الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما كلمة : لا إله إلا الله فهو نسبة الكل إليه فانظر إلى التفاوت بين الكل وبين شيئين ؛ لتعرف به ثواب لا إله إلا الله ، بالإضافة إلى هذا وكما ذكرنا من قبل أن للتوحيد قشرين ولبين فكذلك لهذه الكلمة ولسائر الكلمات وأكثر الخلق قيدوا بالقشرين وما طرقوا إلى اللبين ، وإلى اللبين الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم من قال : لا إله إلا الله صادقا من قلبه مخلصا وجبت له الجنة وحيث أطلق من غير الصدق والإخلاص أراد بالمطلق هذا المقيد كما أضاف المغفرة إلى الإيمان والعمل الصالح في بعض المواضع وأضافها ، إلى مجرد الإيمان في بعض المواضع ، والمراد به المقيد بالعمل الصالح فالملك لا ينال بالحديث وحركة اللسان حديث ، وعقد القلب أيضا حديث ولكنه حديث نفس ، وإنما الصدق والإخلاص وراءهما ، ولا ينصب سرير الملك إلا للمقربين وهم المخلصون نعم لمن يقرب منهم في الرتبة من أصحاب اليمين أيضا درجات عند الله تعالى وإن كانت لا تنتهي إلا بالملك ، أما ترى أن الله سبحانه لما ذكر في سورة الواقعة المقربين السابقين تعرض لسرير الملك فقال : على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين ، ولما انتهى إلى أصحاب اليمين ما زاد في ذكر الماء والظل والفواكه والأشجار والحور العين وكل ذلك من لذات المنظور والمشروب والمأكول والمنكوح ، ويتصور ذلك للبهائم على الدوام ، وأين لذات البهائم من لذة الملك والنزول في أعلى عليين في جوار رب العالمين ولو كان لهذه اللذات قدر لما وسعت على البهائم ، ولما رفعت عليها درجة الملائكة ، أفترى أن أحوال البهائم وهي مسيبة : في الرياض متنعمة بالماء والأشجار وأصناف المأكولات متمتعة بالنزوات والسفاد أعلى وألذ وأشرف وأجدر بأن تكون عند ذوي الكمال مغبوطة من أحوال الملائكة في سرورهم بالقرب من جوار رب العالمين في أعلى عليين ، هيهات هيهات ما أبعد عن التحصيل من إذا خير بين أن يكون حمارا أو يكون في درجة جبريل عليه السلام ، فيختار درجة الحمار على درجة جبريل عليه السلام وليس يخفى أن شبه كل شيء منجذب إليه وأن النفس التي نزوعها إلى صنعة الأساكفة أكثر من نزوعها إلى صنعة الكتابة فهو بالأساكفة أشبه في جوهره منه بالكتاب ، وكذلك من نزوع نفسه إلى نيل لذات البهائم أكثر من نزوعها إلى نيل لذات الملائكة فهو بالبهائم أشبه منه بالملائكة لا محالة ، وهؤلاء هم الذين يقال فيهم : أولئك كالأنعام بل هم أضل وإنما كانوا أضل ؛ لأن الأنعام ليس في قوتها طلب درجة الملائكة فتركها الطلب للعجز وأما الإنسان ففي قوته ذلك والقادر على نيل الكمال أحرى بالذم وأجدر بالنسبة إلى الضلال مهما تقاعد عن طلب الكمال وإذا كان هذا كلاما معترضا فلنرجع إلى المقصود فقد بينا معنى قول : لا إله إلا الله ومعنى قول : لا حول ولا قوة إلا بالله وأن من ليس قائلا بهما عن مشاهدة فلا يتصور منه حال التوكل .

فإن قلت : ليس في قولك : لا حول ولا قوة إلا بالله إلا نسبة شيئين إلى الله فلو قال قائل : السماء والأرض خلق الله ، فهل يكون ثوابه مثل ثوابه ؟ فأقول : لا ؛ لأن الثواب على قدر درجة المثاب عليه ، ولا مساواة بين الدرجتين ولا ينظر إلى عظم السماء والأرض ، وصغر الحول والقوة إن ، جاز وصفهما بالصغر تجوزا فليست الأمور بعظم الأشخاص ، بل كل عامي يفهم أن الأرض والسماء ليستا من جهة الآدميين ، بل هما من خلق الله تعالى ، فأما الحول والقوة فقد أشكل أمرهما على المعتزلة والفلاسفة وطوائف كثيرة ممن يدعي أنه يدقق النظر في الرأي والمعقول حتى يشق الشعر بحدة نظره فهي مهلكة مخطرة ، ومزلة عظيمة ، هلك فيها الغافلون إذ أثبتوا لأنفسهم أمرا وهو شرك في التوحيد ، وإثبات خالق سوى الله تعالى فمن جاوز هذه العقبة بتوفيق الله تعالى إياه فقد علت رتبته ، وعظمت درجته ، فهو الذي يصدق قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وقد ذكرنا أنه ليس في التوحيد إلا عقبتان إحداهما : النظر .

