الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقيل : كان في الزمان الأول رجل في سفر ومعه قرص ، فقال : إن أكلته مت فوكل الله : عز وجل : به ملكا ، وقال : إن أكله فارزقه وإن لم يأكله فلا تعطه غيره ، فلم يزل القرص معه إلى أن مات ، ولم يأكله وبقي القرص عنده .

وقال : أبو سعيد الخراز دخلت البادية بغير زاد فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد ، فسررت بأن وصلت ، ثم فكرت في نفسي أني سكنت ، واتكلت على غيره وآليت أن لا أدخل المرحلة ، إلا أن أحمل إليها ، فحفرت لنفسي في الرمل حفرة واريت جسدي فيها إلى صدري فسمعت صوتا في نصف الليل عاليا يا أهل المرحلة ، إن لله تعالى وليا حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه ، فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى القرية .

وروي أن رجلا لازم باب عمر : رضي الله عنه فإذا هو بقائل يقول يا هذا ، هاجرت إلى عمر أو إلى الله تعالى ؟ اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر ، فذهب الرجل وغاب حتى افتقده عمر فإذا هو قد اعتزل واشتغل بالعبادة ، فجاءه عمر ، فقال له : إني قد اشتقت إليك ، فما الذي شغلك عني ، فقال : إني قرأت القرآن ، فأغناني .

عن عمر وآل عمر ، فقال عمر .

رحمك الله ، فما الذي ، وجدت فيه فقال : وجدت فيه وفي السماء رزقكم وما توعدون ، فقلت : رزقي في السماء ، وأنا أطلبه في الأرض ، فبكى عمر وقال : صدقت فكان عمر بعد ذلك يأتيه ، ويجلس إليه .

وقال أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث فقلت : لا والله لا أستغيث فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان ، فقال أحدهما للآخر تعال ، حتى نسد رأس هذا البئر ؛ لئلا يقع فيه أحد ، فأتوا بقصب وبارية : وطموا رأس البئر : فهممت أن أصيح فقلت في نفسي : إلى من أصيح ؟ هو أقرب منهما وسكنت ، فبينا أنا بعد ساعة إذ أنا بشيء جاء ، وكشف عن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يقول : تعلق بي في همهمة : له كنت أعرف ذلك : فتعلقت به فأخرجني ، فإذا هو سبع فمر وهتف بي هاتف : يا أبا حمزة ، أليس هذا أحسن نجيناك من التلف ، بالتلف : فمشيت وأنا أقول .


نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف     تلطفت في أمري فأبديت شاهدي
إلى غائبي واللطف يدرك باللطف     تراءيت لي بالغيب حتى كأنما
تبشرني بالغيب أنك في الكف     أراك وبي من هيبتي لك وحشة
فتؤنسني باللطف منك وبالعطف     وتحيي محبا أنت في الحب حتفه
وذا عجب كون الحياة مع الحتف

وأمثال هذه الوقائع مما يكثر وإذا قوي الإيمان به ، وانضم إليه القدرة على الجوع قدر أسبوع من غير ضيق صدر وقوي الإيمان بأنه إن لم يسق إليه رزقه في أسبوع فالموت خير له عند الله عز وجل ، ولذلك حبسه عنه ، تم التوكل بهذه الأحوال والمشاهدات ، وإلا فلا يتم أصلا .

التالي السابق


(وقيل: كان في الزمان الأول رجل في سفر ومعه قرص، فقال: إن أكلته مت) جوعا (فوكل الله -عز وجل- به ملكا، وقال: إن أكله فارزقه) غيره (وإن لم يأكله فلا تعطه شيئا غيره، فلم يزل القرص معه إلى أن مات، ولم يأكله وبقي القرص عنده) فيه دلالة على التحذير من الحرص على الحاصل، وأقبح الحرص حرص العبد على الشيء حتى لا ينتفع به في نفسه، فضلا عن غيره من المحتاجين إليه، كما هنا، وهذه الحكاية أيضا أوردها القشيري في الرسالة، وفائدتها أن الحق تعالى إنما ضمن الكفاية للمحتاج، وهذا قد أغناه بالقرص، فاعتمد عليه فقد تسبب في إهلاكه نفسه بحرصه عليه، وفيه تنبيه على أن المتوكل يكون وثوقه بما في يد الله أوثق مما في يده .

