الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أي الناس خير ؟ فقالوا موسر من المال يعطي حق الله من نفسه وماله فقال نعم الرجل هذا ، وليس به قالوا : فمن خير الناس يا رسول الله ، قال : فقير يعطي جهده وقال صلى الله عليه وسلم لبلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال وفي الخبر المشهور : يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام وفي حديث آخر : بأربعين خريفا أي أربعين سنة فيكون المراد به تقدير تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص والتقدير بخمسمائة عام تقدير تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب ، وما ذكرناه من اختلاف درجات الفقر ، يعرفك بالضرورة تفاوتا بين الفقراء في درجاتهم ، وكان الفقير الحريص على درجة من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد ، إذ هذه نسبة الأربعين إلى خمسمائة .ولا تظنن أن تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجري على لسانه جزافا وبالاتفاق بل لا يستنطق صلى الله عليه وسلم إلا بحقيقة الحق فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة فإنه تقدير تحقيق لا محالة لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين فأما بالتحقيق فلا إذ يعلم أن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره وهو يختص بأنواع من الخواص : أحدها : أن يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله وصفاته والملائكة والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره بل مخالفا له بكثرة المعلومات وبزيادة اليقين والتحقيق والكشف .

والثاني : أن له في نفسه صفة بها تتم له الأفعال الخارقة للعادات كما أن لنا صفة بها تتم الحركات المقرونة بإرادتنا ، وباختيارنا وهي القدرة وإن كانت القدرة والمقدور جميعا من فعل الله تعالى .

والثالث : أن له صفة بها يبصر الملائكة ويشاهدهم كما أن للبصير صفة بها يفارق الأعمى حتى يدرك بها المبصرات .

والرابع : أن له صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب ، إما في اليقظة أو في المنام إذ بها يطالع اللوح المحفوظ فيرى ما فيه من الغيب .فهذه كمالات وصفات يعلم ثبوتها للأنبياء ويعلم انقسام كل واحد منها إلى أقسام وربما يمكننا أن نقسمها إلى أربعين وإلى خمسين وإلى ستين ، ويمكننا أيضا أن نتكلف تقسيمها إلى ستة وأربعين بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءا واحدا من جملتها ولكن تعيين طريق واحد من طرق التقسيمات الممكنة لا يمكن إلا بظن وتخمين فلا ندري تحقيقا أنه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا ، وإنما المعلوم مجامع الصفات التي بها تتم النبوة وأصل انقسامها ، وذلك لا يرشدنا إلى معرفة علة التقدير ، فكذلك نعلم أن الفقراء لهم درجات كما سبق فأما لم كان هذا الفقير الحريص مثلا على نصف سدس درجة الفقير الزاهد حتى لم يبق له التقدم بأكثر من أربعين سنة إلى الجنة واقتضى ذلك التقدم بخمسمائة عام فليس في قوة البشر غير الأنبياء الوقوف على ذلك إلا بنوع من التخمين ولا وثوق به والغرض التنبيه على منهاج التقدير في أمثال هذه الأمور فإن الضعيف الإيمان قد يظن أن ذلك يجري من رسول الله : صلى الله عليه وسلم : على سبيل الاتفاق ، وحاشا منصب النبوة عن ذلك ولنرجع إلى نقل الأخبار ، فقد قال : صلى الله عليه وسلم : أيضا : خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجعا في الجنة ضعفاؤها وقال : صلى الله عليه وسلم إن لي حرفتين اثنتين فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني الفقر والجهاد وروي أن جبريل عليه السلام : نزل على رسول الله : صلى الله عليه وسلم : فقال : يا محمد ، إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أتحب : أن أجعل هذه الجبال ذهبا .

وتكون معك أينما كنت ، فأطرق رسول الله : صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا جبريل ، إن الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ، فقال له جبريل : يا محمد ، ثبتك الله بالقول الثابت
.

وروي أن المسيح صلى الله عليه وسلم مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة فأيقظه وقال : يا نائم قم ، فاذكر الله تعالى ، فقال : ما تريد مني إني قد تركت الدنيا لأهلها فقال له قم إذا : يا حبيبي .

ومر موسى صلى الله عليه وسلم برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته في التراب ، وهو متزر بعباءة فقال يا رب عبدك هذا في الدنيا ضائع فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى ، أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها .

وعن أبي رافع أنه قال ورد على رسول الله : صلى الله عليه وسلم : ضيف فلم يجد عنده ما يصلحه فأرسلني إلى رجل من يهود خيبر وقال : قل له : يقول لك محمد أسلفني أو بعني دقيقا إلى هلال رجب قال ، فأتيته فقال لا والله إلا برهن فأخبرت رسول الله : صلى الله عليه وسلم بذلك : فقال : أما والله إني لأمين في أهل السماء أمين في أهل الأرض ، ولو باعني أو أسلفني لأديت إليه ، اذهب بدرعي هذا إليه فارهنه فلما خرجت نزلت هذه الآية : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا الآية وهذه الآية تعزية لرسول الله : صلى الله عليه وسلم : عن الدنيا وقال : صلى الله عليه وسلم الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس وقال : صلى الله عليه وسلم من أصبح منكم معافى في جسمه ، آمنا في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها .

وقال كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى عليه السلام : يا موسى ، إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين .

وقال عطاء الخراساني مر نبي من الأنبياء بساحل فإذا هو برجل يصطاد حيتانا ، فقال : بسم الله وألقى الشبكة فلم يخرج فيها شيء ثم مر بآخر فقال : باسم الشيطان وألقى شبكته فخرج فيها من الحيتان ما كان يتقاعس من كثرتها .

فقال النبي صلى الله : عليه وسلم يا رب ما هذا ؟ وقد علمت أن كل ذلك بيدك ، فقال الله تعالى للملائكة اكشفوا لعبدي عن منزلتيهما فلما رأى ما أعد الله تعالى لهذا من الكرامة ولذاك ، من الهوان قال : رضيت يا رب .

