خاطره من الانتقالات إلى المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامه نفسه عنها، وفي قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختبار) والمراد بطول العمر هنا معظمه وهو أيام السلوك حتى يتمرن على الفطام والقمع وإلا فإن شغل عمره كله فيه فمتى يتفرغ لمعرفة الله تعالى؟

(ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه) كما في الخبر (وكذلك نقل عن بقال) وهو من يبيع الفواكه اليابسة وغيرها فقيل: (إنه كان يلقن عند الموت كلمة الشهادة فيقول: خمسة ستة أربعة، فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه به قبل الموت) فغلب على لسانه ولم يوفق للشهادتين (وقال بعض العارفين من السلف: إن العرش جوهرة تتلألأ نورا فلا يكون العبد على حال) من أحواله (إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف) نقله صاحب القوت، (وما ذكره صحيح وسبب الرؤيا الصادقة قريب من ذلك، فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهو جزء من أجزاء النبوة) كما ورد ذلك في الخبر (فإذا يرجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله تعالى والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختبار دخولا كليا، وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فلهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة; لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك) ولم يمكنه (وإن كان كثرة الصلاح والمواظبة عليه بما يؤثر فيه ولكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط، وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلبت [ ص: 241 ] في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي) الفضل بن محمد بن علي (الفارمذي) فاء وألف وراء وميم وذال معجمة نسبة إلى فارمذ قرية بطوس، وهو لسان خراسان وشيخها وصاحب الطريقة والحقيقة بها حسن الوعظ، روى عن محمد بن عبد الله بن باكويه الشيرازي وابن مسرور وعنه عبد الغافر الفارسي وأبو الخير جامع الشفاء وتوفي بطوس سنة سبع وسبعين وأربعمائة وأولاده أبو المحاسن وعلي وأبو الفضل محمد وأبو بكر عبد الواحد كلهم علماء فضلاء زهاد (- رحمه الله تعالى - يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه. فقال: حكيت لشيخي أبي القاسم) عبد الرحمن بن علي (الكركاني) الطوسي، وكركان تعريب جرجان، قال ياقوت في المشترك: جميع العرب لا يقولونها إلا بالكاف وهي بين طبرستان وخراسان وقيل: من خراسان وقيل: من طبرستان والله أعلم. اهـ .

وكان أبو علي الفارمذي قد صاهر أبا القاسم الكركاني، هذا والمصنف - رحمه الله تعالى - قد أخذ عن كل من الفارمذي ويوسف النساج، وهما جميعا عن أبي القاسم الكركاني هذا وقد دفن الكركاني والنساج كلاهما في قبر واحد بطوس وكل هؤلاء الثلاثة من كبار مشايخ السلسلة النقشبندية، وللكركاني في الأخذ طريقان: أحدهما: عن أبي عثمان سعيد بن سلام المغربي عن أبي الحسن علي بن أحمد الكاتب المصري عن أبي علي الروذبادي عن الجنيد بسنده، والثاني: وعليه المدار في سند السلسلة أنه أخذ عن روحانية أبي يزيد البسطامي عن روحانية جعفر الصادق بسنده (مناما لي وقلت: رأيتك كأنك قلت: لي كذا فقلت: لم ذلك؟ قال: فهجرني شهرا ولم يكلمني، وقال: لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقول لك وإلا ما جرى ذلك على لسانك في النوم .

وهو كما قال، إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه، فهذا هو القدر الذي نسمح بذكره في علم المعاملة من أسرار الخاتمة، وما وراء ذلك فهو داخل في علم المكاشفة) ولا يليق ذكره هنا (وقد ظهر لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن يرى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزج) أي: تسويق (جميع العمر في طاعة الله - عز وجل - من غير معصية، فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف كما غلب على العارفين) من عباده (حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم حزنك وقلقك) وانزعاجك (كما سنحكيه) فيما بعد (من أحوال الأنبياء) - عليهم السلام - (والأولياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك، وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم تسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح، وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكل جدا .

ولذلك كان مطرف بن عبد الله) بن الشخير العامري البصري التابعي - رحمه الله تعالى - (يقول إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك ولكن أعجب ممن نجا كيف نجا؟) نقله صاحب القوت، وهو في الحلية في ترجمة يحيى بن أبي كثير أن سليمان - عليه السلام - قال لابنه لا تعجب ممن هلك كيف هلك ولكن اعجب ممن نجا كيف نجا؟ (ولذلك قال حامد اللفاف) له ذكر في الحلية في ترجمة حاتم الأصم (إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا: كيف نجا من دنيا فسد فيها خيارنا) يشيرون بذلك إلى إبليس وهاروت وماروت .

(وكان) سفيان (الثوري) - رحمه الله تعالى - (يوما يبكي فقيل له: علام تبكي؟ فقال: بكينا على الذنوب زمانا فالآن نبكي على الإسلام) أخرجه أبو نعيم في الحلية (وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر) أي: وسطه (وهجمت عليه الرياح العاصفة) [ ص: 242 ] المختلفة (واضطربت الأمواج من سائر) النواحي (كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطرابا من السفينة وأمواج الخواطر أعظم التطاما من أمواج البحر، وإنما الخوف عند الموت من خاطر سوء يخطر فقط وهو الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق من الكتاب) تقدم الكلام عليه قريبا .




الخدمات العلمية