(وقال: أبو سعيد) أحمد بن عيسى (الخراز) البغدادي المتوفى سنة 277 (دخلت البادية) مرة (بغير زاد) لأصحح توكلي (فأصابتني) فيها فاقة، أي جوع شديد (فرأيت المرحلة) ، أي القرية (من بعيد، فسررت بأني) قد (وصلت) ، أي: بقرب وصولي لها (ثم فكرت في نفسي أني سكنت) ، أي: حصل في هذا السرور سكون (واتكلت على غيره) تعالى في تحصيل ما أنا محتاج إليه، فعزمت على مخالفة نفسي (وآليت أن لا أدخل المرحلة) ، أي: حلفت أن لا أدخلها (إلا أن أحمل عليها، فحفرت لنفسي حفيرة وواريت فيها جسدي إلى صدري) ؛ تأديبا للنفس، وتوبيخا لها (فسمعت) ، وفي نسخة: فسمعوا (صوتا في نصف الليل عاليا) يقول: (يا أهل المرحلة، إن لله تعالى وليا حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه، فجاء جماعة) ممن سمع الصوت (فأخرجوني وحملوني إلى القرية) فقوي بذلك يقيني، وتمكن توكلي على ربي، وهذا وأمثاله يفعلون ذلك لتعلم اليقين، وهو أن يغلب على القلب أن الله تعالى على كل شيء قدير، وفيما ذكر دلالة على مراعاة الوفاء بالعهد مع الله فيما عزم عليه العبد من نيل المقامات الرفيعة، وفيه فضيلة للخراز، حيث أقسم على الله فأبره، وهذه الحكاية أيضا أوردها القشيري في الرسالة، قال: سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت علي بن محمد المصري يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: دخلت البادية مرة بغير زاد، فساقها .

(وروي أن رجلا لازم باب عمر -رضي الله عنه-) كل غداة، (فقال) له (عمر) ، وقد شهد فيه مجيئه لأجل الطلب: (يا هذا، هاجرت إلى عمر أو إلى الله؟ اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر، فذهب الرجل وغاب) زمانا (حتى افتقده عمر) فسأل عنه، فدل عليه، (فإذا هو قد اعتزل) الناس، (واشتغل بالعبادة، فجاءه عمر، فقال له: إني قد) افتقدتك (حتى اشتقت إليك، فما الذي شغلك عني، فقال: إني قرأت القرآن، فأغناني عن عمر وآل عمر، فقال) له (عمر رحمك الله، فما الذي وجدت فيه فقال: وجدت فيه وفي السماء رزقكم وما توعدون ، فقلت: رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض، فبكى عمر وقال: صدقت) وكانت موعظة له فيه (فكان عمر بعد ذلك يناوبه) ، أي: يأتيه نوبة بعد نوبة في الأحيان (ويجلس إليه) ، ويجتمع إليه، نقله صاحب القوت، وقال: فهذه علامة مراد مطلوب [ ص: 491 ] والطالب المردود إذا تعلم القرآن افتقر إلى الخلق، وازداد طمعا فيهم، وطغى في القرآن وتكبر، فالقرآن محنة تكشف المرادين والمردودين، وهي غنى للموقنين، وفقر للطامعين .

(وقال أبو حمزة الخراساني) مشهور بكنيته نيسابوري من أقران الجنيد مات سنة 210: (حججت سنة من السنين) على قدم التجريد والتوكل (فبينا أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر) عادية (ففازعتني نفسي أن أستغيث) بأحد (فقلت: لا والله لا أستغيث) توبيخا للنفس (فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان، فقال أحدهما للآخر) ، وأنا أسمع حديثهما (تعال يا فلان، حتى نسد رأس هذا البئر؛ لئلا يقع فيها أحد، فأتوا) ، كذا في النسخ، وكذا هو في الرسالة الأولى: فأتيا، أو يحتمل أن يكون معهما غيرهما كالخادم لهما (بقصب) فارسي (وبارية) أي: حصير (وطموا) أي: سدوا رأس البئر (فهممت أن أصيح) من داخل البئر فيسمعوا صوتي، فيخرجوني منها (فقلت في نفسي: إلى من أصيح؟ هو أقرب منهما) ، وفي نسخة: أصيح إلى من هو أقرب منهما، وفي أخرى أشكوا بدل أصيح (وسكنت) ، أي: حصل لي السكون والاطمئنان، أو في نسخة سكت (فبينا أنا بعد ساعة) ، وقد ذهب الرجلان (إذ أنا بشيء جاء، وكشف رأس البئر وأدلى رجله) فيها (وكأنه يقول: تعلق بي في همهمة) أي: صوت خفي (له كنت أعرف ذلك منه) أي: فهمت منها أنه يقول: تعلق بي (فتعلقت به فأخرجني، فإذا هو سبع) سخره الله لي (فمر) أي: جاوزني، وهتف بي هاتف، فقال: (يا أبا حمزة، أليس هذا أحسن) من نجاتك قبل طم رأس البئر (إن نجيناك من التلف) ، أي: من الهلاك (بالتلف) أي: المتلف (فمشيت وأنا أقول)

