الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولو أغنى العلم عن الإرادة في تخصيص المعلوم حتى يقال : إنما وجد في الوقت الذي سبق بوجوده لجاز أن يغني عن القدرة حتى يقال : وجد بغير قدرة ; لأنه سبق العلم بوجوده فيه .

.

التالي السابق


ثم قال: (ولو أغنى العلم عن الإرادة في تخصيص المعلوم حتى يقال: إنما يوجد في الوقت الذي سبق العلم بوجوده لجاز أن يغني عن القدرة حتى يقال: وجد بغير قدرة; لأنه سبق العلم بوجوده) وهذه الجملة أوردها إمام الحرمين في سياق الرد على الكعبي من المعتزلة، ونصه: وزعم الكعبي أن كون الإله عالما بوقوع الحوادث في أوقاتها على خصائص صفاتها يغني عن تعلق الإرادة بها، وهذا باطل؛ إذ لو أغنى كونه عالما عن كونه مريدا لأغنى كونه عالما عن كونه قادرا، وقد وافقنا على افتقار أفعال المحدثين إلى إراداتهم. اهـ .

وقد اختلفت عباراتهم في برهان الإرادة، ففي "التذكرة الشرقية" لابن القشيري ما نصه: لأن فعله مرتب مختص بأوقات وأوصاف، وترتيب الفعل دال على كون فاعله مريدا له، قاصدا إليه، وفي "المدخل الأوسط" لابن فورك: ظهور فعله دليل على قدرته; لأن الفعل لا يظهر ممن لا قدرة له، كما لا يظهر ممن به عجز أو موت، وكونه محكما متقنا دليل على علمه; لأنه على إحكامه وإتقانه لا يتأتى ممن لا علم له، وكونه متقنا دليل على إرادة فاعله؛ إذ لا يصح ظهوره من غير ذي علم، كذلك لا يصح ظهوره من غير ذي قصد إليه، لولاه لم يكن وقوعه على وجه أولى من وقوعه على وجه آخر .

وقال أبو قاسم الإسكاف في "الكافي": وهو مريد; لأن قدرته تساوي بالإضافة إليها جميع المقدورات، وليس يقع منها إلا البعض على وجوه خاصة، فلا بد من إرادة تخصص بالوجود ما تخصص على الوجه الذي تخصص، وقال والد إمام الحرمين في "كفاية المعتقد": والدليل على إرادته تعالى وأنه مريد أن تخصيص حدوث المحدث بزمان دون زمان في مكان دون مكان على صفة دون صفة لا يصير معقولا إلا بإرادة مريد، وقال أبو القاسم القشيري في كتاب "الاعتقاد": الدليل على أن أفعاله مرتبة ترتيب الأفعال، واختصاصها ببعض المجوزات يوجب أن يكون فاعلها قاصدا إلى ترتيبه، وقال أبو الخير القزويني في معجمه "الحق": والدليل على كونه تعالى مريدا أن اختصاص الفعل شاهد يدل على كون فاعله مريدا، ونحن نرى أفعال الباري تعالى مخصوصة بأوقاتها وموصوفة بصفات مخصوصة، جاز في العقل وقوعها على اختلافها، فتدل على كون فاعلها مريدا لها .



وقال شيخ مشايخنا في إملائه: والدليل على إرادته تعالى أنه لو لم يكن مريدا لكان كارها; لأن الإرادة هي القصد إلى تخصيص الجائز ببعض ما يجوز عليه، وقد تقرر أن إرادة الله تعالى عامة التعلق بجميع الممكنات، فيستحيل وقوع شيء منها بدون إرادة منه تعالى؛ لوقوع ذلك الشيء، وقال السبكي في "شرح الحاجبية": قد ثبت أن صانع العالم فاعل بالاختيار، وكل فاعل بالاختيار مريد، فصانع العالم مريد، أما الصغرى: فلما مر من حدوث العالم الدال على أنه قادر مختار، وهو الذي إذا شاء فعل، وإذا لم يشأ لم يفعل، وأما الكبرى فلأن تخصيص الحوادث بحالة دون حالة هو الإرادة، أو تعلقها والتخصيص حاصل، فالإرادة ثابتة، وهو المطلوب. اهـ .