إلى السماء والأرض ، والشمس والقمر ، والنجوم والغيم ، والمطر وسائر الجمادات ، والثانية : النظر إلى اختيار الحيوانات ، وهي أعظم العقبتين وأخطرهما ، وبقطعهما كمال سر التوحيد ؛ فلذلك عظم ثواب هذه الكلمة أعني ثواب المشاهدة التي هذه الكلمة ترجمتها فإذا رجع حال التوكل إلى التبري من الحول والقوة والتوكل على الواحد الحق وسيتضح عند ذكرنا تفصيل أعمال التوكل إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


(وأما كلمة: لا إله إلا الله فهو نسبة الكل إليه) فلا معبود إلا هو، ولا مقصود إلا هو، ولا موجود إلا هو، (فانظر إلى التفاوت بين الكل وبين شيئين؛ لتعرف به ثواب لا إله إلا الله، بالإضافة إلى هذا وكما ذكرنا من قبل أن للتوحيد قشرين) الأعلى والأسفل (ولبين) الخارج والداخل (فكذلك لهذه الكلمة ولسائر الكلمات) قشران ولبان (وأكثر الخلق قيدوا بالقشرين) لقصورهم في هممهم (وما طرقوا إلى اللبين، وإلى اللبين الإشارة بقوله) صلى الله عليه وسلم (من قال: لا إله إلا الله [ ص: 467 ] صادقا مخلصا من قلبه وجبت له الجنة) .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث زيد بن أرقم، وأبو يعلى من حديث أبي هريرة، وقد تقدم .

قلت: حديث زيد بن أرقم عند الطبراني، وفيه: مخلصا دون صادقا، وفيه: "دخل الجنة"، وفي آخره قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله، ورواه كذلك الحكيم، وأبو نعيم في الحلية، ورواه ابن النجار من حديث أنس مثله، وفيه بعد قوله الجنة قيل: "أفلا أبشر الناس، قال: إني أخاف أن يتكلوا"، ورواه البزار، والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد بدون تلك الزيادة، وكذلك رواه الطبراني من حديث أبي شبيبة الخدري.

وقد تقدم كل ذلك في الدعوات، ومعنى الإخلاص بلا إله إلا الله عند المخلصين بها أن يشهدوا أن لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا الله، ولا هادي ولا مضل إلا الله، كما أنه لا إله إلا الله، هذا عندهم في قرن واحد، وبمشاهدة واحدة، وهو أول التوحيد، وإن كان قد جعل هاديين ومضلين، كما جعل معطيين ومانعين، ولكن من بعد إذنه حقيقة ومشيئته وقدرته وحكمته .

(وحيث أطلق من غير الصدق والإخلاص) كما في حديث سلمة بن نعيم الأشجعي عند الطبراني في الأوسط: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، (أراد بالمطلق المقيد) بالوصفين، (كما أضاف المغفرة إلى الإيمان والعمل الصالح في بعض المواضع، وأضاف إلى مجرد الإيمان في بعض المواضع، والمراد به) الإيمان المقيد (بالعمل الصالح) ، فكذلك هنا (فالملك لا ينال بالحديث وحركة اللسان حديث، وعقد القلب أيضا ولكنه حديث نفس، وإنما الصدق والإخلاص وراءهما) ، أي: حركة اللسان وحديث النفس، (ولا ينصب سرير الملك إلا للمقربين وهم المخلصون) في أعمالهم الصادقون في أقوالهم، (نعم لمن يقرب منهم في الرتبة من أصحاب اليمين أيضا درجات عند الله تعالى) متفاوتة، (وإن كان لا ينتهي إلى الملك، أما ترى أن الله سبحانه لما ذكر في سورة الواقعة المقربين السابقين تعرض لسرير الملك فقال:) والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ( على سرر موضونة ) ، أي: منسوجة بالذهب، مشتبكة بالدر والياقوت ( متكئين عليها متقابلين ، ولما انتهى إلى) ذكر (أصحاب اليمين ما زاد على ذكر المال والظل والفواكه والأشجار والحور) فقال: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة .

(وكل ذلك لذات المنظور والمشروب والمأكول والمنكوح، ويتصور ذلك للبهائم على الدوام، وأين لذات البهائم من لذات الملك والنزول في أعلى عليين في جوار رب العالمين) وقيل: لما شبه حال السابقين في التنعيم بأكمل ما يتصور لأهل المدن شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمناه أهل البوادي؛ إشعارا بالتفاوت بين حالين، (ولو كان لهذه اللذات قدر لما وسعت على البهائم، ولما رفعت عليها درجة الملائكة، أفترى أن أحوال البهائم وهي مسيبة) أي: مطلقة (في الرياض متنعمة بالماء والأشجار وأصناف المأكولات متمتعة بالنزوات والسفاد) ، وهو الركوب على الإناث (أعلى وألذ وأشرف وأجدر بأن تكون عند ذوي الكمال مغبوطة من أحوال الملائكة في سرورهم بالقرب من جوار رب العالمين في أعلى عليين، هيهات هيهات ما أبعد عن التحصيل من إذا خير بأن يكون حمارا أو يكون في درجة جبريل، فيختار درجة الحمار على درجة جبريل -عليه السلام- وهل يخفى أن شبه كل شيء منجذب إليه) ، وهو قول سائر مشهور على الألسنة، ومعناه يؤخذ من حديث: "الأرواح جنود مجندة"، ومن قول الشعبي: إن لله ملكا موكلا يجمع الأشكال بعضها على بعض، وقد أكثر فيه الشعراء وضمنوا هذه الجملة وصرفوها إلى معان كثيرة مدحا وذما، وأعجبها ما أنشدني بعضهم في الذم:


رأيت النخل يطرح كل قحف وذاك الليف ملتف عليه فقلت تعجبوا من صنع ربي
شبيه الشيء منجذب إليه

[ ص: 468 ] (وإن النفس التي نزوعها إلى صنعة الأساكفة أكثر من نزوعها إلى صنعة الكتابة فهو بالأساكفة أشبه في جوهره منه بالكتاب، وكذلك من نزوع نفسه إلى نيل لذات البهائم أكثر من نزوعه إلى نيل لذات الملائكة فهو بالبهائم أشبه منه بالملائكة لا محالة، وهؤلاء الذين يقال فيهم: أولئك كالأنعام بل هم أضل ) شبههم بالأنعام لما في قصوى هممهم الميل إلى اللذات الحسية التي تزول سريعا، ثم قال: بل هم أضل (وإنما كانوا أضل؛ لأن الأنعام ليس في قوتها طلب درجة الملائكة وتركها الطلب للعجز) لما فيها من النقص في الإدراك .

(وأما الإنسان ففي قوته ذلك) ؛ لأنه خلق بهيميا ملكيا فهو مرتبة بين مرتبتين (والقادر على نيل الكمال أحرى بالذم وأجدر بالنسبة إلى الضلال مهما تقاعد عن طلب الكمال) ؛ لأنه ترك ما هو قادر عليه، وتقدم إنشاد قول الشاعر:


ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام

(وإذ كان هذا كلاما معترضا) بين كلامين سيق لأدنى مناسبة (فلترجع إلى المقصود) المهم فيما نحن فيه (فقد بينا معنى قول: لا إله إلا الله) في التوحيد (ومعنى: لا حول ولا قوة إلا بالله) قريبا (ومن ليس قائلا بهما عن مشاهدة) معنييهما، (فلا يتصور منه حال التوكل، فإن قلت: ليس في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله إلا نسبة شيئين إلى الله) تعالى، وهما الحول والقوة (فلو قال قائل: السماء والأرض خلق الله، فهل يكون ثوابه مثل ثوابه؟ فأقول: لا؛ لأن الثواب على قدر درجة المثاب عليه، ولا مساواة بين الدرجتين) في المعنى الباطن، (ولا ينظر إلى عظم السماء والأرض، وصغر الحول والقوة، وإن جاز وصفهما بالصغر تجوزا فليست الأمور بعظم الأشخاص، بل كل عامي يفهم أن الأرض والسماء ليس من جهة الآدميين، بل هو من خلق الله تعالى، فأما الحول والقوة فقد أشكل أمرهما على المعتزلة والفلاسفة) وهم أهل اليونان، (وطوائف كثيرة) من الطبائعيين والحكماء (ممن يدعي أنه يدقق النظر في الرأي والمعقول حتى يشق الشعر) بنصفين (بحدة نظره) ودقة فكره (فهي مهلكة مخطرة، ومزلة عظيمة، هلك فيها الغافلون) عن أسرار النقول؛ (إذ أثبتوا لأنفسهم أمرا) زاعمين بذلك تنزيه الباري عما لا يليق، (وهو) في الحقيقة (شرك في التوحيد، وإثبات خالق سوى الله تعالى) ، فأي مزلة أعظم من هذه .

(فمن جاوز هذه العقبة بتوفيق الله إياه فقد علت رتبته، وعظمت طريقته، فهو الذي يصدق قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد ذكرنا) قريبا (أنه ليس في التوحيد إلا عقبتان إحداهما: النظر إلى السماء والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والغيم، والمطر وسائر الجمادات، والثانية: النظر إلى اختيار الحيوانات، وهي أعظم العقبتين وأخطرهما، وبقطعهما كمال سر التوحيد؛ فلذلك عظم ثواب هذه الكلمة أعني ثواب المشاهدة التي هذه الكلمة ترجمتها) وتفسيرها وبيانها، (فإذا رجع حال التوكل إلى التبري من الحول والقوة والتوكل على الواحد الحق) ، وهكذا عبر به عنه بعض الشيوخ (وسيتضح ذلك عند ذكرنا تفصيل أعمال التوكل إن شاء الله تعالى) ، والله الموفق بكرمه .




الخدمات العلمية