(

نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف تلطف في أمري فباديت شاهدي
إلى غائبي واللطف يدرك باللطف )

، أي: أبديت حالي الحاضر لحالي الغائب عني .

(

تراءيت لي بالغيب حتى كأنما تبشرني بالغيب أنك في الكف
أراك ولي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محبا أنت في الحب حتفه وذا عجب كون الحياة مع الحتف )

فالعبد لا يعيش مع مولاه حتى يموت عن أغراض نفسه وهواه، والغرض من جملة الأبيات أن الله تعالى يري العبد من عجائب قدرته ولطفه ما يغنيه عن فكره وكشفه، ومن الحياة السابقة يرى المتوكل أن الأفعال كلها لله تعالى، فإن المحرك له والمسكن له، وقد كان قادرا على أن يحفظ هذا من الوقعة في البئر؛ ليظهر تحقق توكله، ولهذا لم يصح في البئر حين سد رأسها، مع أنه كان متمسكا من إزالة البارية عن رأسها بلا كلفة إن تعين عليه الطلوع، وهذه الحكاية مع الأبيات أوردها القشيري في الرسالة، فقال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: قال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة من السنين فساقها .

وقد اعترض المنكر على المصنف خاصة في تقرير فعل أبي حمزة الذي ذكرتم على الصوفية عامة، وقالوا: إن الذي فعله أبو حمزة لا يجوز شرعا، وقد أجاب عليه الشيخ عبد الوهاب الشعراني في الأجوبة المرضية، وقد سبق في مقدمة كتاب العلم شيء من ذلك .

وحاصله أنه لا ينبغي المبادرة إلى الاعتراض فإن أبا حمزة لم يصدر منه ذلك إلا بعد أن منحه الله تعالى يقينا كاملا، وقلبا مشاهدا، وحالا غالبا، وحبا زاجرا وعاجزا عليه أن يلتفت إلى غير مولاه، أو يرى معه فاعلا سواه، وسبقه إلى هذا الجواب القطب عبد الله بن سعد اليافعي -قدس سره- فقال في جملة كلامه: ولو أنه كان حصل لهذا المنكر على أبي حمزة نفحة من نفحاته لما أنكر عليه، قال: والعجب كل العجب ممن ينكر ويعترض على من يراه من الأولياء فانيا عما سوى الحق تعالى مشاهدا له لا يرى في الملك والملكوت إلا من هو أشفق عليه من أمه بل من نفسه، مع أنه لما وقع لأبي حمزة شاهد عظيم في الشرع، وهو ما وقع لسيدنا إبراهيم -عليه السلام- لما ألقي في النار، وجاءه جبريل -عليه السلام- فقال: أنا جبريل ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فسل ربك ينجيك فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فهل كان هذا من إبراهيم عليه السلام إلا من كمال يقينه وفنائه عن نفسه، حتى لم يشهد غير الحق جل جلاله (وأمثال هذه الوقائع مما يكثر) وقوعها، (وإذا قوي الإيمان به، وانضم [ ص: 492 ] إليه القدرة على الجوع قدر أسبوع) أو ما يقاربه (من غير ضيق صدر) ولا ملالة نفس (وقوي الإيمان بأنه إن لم يسق إليه رزقه في أسبوع فالموت خير له عند الله عز وجل، ولذلك حبسه عنه، تم) وصف (التوكل بهذه الأحوال والمشاهدات، وإلا فلا يتم أصلا) والله الموفق .




الخدمات العلمية