ونقل الغنيمي عن السنوسي في "شرح النظم": الإرادة صفة يترجح بها وقوع أحد طرفي الممكن على مقابله، وبرهان وجوبها له تعالى أن الحوادث قد اختصت من كل نوع من أنواع ستة، وهي: الوجود والعدم والمقادير والصفات والأزمنة والأمكنة والجهات، بأحد أمرين جائزين متساويين في قبول كل ذات حادثة لهما، واختصاص أحد الأمرين المتساويين بدلا عن مقابله بغير مرجح مستحيل، وإذا وجب الافتقار إلى المرجح فلا يصح أن يكون المرجح ذات الممكن; لأنه يلزم عليه اجتماع أمرين متساويين، وهما الاستواء بالذات، والرجحان بالذات، وذلك مستحيل لا يعقل، وأيضا لو ترجح للممكن من ذاته الوجود بدلا عن العدم لوجب استمرار عدمه؛ فلا يوجد أبدا؛ لأن المرجح الذاتي يستحيل زواله، وكلا القسمين باطل؛ فتعين أن يكون المرجح لاختصاص كل ممكن بأخذ الطرفين الجائزين عليه خارجا عن ذاته، والسر التام يقضي أن لا مرجح لاختصاص الممكن بأحد الجائزات عليه، بدلا عن مقابله إلا الإرادة، وهي قصد الفاعل إلى وقوع ذلك الجائز دون مقابله، اهـ المراد منه .



[ ص: 142 ] (فصل)

وأما المحدث فيقول: قد ثبت سمعا أن الله تعالى أراد الأشياء ويريدها، وقد خاطبنا بذلك من جهة معهود اللسان العربي، والمعهود في اللسان العربي أن الذي يريد الشيء هو الذي يخصصه على الحقيقة، ومن يخصص الشيء على الحقيقة فهو مريد; فصانع العالم مريد على الحقيقة .

وأما الصوفي فيقول: لا بد من تخصيص على الحقيقة، والمخصص على الحقيقة هو الذي لا يدافع تخصيصه إلا العالم على الحقيقة، ولا عالم على الحقيقة إلا الله تعالى .



(تنبيه)

هذه الأصول الأربعة التي ذ كرها المصنف ولاء، وذكر في كل أصل صفة من الصفات، قد ضم إليها ابن الهمام في مسايرته الثامن والتاسع، وهما في بيان قدم العلم والإرادة، وأورد الكل في فصل واحد، وقال: حاصل ستة، منها العلم بأنه تعالى قادر عالم حي مريد .

ثم قرر ما تضمنه الأصلان الأولان بما أورده هنا ممزوجا بشرح تلميذه ابن أبي شريف، قال: لما ثبتت وحدانيته في الألوهية ثبت إسناد كل الحوادث إليه تعالى، والألوهية: الاتصاف بالصفات التي لأجلها استحق أن يكون معبودا، وهي صفاته التي توحد بها سبحانه، فلا شريك له في شيء منها، وتسمى خواص الألوهية، ومنها الإيجاد من العدم، وتدبير العالم، والغنى المطلق عن الموجب والموجد في الذات، وفي كل من الصفات، فثبت افتقار الحوادث في وجودها إليه; فكل حادث من السموات وحركاتها بكواكبها الثابتة وحركات كواكبها السيارة على النظام الذي لا اختلاف فيه، والأرضين وما فيها وما عليها من نبات وحيوان وجماد وما بينهما من السحاب المسخر، ونحو ذلك، كل مستند في وجوده إلى الباري سبحانه، وهو مشاهد لنا منها كمال الإحسان في إيجادها، من إتقان صنعها، وترتيب خلقها، وما هديت إليه الحيوانات من مصالحها، وما أعطيته من الآلات على مقتضى الحكمة البالغة البارعة التي يطلع على طرف منها علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه، ويستلزم ذلك قدرته، أي ثبوت صفة القدرة له، وعلمه بما يفعله ويوجده، والعلم بهذا الاستلزام فيهما ضروري، ولكن ينبه عليه بأن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة، علم بالضرورة أن كاتبه المنشئ له عالم بتأليف الكلام والكتابة، قادر عليهما .

وينضم إلى هذا -أي إلى ثبوت العلم له تعالى- أنه هو الموجد لأفعال المخلوقات، فيلزمه -أي يلزم ما ذكر من المنضم والمنضم إليه- علمه بكل جزئي، خلافا للفلاسفة في قولهم: إنه تعالى يعلم الكليات، وإنه إنما يعلم الجزئيات على وجه كلي، لا على الوجه الجزئي، وهو باطل; إذ كيف يوجد ما لا يعلم، وقد أرشد إلى هذا الطريق قوله تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، هذا ما تضمنه الأصل الثالث; فقد قرره بقوله: والعلم والقدرة، أي: الاتصاف بهما بلا اتصاف بحياة محال، أي: وليس معنى الحياة في حقه تعالى ما يقوله الطبيعي من قوة الحس، ولا قوة التغذية، ولا القوة التابعة للاعتدال النوعي، التي يفيض عنها سائر القوى الحيوانية، ولا ما يقوله الحكماء، وأبو الحسن البصري من المعتزلة من أن معنى حياته تعالى كونه يصح أن يعلم ويقدر، بل هي صفة حقيقية قائمة بالذات، تقتضي صحة العلم والقدرة والإرادة .




الخدمات العلمية