وقال نبينا : صلى الله عليه وسلم : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء ، وفي لفظ آخر : فقلت : أين الأغنياء ؟ حبسهم الجد وفي حديث آخر فرأيت أكثر أهل النار النساء فقلت : ما شأنهن فقيل : شغلهن الأحمران الذهب والزعفران وقال : صلى الله عليه وسلم : تحفة المؤمن في الدنيا الفقر وفي الخبر : آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود عليهما السلام : لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه وفي حديث آخر رأيته يدخل الجنة زحفا .

وقال المسيح صلى الله عليه وسلم بشدة يدخل الغني الجنة .

وفي خبر آخر عن أهل البيت رضي الله عنهم أنه : صلى الله عليه وسلم : قال : إذا أحب الله عبدا ابتلاه ، فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه ، قيل : وما اقتناه ؟ قال : لم يترك له أهلا ولا مالا .

وفي الخبر : إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلا ، فقل : ذنب عجلت عقوبته .

وقال موسى عليه السلام : يا رب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك فقال : كل فقير فقير فيمكن أن يكون الثاني للتوكيد ويمكن أن يراد به الشديد الضر .

وقال المسيح صلوات الله عليه وسلامه إني لأحب المسكنة ، وأبغض النعماء وكان أحب الأسامي إليه صلوات الله عليه أن يقال له : يا مسكين ولما قالت سادات العرب وأغنياؤهم للنبي : صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا يوما ولهم يوما يجيئون إليك ولا نجيء ، ونجيء إليك ولا يجيئون يعنون بذلك الفقراء مثل بلال ، وسلمان ، وصهيب ، وأبي ذر ، وخباب بن الأرت ، وعمار بن ياسر وأبي هريرة ، وأصحاب الصفة من الفقراء : رضي الله عنهم أجمعين أجابهم النبي : صلى الله عليه وسلم : إلى ذلك ، وذلك لأنهم شكوا إليه التأذي برائحتهم ، وكان لباس القوم الصوف في شدة الحر فإذا عرقوا فاحت الروائح من ثيابهم ، فاشتد ذلك على الأغنياء منهم الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، وعباس بن مرداس السلمي وغيرهم ، فأجابهم رسول الله : صلى الله عليه وسلم : أن لا يجمعهم وإياهم مجلس واحد ، فنزل عليه قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم يعني : الفقراء تريد زينة الحياة الدنيا يعني : الأغنياء ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا يعني : الأغنياء إلى قوله تعالى ، وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الآية .

واستأذن ابن أم مكتوم على النبي : صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من أشراف قريش فشق ذلك على النبي : صلى الله عليه وسلم : فأنزل الله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى يعني ابن مكتوم أما من استغنى فأنت له تصدى يعني هذا الشريف .

وعن النبي : صلى الله عليه وسلم : أنه قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالى إليه كما يعتذر الرجل للرجل في الدنيا فيقول : وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ، ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة ، اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف فمن أطعمك في أو كساك في يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك ، والناس يومئذ قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به ، فيأخذ بيده ، ويدخله الجنة .

وقال عليه السلام : أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة ، قالوا : يا رسول الله ، وما دولتهم ؟ قال : إذا كان يوم القيامة قيل لهم : انظروا من أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوبا فخذوا بيده ، ثم امضوا به إلى الجنة وقال : صلى الله عليه وسلم : دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت في أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم ونظرت في أسفلها فإذا فيه من الأغنياء والنساء قليل فقلت : يا رب ما شأنهم ؟ قال : أما النساء فأضر بهن الأحمران الذهب والحرير وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب ، وتفقدت أصحابي فلم أر عبد الرحمن بن عوف ثم جاءني بعد ذلك وهو يبكي ، فقلت : ما خلفك عني ؟ قال : يا رسول الله ، والله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات وظننت أني لا أراك فقلت : ولم ؟ قال : كنت أحاسب بمالي فانظر إلى هذا ، وعبد الرحمن صاحب السابقة العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة وهو من الأغنياء الذين قال فيهم رسول الله : صلى الله عليه وسلم : إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ومع هذا فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد .

ودخل رسول الله : صلى الله عليه وسلم : على رجل فقير فلم ير له شيئا ، فقال : لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم .

وقال : صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بملوك أهل الجنة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره .

وقال عمران بن حصين كانت لي من رسول الله : صلى الله عليه وسلم : منزلة وجاء فقال : يا عمران ، إن لك عندنا منزلة وجاها فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم : قلت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة فقرع الباب ، وقال : السلام عليكم أأدخل؟ فقالت : ادخل يا رسول الله ، قال : أنا ومن معي ؟ قالت : ومن معك يا رسول الله ؟ قال : عمران فقالت ، فاطمة : والذي بعثك بالحق نبيا ما علي إلا عباءة قال : اصنعي بها هكذا وهكذا ، وأشار بيده فقالت : هذا جسدي قد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال : شدي على رأسك ، ثم أذنت له ، فدخل فقال : السلام عليكم يا ابنتاه ، كيف أصبحت ؟ قالت : أصبحت والله وجعة وزادني وجعا على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بي الجوع ، فبكى رسول الله : صلى الله عليه وسلم : وقال : لا تجزعي يا ابنتاه فوالله ، ما ذقت طعاما منذ ثلاث ، وإني لأكرم على الله منك ، ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ، ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها : أبشري فوالله ، إنك لسيدة نساء أهل الجنة ، قالت : فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ؟ قال : آسية سيدة نساء عالمها ، ومريم سيدة نساء عالمها وأنت ، سيدة نساء ، عالمك ، إنكن في بيوت من قصب ، لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب ، ثم قال لها : اقنعي بابن عمك فوالله ، لقد زوجتك سيدا في الدنيا سيدا في الآخرة .

وروي عن علي كرم الله وجهه : أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم : قال : إذا أبغض الناس فقراءهم ، وأظهروا عمارة الدنيا ، وتكالبوا على جمع الدراهم ، رماهم الله بأربع خصال : بالقحط من الزمان ، والجور من السلطان ، والخيانة من ولاة الأحكام ، والشوكة من الأعداء .

وأما الآثار فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه ذو الدرهمين أشد حبسا أو قال أشد حسابا من ذي الدرهم .

