بيان تفضيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة .
اعلم أن ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول وإلى مهم فالفضول كالخيل المسومة مثلا إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفه بركوبها وهو قادر على المشي والمهم كالأكل والشرب ولسنا نقدر على تفصيل أصناف الفضول فإن ذلك لا ينحصر وإنما ينحصر المهم الضروري والمهم أيضا يتطرق إليه فضول في مقداره وجنسه وأوقاته فلا بد من بيان وجه الزهد فيه ، والمهمات ستة أمور المطعم والملبس والمسكن وأثاثه والمنكح والمال والجاه يطلب لأغراض .
وهذه الستة من جملتها وقد ذكرنا معنى الجاه وسبب حب الخلق وكيفية الاحتراز منه في كتاب الرياء من ربع المهلكات ونحن الآن نقتصر على بيان هذه المهمات الستة .
الأول المطعم ولا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه ولكن له طول وعرض فلا بد من قبض طوله وعرضه حتى يتم به الزهد ، فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر فإن من يملك طعام يومه فلا يقنع به ، وأما عرضه ففي مقدار الطعام وجنسه ووقت تناوله أما طوله فلا يقصر إلا بقصر الأمل ، وأقل درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدة الجوع وخوف المرض ، ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدخر من غدائه لعشائه وهذه هي الدرجة العليا الدرجة الثانية أن يدخر لشهر أو أربعين يوما الدرجة الثالثة أن يدخر لسنة فقط وهذه رتبة ضعفاء الزهاد ، ومن ادخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهدا محال ؛ لأن من أمل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جدا فلا يتم منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدي الناس كداود الطائي فإنه ورث عشرين دينارا فأمسكها وأنفقها في عشرين سنة فهذا لا يضاد أصل الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد وأما عرضه فبالإضافة إلى المقدار وأقل درجاته في اليوم والليلة نصف رطل وأوسطه رطل وأعلاه مد واحد وهو ما قدره الله تعالى في إطعام المسكين في الكفارة وما وراء ذلك فهو من اتساع البطن ، والاشتغال به ومن لم يقدر على الاقتصار على مد لم يكن له من الزهد في البطن نصيب ، وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله كل ما يقوت ولو الخبز من النخالة وأوسطه خبز الشعير والذرة وأعلاه خبز البر غير منخول فإذا ميز من النخالة وصار حوارى فقد دخل في التنعم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلا عن أوائله .
وأما الأدم فأقله الملح أو البقل والخل وأوسطه الزيت أو يسير من الأدهان أي دهن كان وأعلاه اللحم أي لحم كان ، وذلك في الأسبوع مرة أو مرتين فإن صار دائما أو أكثر من مرتين في الأسبوع خرج . عن آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهدا في البطن أصلا . وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرة وهو أن يكون صائما وأوسطه .
أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل ويأكل ليلة ولا يشرب وأعلاه أن ينتهي إلى أن يطوي ثلاثة أيام أو أسبوعا وما زاد عليه وقد ذكرنا طريق تقليل الطعام وكسر شرهه في ربع المهلكات ولينظر إلى أحوال رسول الله : صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم الأدم .
قالت رضي الله تعالى عنها : عائشة ، قيل لها : فبم كنتم تعيشون قالت : بالأسودين التمر والماء كانت تأتي علينا أربعون ليلة وما يوقد في بيت رسول الله : صلى الله عليه وسلم مصباح ولا نار وهذا ترك اللحم والمرقة والأدم .
وقال الحسن كان رسول الله : صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ويلبس الصوف وينتعل المخصوف ويلعق أصابعه ويأكل على الأرض .
ويقول : إنما أنا عبد آكل كما تأكل العبيد وأجلس كما تجلس العبيد .
وقال المسيح عليه السلام : بحق أقول لكم : إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم على المزابل مع الكلاب كثير .
وقال الفضيل ما شبع رسول الله : صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة ثلاثة أيام من خبز البر .
وكان المسيح صلى الله عليه وسلم يقول : يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البري وخبز الشعير وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره .
وقد ذكرنا سيرة الأنبياء والسلف في المطعم والمشرب في ربع المهلكات فلا نعيده .
ولما أتى النبي : صلى الله عليه وسلم أهل قباء أتوه بشربة من لبن مشوبة بعسل فوضع القدح من يده وقال : أما إني لست أحرمه ولكن أتركه تواضعا لله تعالى .
وأتي رضي الله عنه : بشربة من ماء بارد وعسل في يوم صائف فقال : اعزلوا عني حسابها . عمر
وقد قال يحيى بن معاذ الرازي والقبر مضجعه ، والخلوة مجلسه ، والاعتبار فكرته ، والقرآن حديثه ، والرب أنيسه ، والذكر رفيقه ، والزهد قرينه ، والحزن شأنه ، والحياء شعاره ، والجوع إدامه ، والحكمة كلامه ، والتراب فراشه ، والتقوى زاده ، والصمت غنيمته ، والصبر معتمده ، والتوكل حسبه ، والعقل دليله ، والعبادة حرفته ، والجنة مبلغه إن شاء الله تعالى . الزاهد الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه حيث أدرك الدنيا سجنه ،