وأرسل عمر رضي الله عنه : إلى سعيد بن عامر بألف دينار فجاء حزينا كئيبا فقالت امرأته أحدث أمر ؟ قال : أشد من ذلك ثم قال أريني درعك الخلق فشقه وجعله صررا وفرقه ثم قام يصلي ويبكي إلى الغداة ، ثم قال : سمعت رسول الله : صلى الله عليه وسلم : يقول : يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج .

وقال أبو هريرة ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب : رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه ، ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين ، ورجل دعا بشرابه فلا يقال له : أيها تريد .

؟ وقيل : جاء فقير إلى مجلس الثوري رحمه الله فقال له تخط لو كنت غنيا لما قربتك وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء وقال المؤمل ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري ، ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري رحمه الله .

وقال بعض الحكماء : مسكين ابن آدم ، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعا ، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعا ، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعا .

وقال ابن عباس ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر .

وقال لقمان عليه السلام لابنه: لا تحقرن أحدا لخلقان ثيابه فإن ربك وربه واحد ، وقال يحيى بن معاذ: حبك الفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين .

التالي السابق


(وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى) منها (ما روى عبد الله بن عمر) بن الخطاب (- رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أي الناس خير؟ قالوا) رجل (موسر) أي: صاحب مال (يعطي حق الله في نفسه) أي: بأداء ما افترض الله عليه من الطاعات (وماله) أي: بإخراج ما افترض عليه من الزكاة .

(قال) - صلى الله عليه وسلم - : (نعم الرجل هذا، وليس به) أي: ليس بالذي أريده، (قالوا: فمن خير الناس يا رسول الله، قال: فقير يعطي جهده) أي: طاقته، قال صاحب القوت: رويناه عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وقال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف مقتصرا على المرفوع منه دون سؤاله لأصحابه وسؤالهم له. انتهى .

قلت: هكذا رواه أبو نعيم في الحلية ومن طريقه الديلمي ولفظهما: مؤمن فقير يعطي جهده، (وقال - صلى الله عليه وسلم - لبلال) - رضي الله عنه -: (الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا) قال العراقي: رواه الحاكم في كتاب علامات أهل التحقيق من حديث بلال، ورواه الطبراني من حديث أبي سعيد بلفظ: مت فقيرا ولا تمت غنيا. اهـ .

قلت: ظاهره أنه عند الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وليس كذلك، بل هو من رواية أبي سعيد الخدري عن بلال، هكذا رواه الطبراني والحاكم جميعا وعندهما زيادة، قال: وكيف لي يا رسول الله بذلك؟ قال: إذا رزقت فلا تخبئ لغد، وإذا سئلت فلا تمنع، قال: وكيف لي بذلك؟ قال: هو ذاك وإلا فالنار. صححه الحاكم وتعقب. وروى الخطيب من حديث عائشة: يا بلال، رددت السائل وهذا التمر عندك إن أردت أن تلقى الله - عز وجل - وهو عنك راض فلا تخبئ شيئا رزقته ولا تمنع شيئا سئلته.

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال) رواه ابن ماجه من حديث عمران بن حصين، وقد تقدم (وفي الخبر المشهور: يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقد تقدم (وفي الحديث آخر: بأربعين خريفا) أي: أربعين سنة رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو إلا أنه قال: فقراء المهاجرين، ورواه الترمذي من حديث جابر وأنس، وقد تقدم في ذم الدنيا .

(فيكون المراد به) أي: بأربعين خريفا (تقدير تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص و) يكون (التقدير بخمسمائة عام تقدير تقدم الفقير الزاهد على الغني الراغب، وما ذكرناه) آنفا (من اختلاف درجات الفقر، يعرفك بالضرورة تفاوتا بين الفقراء في درجاتهم، وكان الفقير الحريص على درجتين من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد، إذ هذه نسبة الأربعين إلى خمسمائة .

ولا تظنن أن تقدير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجري على لسانه جزافا) أي: مجانا (وبالاتفاق) من غير قصد نكتة أو فائدة (بل لا يستنطق - صلى الله عليه وسلم - إلا بحقيقة الحق فإنه) - صلى الله عليه وسلم - (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهذا) بعينه (كقوله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) .

قال العراقي: رواه البخاري من حديث أبي سعيد، ورواه هو ومسلم من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت وأنس بلفظ: رؤيا المؤمن جزء، الحديث، وقد تقدم. اهـ .

قلت: قوله: جزء من [ ص: 274 ] ستة وأربعين جزءا. هي الرواية المشهورة كما قاله النووي، وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة أيضا من خمسة وأربعين، ورواه ابن ماجه بلفظ: سبعين، وفي حديث ابن عمر: جزء من سبعين جزءا. وهو في صحيح مسلم وغيره، وقال ابن عبد البر: لا يختلف في صحته، قال: وروي عن ابن عباس مرفوعا مثله، وذكر ابن عبد البر أيضا من حديث ابن عمر: ومن تسعة وأربعين جزءا. وروي من حديث عبادة: من أربعة وأربعين. وروى ابن عباس عن العباس بن عبد المطلب مرفوعا: من خمسين جزءا، وروى ابن عبد البر من حديث أنس: من ستة وعشرين. ومن حديث أبي رزين العقيلي: من أربعين جزءا. فهذه ثمان روايات، أقلها: ستة وعشرين، وأكثرها: سبعين، وأصحها وأشهرها: ستة وأربعين، وهذه الروايات كلها مشهورة، فلا سبيل إلى أخذ أحدها وطرح الباقي .

(فإنه تقدير تحقيق لا محالة ولكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين) وظن (فأما بالتحقيق فلا) إذ ليس في وسعه ذلك (إذ يعلم أن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره) فلا يشاركه فيه (وهو يختص بأنواع من الخواص: أحدها: أنه يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله) تعالى (وصفاته) وأفعاله (والملائكة والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره بل مخالفا له بكثرة المعلومات وبزيادة اليقين والتحقيق والكشف .

والثاني: أنه له في نفسه صفة بها تتم له الأفعال الخارقة للعادات كما أن لنا صفة بها تتم الحركات المقرونة بإرادتنا واختيارنا، وهي القدرة وإن كانت القدرة والمقدور جميعا من فعل الله تعالى .

والثالث: أن له صفتها يبصر الملائكة ويشاهدهم) عيانا في صورهم (كما أن للبصير صفة بها يفارق الأعمى حيث يدرك بها المبصرات .

والرابع: أن له صفة بها يدرك ما يكون في الغيب، إما في اليقظة أو في المنام) أو فيما بينهما (إذ بها يطالع اللوح المحفوظ فيرى ما فيه من الغيب .

فهذه كمالات وصفات يعلم ثبوتها الأنبياء ويعلم انقسام كل واحد منها إلى أقسام) كثيرة (وربما يمكننا أن نقسمها إلى أربعين وإلى خمسين وإلى ستين، ويمكننا أيضا أن نتكلف تقسيمها إلى ستة وأربعين بحيث تقع الرؤيا الصحيحة) وفي نسخة الصادقة (واحدة من جملتها) بل وأكثر من الستة والأربعين وذلك; لأن المراد من هذا الحديث أن المنام الصادق خصلة من خصال النبوة كما في الحديث الآخر: التؤدة والاقتصاد وحسن السمت جزء من ستة وعشرين جزءا من النبوة، أي: النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ستة وعشرون هذه الثلاثة الأشياء جزء واحد منها وعلى مقتضى هذه التجزئة كل جزء من الستة والعشرين ثلاثة أجزاء في نفسه، فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين صح لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون، ويصح أن يسمى كل اثنين من الثمانية والسبعين جزءا خصلة فيكون جميعها بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين جزءا، ويصح أن يسمى كل أربعة منها جزءا، فيكون مجموع أجزائها بهذا الاعتبار تسعة عشر جزءا ونصف جزء، فتختلف أسماء العدد المجزأ بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء وعلى هذا يكون اختلاف أعداد أجزاء النبوة في أحاديث الرؤيا المذكورة اضطرابا، وإنما هو اختلاف مقادير تلك الأجزاء المذكورة .

(ولكن تعيين طريق واحد من طرق التقسيمات الممكنة لا يكون إلا بظن وتخمين ولا ندري تحقيقا أنه الذي أراده - صلى الله عليه وسلم - أم لا، وإنما المعلوم) في الجملة (مجامع الصفات التي بها تتم النبوة وأصل انقسامها، وذلك لا يرشدنا إلى معرفة علة التقدير، فكذلك نعلم أن الفقراء لهم درجات كما سبق) قريبا (فأما لم كان هذا الفقير الحريص مثلا على نصف سدس درجة الفقير الزاهد حتى لم يقتض له التقدم بأكثر من أربعين سنة إلى الجنة واقتضى ذلك التقدم بخمسمائة عام فليس في قوة أحد غير الأنبياء) - عليهم السلام - (الوقوف على ذلك) بحقيقته (إلا بنوع من التخمين ولا وثوق به والغرض) كله من سياق هذا الكلام (التنبيه على [ ص: 275 ] منهاج التقدير في أمثال هذه الأمور) الواردة في صحاح الأخبار (فإن الضعيف الإيمان قد يظن أن ذلك يجري من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاتفاق، وحاشا منصب النبوة من ذلك) بل كلامه كله حكم وفوائد وتلويحات عرفها من عرف وجهلها من جهل، (ولنرجع إلى نقل الأخبار، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - أيضا: خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجعا) أي: اضطجاعا (في الجنة ضعفاؤها) كذا في القوت، قال العراقي: لم أجد له أصلا (وقال - صلى الله عليه وسلم - إن لي حرفتين اثنتين فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني الفقر والجهاد) قال العراقي: لم أجد له أصلا .

(وروي أن جبريل - عليه السلام - نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام ويقول: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا، وتكون معك أينما كنت، فأطرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم قال: يا جبريل، إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، فقال له جبريل: يا محمد، ثبتك الله بالقول الثابت) قال العراقي: هذا ملفق من حديثين، فروى الترمذي من حديث أبي أمامة: عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما. الحديث، وقال حسن، ولأحمد من حديث عائشة: الدنيا دار من لا دار له. الحديث، وقد تقدم في ذم الدنيا. اهـ .

قلت: وتمام حديث أبي أمامة عند الترمذي: فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك، وقد رواه كذلك أحمد وابن سعد والطبراني والبيهقي، وحديث عائشة: "الدنيا دار من لا دار له" رواه كذلك الشيرازي في الألقاب والبيهقي، ورواه البيهقي أيضا عن ابن مسعود موقوفا عليه .

(روي أن المسيح - عليه السلام - مر في) أثناء (سياحته) في الأرض (برجل نائم ملتف في عباءة) له، وهي كساء من صوف (فأيقظه وقال له: يا نائم قم، فاذكر الله تعالى، فقال: ما تريد مني إني قد تركت الدنيا لأهلها فقال له: فنم إذا يا حبيبي) ، نقله صاحب القوت .

(ومر موسى - عليه السلام - برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته في التراب، وهو مؤتزر بعباءة) له (فقال) موسى: (يا رب عبدك هذا في الدنيا ضائع) نظرا إلى ظاهر حاله (فأوحى الله إليه: يا موسى، أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها) أي: صرفتها عنه وضيقتها عليه، نقله صاحب القوت .

(وعن أبي رافع) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنه ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيف فلم يجد عنده ما يصلحه) أي: من قراه، (فأرسلني إلى رجل من اليهود) وهو أبو السحماء (وقال: قل له: يقول لك محمد) - صلى الله عليه وسلم - أسلفني أو قال: (بعني دقيقا إلى هلال رجب، فقال) أبو رافع (فأتيته) وقلت له ذلك، (فقال) اليهودي (لا والله) لا أسلفه (إلا برهن) وثيق، فرجعت (فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما والله إني لأمين في أهل السماء أمين في أهل الأرض، ولو باعني أو أسلفني لأديت إليه، اذهب بدرعي هذا إليه فارهنه) عنده (فلما خرجت) من عنده (نزلت هذه الآية: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الآية تعزية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا) .

قال العراقي: رواه الطبراني بسند ضعيف. اهـ .

قلت: ورواه كذلك ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق، وأبو نعيم في المعرفة وفيه: اذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية كأنه يعزيه عن الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله: ولا تمدن عينيك الآية، قال: تعزية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 276 ] (وقال - صلى الله عليه وسلم - الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس) قال العراقي: رواه الطبراني من حديث شداد بن أوس بسند ضعيف. والمعروف أنه من كلام عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، رواه ابن عدي في الكامل هكذا. اهـ .

قلت: ورواه ابن المبارك في الزهد من حديث سعد بن مسعود بلفظ: للفقر أزين للمؤمن من العذار الجيد على خد الفرس.

(وقال - صلى الله عليه وسلم - من أصبح منكم معافى في جسمه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) رواه البخاري في الأدب والترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني من حديث سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه رفعه بلفظ: من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا، وقد تقدم .

(وقال كعب الأحبار) - رحمه الله تعالى - (قال الله تعالى لموسى - عليه السلام -: يا موسى، إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين) وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجلت عقوبته. رواه أبو نعيم في الحلية من قول كعب غير مرفوع بإسناد ضعيف، وقد تقدم .

(وقال عطاء الخراساني) وهو أبو عثمان عطاء بن أبي سليم واسم أبيه ميسرة وقيل: عبد الله صدوق مات سنة خمس وثلاثين روى له مسلم والأربعة ولم يصح أن البخاري أخرج له (مر نبي من الأنبياء بساحل) أي: ساحل البحر (فإذا هو برجل يصطاد حيتانا، فقال: بسم الله وألقى الشبكة) في الماء (فلم يخرج منها) حوت واحد (ثم مر بآخر فقال: باسم الشيطان وألقى الشبكة) في الماء (فخرج فيها من الحيتان ما يكاد لا يتقايس من كثرتها) كذا في النسخ، ولفظ القوت: حتى جعل الرجل يتقاعس من كثرتها (فقال) ذلك (النبي - عليه السلام - يا رب ما هذا؟ وقد علمت أن كل هذا بيدك، فقال الله تعالى للملائكة اكشفوا لعبدي عن منزلتيهما) عندي، فكشفوا له عنهما (فلما رأى ما أعد الله تعالى لهذا من الكرامة، ولذلك من الهوان قال: رضيت يا رب) نقله صاحب القوت .

(وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء، وفي لفظ: فقلت: أين الأغنياء؟ فقيل: حبسهم الجد) ، قال العراقي: رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد جيد وللشيخين من حديث أسامة بن زيد: قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون. اهـ .

قلت: وتمام حديث أسامة: إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من يدخلها النساء. وهكذا رواه أيضا أحمد والنسائي والحارث وأبو عوانة وابن حبان وأبو نعيم في المعرفة .

(وفي حديث آخر فرأيت أكثر أهل النار النساء) روي ذلك من حديث أسامة وابن عباس وعمران بن الحصين، والأضبط السلمي وابن عمرو، أما حديث أسامة فرواه الشيخان، وقد ذكر قبل هذا، وحديث ابن عباس رواه الطيالسي وأحمد وهناد ومسلم والترمذي، ولفظهم: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، ورواه الطبراني وزاد: والمساكين. وحديث عمران رواه أحمد والبخاري والترمذي باللفظ المذكور، ورواه الطبراني وزاد: والضعفاء، وحديث الأضبط رواه ابن منده، وأبو نعيم في المعرفة عن عبد الرحمن بن حارثة بن الأضبط عن جده باللفظ المذكور، وحديث ابن عمر ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بلفظ: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء.

(فقلت: ما شأنهن؟ فقال: شغلهن الأحمران الذهب والزعفران) والحديث بهذه الزيادة فقد تقدم في كتاب آداب النكاح .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: تحفة المؤمن في الدنيا الفقر) قال العراقي: رواه محمد بن خفيف الشيروزي في شرف الفقراء والديلمي في مسند الفردوس من حديث معاذ بن جبل بسند لا بأس به، ورواه الديلمي أيضا من حديث ابن عمر بسند ضعيف .

(وفي الخبر: آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود - عليهما السلام - لمكان ملكه، وآخر أصحابي دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه) تقدم، وقال العراقي: هو في الأوسط للطبراني بإسناد فرد، وفيه نكارة، (وفي حديث آخر [ ص: 277 ] رأيته) يعني عبد الرحمن بن عوف (دخل الجنة زحفا) رواه أحمد والطبراني من حديث عائشة بلفظ: حبوا بدل زحفا، ورواه أبو نعيم عن الطبراني، وقد تقدم، ورواه الفريابي من طريق عطاء بن أبي رباح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا ابن عوف، إنك من الأغنياء ولن تدخل الجنة إلا زحفا، الحديث، وقد تقدم، ورواه أحمد من طريقه .

(وقال المسيح - عليه السلام -) وقد قال له رجل: احملني معك في سياحتك، فقال: أخرج مالك والحقني، قال: لا أستطيع، فقال عليه السلام (بشدة يدخل الغني الجنة) ، أو قال: بعجب، كذا في القوت (وفي خبر عن آل البيت - عليهم السلام - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه، قيل: وما اقتناه؟ قال: لم يترك له أهلا ولا مالا) قال العراقي: رواه الطبراني من حديث أبي عنبسة الخولاني. اهـ .

قلت: لفظ الطبراني في الكبير وفي الأوسط: لا يترك له مالا ولا ولدا، ورواه أبو نعيم في الحلية والديلمي من طريقه من حديث ابن مسعود: إذا أحب الله عبدا اقتناه لنفسه ولم يشغله بزوجة ولا ولد، وسياق المصنف مشعر بأنه من رواية جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا هو في نهج البلاغة للشريف الموسوي.

(وفي الخبر: إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلا، فقل: ذنب عجلت عقوبته) ، قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية مكحول عن أبي الدرداء ولم يسمع منه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوحى الله إلى موسى - عليه السلام - يا موسى، فذكره بزيادة في أوله، ورواه أبو نعيم في الحلية من قول كعب الأحبار غير مرفوع بإسناد ضعيف. اهـ .

قلت: قول كعب قد تقدم للمصنف قريبا، وأما المرفوع من حديث أبي الدرداء فقد رواه الديلمي بلفظ: أوحى الله إلى موسى بن عمران، يا موسى ارض بكسرة خبز تسد بها جوعتك وخرقة تواري بها عورتك، واصبر على المصيبات، وإذا رأيت الدنيا مقبلة فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا رأيت الدنيا مدبرة والفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين، ورواه كذلك أبو عثمان الصابوني في المائتين، وقد تقدم أيضا .

(وقال موسى - عليه السلام - يا رب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك؟ قال: كل فقير فقير) نقله صاحب القوت (فيمكن أن يكون الثاني للتوكيد ويمكن أن يراد به الشديد الضر) فإن الفقير في اللغة من يشكو فقار ظهره. وروى الدارقطني في الأفراد وابن عساكر من حديث عمر قال موسى: يا رب وددت أني أعلم من تحب من عبادك فأحبه، قال: إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فإنما أذنت له في ذلك، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فأنا حجبته عن ذلك وأنا أبغضه.

(وقال المسيح - عليه السلام - إني لأحب المسكنة، وأبغض النعماء) ، ولفظ القوت: الغنى، وإن في المال داء كبيرا، قيل (وكان أحب الأسامي إليه أن يقال له: يا مسكين) ، نقله صاحب القوت (ولما قالت سادات العرب وأغنياؤهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - اجعل لنا يوما ولهم يوما يجيئون إليك ولا نجيء، ونجيء إليك ولا يجيئون يعنون بذلك الفقراء) من الصحابة (مثل بلال، وسلمان، وصهيب، وأبي ذر، وخباب بن الأرت، وعمار بن ياسر وأبي هريرة، وأصحاب الصفة من الفقراء - رضي الله عنهم أجمعين - فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، وذلك لأنهم شكوا إليه التأذي برائحتهم، وكان لباس القوم الصوف في شدة الحر فإذا عرقوا فاحت الروائح من ثيابهم، فاشتد ذلك على الأغنياء منهم الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن) حصن بن (بدر الفزاري، وعباس بن مرداس السلمي وغيرهم، فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يجمعهم وإياهم مجلس واحد، فنزل عليه قوله تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم يعني: الفقراء تريد زينة الحياة الدنيا يعني: الأغنياء، [ ص: 278 ] ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا يعني: الأغنياء، وقل الحق من ربكم مع الفقراء فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الآية) .

قال العراقي: تقدم من حديث خباب وليس فيه أنه كان لباسهم الصوف، وتفوح ريحهم إذا عرقوا، وهذه الزيادة من حديث سلمان. اهـ .

قلت: أما حديث سلمان فرواه الحسن بن سفيان في سنده ومن طريقه أبو نعيم في الحلية من طريق سلمة بن عبد الله عن عمه، عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون أبا ذر وسلمان، وفقراء المسلمين، وكان عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها، جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله: واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك إلى قوله أحاط بهم سرادقها يتهددهم بالنار، فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات.

وأما حديث خباب فرواه أبو بكر بن أبي شيبة ومن طريقه أبو نعيم في الحلية من طريق أبي الكنود عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدا مع بلال وعمار وصهيب وخباب في أناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حقروهم فخلوا به، فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت، قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا، فدعا بالصحيفة ليكتب لهم ودعا عليا ليكتب، فلما أراد ذلك ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل - عليه السلام - فقال: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة إلى قوله: من الظالمين ثم ذكر الأقرع وصاحبه، فقال: وكذلك فتنا بعضهم ببعض إلى بالشاكرين ثم قال: وإذا جاءك الذين يؤمنون الآية، فرمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصحيفة، ودعانا فأتيناه وهو يقول: "سلام عليكم"، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبه. الحديث .

وقد رواه كذلك ابن ماجه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل (واستأذن) عبد الله (ابن أم مكتوم) الأعمى - رضي الله عنه - (على النبي - صلى الله عليه وسلم) - يوما (وعنده رجل من أشراف قريش فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى يعني ابن أم مكتوم أما من استغنى * فأنت له تصدى يعني هذا الشريف) قال العراقي: رواه الترمذي من حديث عائشة وقال: غريب قلت: ورجاله رجال الصحيح. اهـ .

قلت: ورواه كذلك ابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه ولفظهم: قالت عائشة: أنزلت عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: يا رسول الله، أنشدني، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول بأسا، فيقول: لا. ففي هذا أنزلت. والمراد بذلك الشريف أمية بن خلف كما وقع التصريح به عند سعيد بن منصور عن أبي مالك.

(وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله إليه كما يعتذر الرجل للرجل في الدنيا فيقول: وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي، ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة، اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف فمن أطعمك في أو كساك في يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك، والناس قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به، فيأخذ بيده، ويدخله الجنة) .

قال العراقي: رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أنس بسند ضعيف يقول الله - عز وجل - يوم القيامة: أدنوا مني أحبائي، فتقول الملائكة: ومن أحباؤك؟ فيقول: فقراء المسلمين، فيدنون منه، فيقول: أما إني لم أزو الدنيا عنكم لهوان كان بكم علي، ولكن أردت بذلك أن أضعف لكم كرامتي اليوم، فتمنوا علي ما شئتم اليوم. الحديث دون آخر الحديث. وأما أول الحديث فرواه أبو نعيم في الحلية، وسيأتي في الحديث الذي بعده. اهـ .

قلت: وتمام [ ص: 279 ] حديث أنس عند أبي الشيخ فيؤمر بهم إلى الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: أكثروا معرفة الفقراء واتخدوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة، قالوا: يا رسول الله، وما دولتهم؟ قال: إذا كان يوم القيامة قيل لهم: انظروا من أطعمكم كسرة وسقاكم شربة أو كساكم ثوبا فخذوا بيده، ثم أفيضوا به إلى الجنة) قال العراقي: رواه أبو نعيم من حديث الحسين بن علي بسند ضعيف: اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: سيروا إلى الفقراء فيعتذر إليهم كما يعتذر أحدكم إلى أخيه في الدنيا. اهـ .

وفي المقاصد للحافظ السخاوي رواه أبو نعيم في ترجمة وهب بن منبه من الحلية كما عزاه الديلمي ثم العراقي في تخريج الإحياء عن الحسين بن علي ولم أره في النسخة التي عندي، وقال شيخنا: إنه لا أصل له، نعم في الحلية من حديث إبراهيم بن فارس عن وهب من قوله: اتخذوا اليد عند المساكين فإن لهم يوم القيامة دولة. وفي قضاء الحوائج لأبي النرسي بسند فيه مجاهيل عن أبي عبد الرحمن السلمي التابعي رفعه مرسلا: اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة، قيل: يا رسول الله، وما دولتهم؟ قال: ينادي مناد يوم القيامة: يا معشر الفقراء قوموا فلا يبقى فقير إلا قام حتى إذا اجتمعوا قيل: ادخلوا في صفوف أهل القيامة، فمن صنع إليكم معروفا فأوردوه الجنة، قال: فجعل يجتمع على الرجل كذا وكذا من الناس فيقول له الرجل: ألم أكسك؟ فيصدقه، فيقول له الآخر: ألم أكسك؟ فيصدقه، فيقول له الآخر: يا فلان ألم أكلم لك؟ قال: ولا يزالون يخبرونه بما صنعوا إليه وهو يصدقهم بما صنعوا إليه، حتى يذهب بهم جميعا فيدخلهم الجنة، فيقول قوم لم يكونوا يصنعون المعروف: يا ليتنا كنا نصنع المعروف حتى ندخل الجنة.

وبسند واه عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رفعه: إن للمساكين دولة قيل: يا رسول الله وما دولتهم؟ قال: إذا كان يوم القيامة قيل لهم: انظروا من أطعمكم في الله تعالى لقمة أو كساكم ثوبا أو سقاكم شربة فأدخلوه الجنة. اهـ .

قلت: حديث ابن عباس هذا رواه ابن عدي في الكامل وقال: منكر وابن عساكر في التاريخ من طريق ميمون بن مهران. وروى ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، والخطيب من حديث أنس: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الجنة وأهل النار صفوفا، فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول: يا فلان، أما تذكر يوم اصطنعت إليك في الدنيا معروفا؟ فيأخذ بيده فيقول: اللهم هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفا، فيقال له: خذ بيده فأدخله الجنة برحمة الله.

(وقال - صلى الله عليه وسلم - : دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت في أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم ونظرت في أسفلها فإذا فيهم من الأغنياء والنساء قليل قلت: يا رب ما شأنهم؟ قال: أما النساء فأضرهم الأحمران الذهب والحرير) وفي لفظ: "الزعفران" بدل "الحرير" (وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب، وتفقدت أصحابي فلم أر عبد الرحمن بن عوف ثم جاءني بعد ذلك يبكي، فقلت: ما خلفك عني؟ قال: يا رسول الله، أما والله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات) أي: الأمور التي تشيب من شدتها (وظننت أني لا أراك فقلت: ولم؟ قال: كنت أحاسب بمالي) .

قال العراقي: رواه الطبراني: دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدي قلت: ما هذه الخشفة؟ فقيل: هذا بلال يمشي أمامك. ورواه كذلك ابن عدي وابن عساكر، وفي رواية لابن عساكر: دخلت الجنة فرأيت خشخشة أمامي فقلت: من هذا؟ قال: أنا بلال، قلت: بم سبقتني إلى الجنة؟ قال: ما أحدثت إلا توضأت وما توضأت إلا رأيت أن لله علي ركعتين. وقد رواه الروياني كذلك، وقد روى ذلك من حديث جابر وابن عباس وسهل بن سعد، أما حديث جابر فلفظه: دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدي قلت: ما هذه الخشفة؟ فقيل: هذا بلال، فقلت: طوبى لبلال طوبى لبلال. رواه أحمد وأبو علي وابن عساكر.

وأما حديث سهل بن سعد فلفظه: دخلت الجنة فإذا حس، فنظرت فإذا هو بلال. رواه أحمد [ ص: 280 ] والطبراني وابن عساكر، وروى صاحب الحلية من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن عوف: ما أبطأ بك عني؟ فقال: ما زلت بعدك أحاسب. وإنما ذلك لكثرة مالي، فقال: هذه مائة راحلة جاءتني من مصر وهي صدقة على أرامل أهل المدينة.

(فانظر إلى هذا، وعبد الرحمن (بن عوف - رضي الله عنه - (صاحب السابقة العظيمة) فإنه هاجر الهجرتين، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة) رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث سعيد بن زيد قال الترمذي: حسن صحيح، ولفظهم: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة. وقد رواه كذلك ابن أبي شيبة وأحمد وابن منيع وابن أبي عاصم وأبو نعيم في الحلية والضياء، ورواه أيضا أحمد والترمذي، وأبو نعيم في المعرفة، وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده .

(وهو في الأغنياء الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من قال بالمال هكذا وهكذا) متفق عليه من حديث أبي ذر في أثناء حديث تقدم (ومع هذا فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد، ودخل - صلى الله عليه وسلم - على رجل فقير ولم ير له شيئا، فقال: لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم) قال العراقي: لم أجده .

(وقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بملوك أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره) قال العراقي: متفق عليه من حديث حارثة بن وهب مختصرا ولم يقولا: ملوك، وقد تقدم، ولابن ماجه بسند جيد من حديث معاذ: ألا أخبركم عن ملوك الجنة؟ الحديث، دون قوله: أغبر أشعث .

(وقال عمران بن الحصين) - رضي الله عنه -: (كانت لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة وجاء فقال: يا عمران، إن لك عندنا منزلة وجاها فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: نعم بأبي أنت وأمي، فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة فقرع الباب، وقال: السلام عليكم أدخل؟ قالت: ادخل بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك يا رسول الله؟ قال: عمران، قالت فاطمة: والذي بعثك بالحق نبيا ما علي إلا عباءة قال: اصنعي بها هكذا وهكذا، وأشار بيده، قالت: هذا جسدي قد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال: شدي بها رأسك، ثم أذنت له، فدخل فقال: السلام عليكم يا ابنتاه، كيف أصبحت؟ قالت: أصبحت والله وجعة وزادني وجعا على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بي الجوع، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: لا تجزعي يا ابنتاه، فوالله ما ذقت طعاما منذ ثلاث، وإني لأكرم على الله منك، ولو سألت ربي لأطعمني ولكن آثرت الآخرة على الدنيا، ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها: أبشري، فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة، قالت: فأين آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران؟ قال: آسية سيدة نساء عالمها، ومريم سيدة نساء عالمها، وخديجة سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، إنكن في بيوت من قصب، لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب، ثم قال لها: اقنعي بابن عمك، فوالله لقد زوجتك سيدا في الدنيا وفي الآخرة) .

تقدم هذا بعينه في آخر كتاب ذم البخل وحب المال، وذكر العراقي هناك أنه رواه أحمد من حديث معقل بن يسار ولم يروه من حديث عمران بن [ ص: 281 ] حصين (وروي عن علي - كرم الله وجهه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أبغض الناس فقراءهم، وأظهروا عمارة الدنيا، وتكالبوا على جمع الدراهم، رماهم الله بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والخيانة من ولاة الأحكام، والشوكة من الأعداء) .

قال العراقي: رواه الديلمي بإسناد فيه جهالة وهو منكر. اهـ .

قلت: ورواه أيضا الحاكم وصححه وتعقب بلفظ: إذا أبغض المسلمون علماءهم، وأظهروا عمارة أسواقهم، وتألبوا على جمع الدراهم. الحديث، وفيه: والصولة من العدو .

(وأما الآثار) فقد (قال أبو الدرداء) - رضي الله عنه - كذا في النسخ، والصواب أبو ذر (ذو الدرهمين أشد حبسا) أو قال (أشد حسابا من ذي الدرهم) الواحد، رواه أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد حدثني سليمان عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: ذو الدرهمين أشد حسابا من ذي درهم (وأرسل عمر - رضي الله عنه - إلى سعيد بن عامر) بن خديم الجمعي - رضي الله عنه - (بألف دينار) ، وفي رواية بأربعمائة دينار (فجاء حزينا كئيبا فقالت امرأته) : ما شأنك؟ مات أمير المؤمنين؟ قال: أعظم من ذلك، قالت (أحدث) في الإسلام (أمر؟ قال: أشد من ذلك) قالت: فما هو؟ قال: أتتني الدنيا، قد كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تفتح الدنيا علي، وخلفت في أيام أبي بكر فلم تفتح علي، وخلفت في أيام عمر ألا وأشد أيامي أيام عمر.

(ثم) حدثها فقالت: نفسي فداؤك فاصنع بها ما بدا لك (قال) أتساعدينني على ما أريد؟ قالت: نعم، قال: (أرني درعك الخلق فشقه وجعله صررا وفرقه) على جيش من المسلمين خرجوا يريدون الغزو ولم يترك لأهله منها دينارا، فقالت له امرأته: لو حبست منها ما تستعين به، فقال لها: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو أن امرأة من أهل الجنة أشرفت إلى الأرض. الحديث، وفيه: والله ما كنت لأختارك عليهن فسكتت، رواه مالك بن دينار عن شهر بن حوشب قال فيه (ثم قام يصلي ويبكي إلى الغداة، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام حتى أن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده ويخرج) .

قال العراقي: روى أحمد القصة الموقوفة دون المرفوع، فرواه الطبراني دون القصة إلا أنه قال: بسبعين عاما، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد تكلم فيه، وفي رواية له بأربعين سنة، وأما دخولهم قبلهم بخمسمائة عام فهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه، وتقدم قريبا. اهـ .

قلت: لفظ الطبراني، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا مسعود بن سعد، حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن سابط الجمعي قال: دعا عمر بن الخطاب رجلا من بني جمح يقال له: سعيد بن عامر بن خديم فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا، فساق الحديث، وفيه: وما أنا بمتخلف عن العنق الأول بعد أن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يجمع الله الناس للحساب، فيجيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحمام، فيقال لهم: قفوا عند الحساب، فيقولون: ما عندنا حساب ولا أتيتمونا شيئا، فيقول ربهم: صدق عبادي، فيفتح لهم باب الجنة فيدخلونها قبل الناس بسبعين عاما، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق جرير، حدثنا يزيد بن أبي زياد، ورواه من طريق أبي معاوية عن موسى الصغير عن عبد الرحمن بن سابط وفيه: فبلغ عمر أنه يمر به كذا وكذا لا يدخن في بيته، فأرسل إليه عمر بمال فأخذه فصره صررا فتصدق به يمينا وشمالا، الحديث .

ورواه أبو نعيم أيضا من طريق خالد بن معدان قال: استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر بن خديم الجمعي فساق الحديث وفيه: فبعث إليه عمر بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك، فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها؟ قالت: نعم، فدعا رجلا من أهله يثق به فصررها صررا، ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى آل فلان، فبقيت منها ذهيبة، فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله.

وروى المرفوع من حديث سعيد بن عامر الحكيم الترمذي في النوادر: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة حتى أن الرجل من الأغنياء [ ص: 282 ] ليدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج (وقال أبو هريرة) - رضي الله عنه - (ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب: رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه، ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين، ورجل دعا بشرابه فلا يقال: أيها تريد؟) وهذا قد رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أبي سعيد وفيه: رجل غسل ثيابه فلم يجد له خلفا، ورجل لم ينصب على مستوقده قدران، ورجل دعا بشراب فلم يقل له: أيها تريد؟

(وقيل: جاء فقير إلى مجلس) سفيان (الثوري) - رحمه الله تعالى - (فقال له) الثوري: (تخط لو كنت غنيا لما قربتك) ، رواه أبو نعيم في الحلية (وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقير وإعراضه عن الأغنياء) رواه أبو نعيم في الحلية (وقال المؤمل) بن إسماعيل البصري أبو عبد الرحمن نزيل مكة (ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري، ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري) رواه أبو نعيم في الحلية .

(وقال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم، لو خاف النار كما يخاف الفقر لنجا منهما جميعا، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعا، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعا) نقله صاحب القوت، وقد تقدم نحوه في كتاب الخوف (وقال ابن عباس) - رضي الله عنهما -: (ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر، وقال لقمان - عليه السلام - لابنه) وهو يعظه يا بني (لا تحقرن أحدا لخلقان ثيابه فإن ربك وربه واحد، وقال يحيى بن معاذ) الرازي - رحمه الله تعالى - (حبك للفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين) . نقله صاحب القوت .




الخدمات العلمية