الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقيل : في معنى قوله : فصبر جميل لا : شكوى فيه وقيل ليعقوب عليه السلام : ما الذي أذهب بصرك قال : مر الزمان وطول الأحزان فأوحى الله تعالى إليه تفرغت لشكواي إلى عبادي فقال : يا رب أتوب إليك وروي عن طاوس ومجاهد أنهما قالا يكتب على المريض أنينه في مرضه وكانوا يكرهون أنين المرض ؛ لأنه إظهار معنى يقتضي الشكوى حتى قيل ما أصاب إبليس لعنه الله من أيوب عليه السلام : إلا أنينه في مرضه ، فجعل الأنين حظه منه وفي الخبر إذا مرض العبد أوحى الله تعالى إلى الملكين : انظرا ما يقول لعواده ، فإن حمد الله وأثنى بخير دعوا له وإن ، شكا وذكر شرا قالا كذلك تكون .

وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية خوف الزيادة في الكلام فكان بعضهم إذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ فيخرج إليهم ، منهم فضيل ووهيب وبشر وكان فضيل يقول : أشتهي أن أمرض بلا عواد وقال لا أكره العلة إلا لأجل العواد رضي الله عنه وعنهم أجمعين .

كمل كتاب التوحيد والتوكل بعون الله وحسن توفيقه يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا والله سبحانه وتعالى الموفق . .

التالي السابق


(وقيل: في قوله تعالى: فصبر جميل) والله المستعان قال: (لا شكوى فيه) كذا في القوت، روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الصبر الجميل الذي ليس فيه الشكوى إلا إلى الله -عز وجل-، وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن حيان بن أبي جبلة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: فصبر جميل ، قال: ليس فيه جزع (قيل ليعقوب -عليه السلام-: ما الذي أذهب بصرك) وحنى ظهرك؟ (قال: مر الزمان وطول الأحزان) قال: (فأوحى الله إليه تفرغت بشكواي) ، وفي نسخة: تشكوني (إلى عبادي) ، وفي نسخة: إلى خلقي، (قال: يا رب أتوب إليك) هكذا في القوت . وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب -عليه السلام- كان قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما بلغ بك هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه يا يعقوب، أتشكوني؟ قال: خطيئة أخطأتها فاغفر لي . وروى ابن أبي حاتم عن نصر بن عزلي قال: بلغني أن يعقوب عليه السلام لما طال حزنه على يوسف ذهبت عيناه من الحزن فجعل العواد يدخلون عليه فيقولون: السلام عليك يا نبي الله، كيف تجدك؟ فيقول: شيخ كبير قد ذهب بصري، فأوحى الله إليه يا يعقوب شكوتني إلى عوادك؟ قال: أي يا رب، هذا ذنب عملته لا أعود إليه فلم يزل بعد يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وروى إسحاق بن راهويه في تفسيره وابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والطبراني في الأوسط وابن مردويه، والحاكم والبيهقي في الشعب من حديث أنس: كان ليعقوب -عليه السلام- أخ مؤاخ فقال له ذات يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: يا يعقوب إن الله -عز وجل- يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي تشكوني إلى غيري؟ فقال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو . . الحديث (وروي عن طاوس ومجاهد) رحمهما الله تعالى، وهما من كبار التابعين (أنهما قالا يكتب على المريض أنينه في مرضه) كذا في القوت . قلت: وقد روي هذا مرفوعا من حديث علي: يكتب أنين المريض، فإن كان صابرا كان أنينه حسنات وإن كان أنينه جزعا كتب هلوعا لا أجر له . رواه أبو نعيم، (وكانوا يكرهون أنين المريض; لأنه إظهار معنى يقتضي الشكوى) ، ولفظ القوت يدل على الشكوى (حتى قيل ما أصاب إبليس لعنه الله من أيوب -عليه السلام- إلا أنينه في مرضه، فجعل الأنين حظه) ، أي: حظ الشيطان (منه) كذا في القوت، وهذا إذا كان جزعا وتسخطا وكراهية لما قدره الله تعالى عليه، كما فهم ذلك من حديث علي السابق لا مطلق الأنين فإن المريض قد يضطر إليه وهو مع ذلك راض بقلبه مطمئن النفس بما قدره الله عليه صابر غير متسخط، كيف وقد ورد: أنين المريض تسبيح وصياحه تهليل ونفسه صدقة، ونومه على الفراش عبادة، وتقلبه من جنب إلى جنب كأنما يقاتل العدو في سبيل الله، يقول الله سبحانه لملائكته: اكتبوا لعبدي أحسن ما كان يعمل في صحته، فإذا قام ثم مشى كان كمن لا ذنب له . رواه الخطيب والديلمي من حديث أبي هريرة، وقالا: رجاله معروفون [ ص: 538 ] بالثقة إلا حسين بن أحمد البلخي فإنه مجهول، (وفي الخبر إذا مرض العبد أوحى الله تعالى إلى الملكين: انظرا ما يقول لعواده، فإن حمد الله وأثنى عليه بخير دعوا له، فإن شكا وذكر شرا قالا كذلك تكون) ، ولفظ القوت: انظروا ما يقول عبدي لعواده، فإن حمدني وأثنى علي بخير ادعوا له وقولوا كذلك أنت، والباقي سواء، وقد روى الدارقطني في الغرائب وابن صخر في عوالي مالك من حديث أبي هريرة: إذا مرض العبد بعث الله تعالى إليه ملكين فيقول: انظرا ما يقول لعواده، فإن هو إذا دخلوا عليه حمد الله تعالى رفعا ذلك إلى الله تعالى، وهو أعلم فيقول: لعبدي إن أنا توفيته أدخله الجنة . . الحديث، وقد ذكر قريبا (وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية وخوف الزيادة في الكلام) بأن يخبر عن العلة بأكثر منها، فيكون بذلك كفر النعمة بين بلاءين (فكان بعضهم إذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ) من مرضه (فيخرج إليهم، منهم فضيل) بن عياض (ووهيب) بن الورد المكي (وبشر) بن الحارث الحافي رحمهم الله تعالى، (وكان فضيل يقول: أشتهي أن أمرض بلا عواد) رواه أبو نعيم في الحلية عن محمد بن حشيش، حدثنا أحمد بن محمد البرائي، حدثنا بشر بن الحارث قال: قال فضيل . . . فذكره، (وقال) أيضا (لا أكره العلة إلا لأجل العواد) ولفظ القوت: ما أكره العلة إلا لأجل العيادة .

وبه تم كتاب التوحيد والتوكل وشرحه بمنة الله وحسن عونه وتوفيقه، ولنختمه بما أورده القشيري في الرسالة وأبو طالب في القوت وغيرهما في هذا الباب . قال القشيري بسنده إلى أحمد بن خضرويه قال: قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ، وقال إبراهيم الخواص: من صح توكله في نفسه صح توكله في توكله، وقال بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله لو توكل على الله رضي بما يفعل الله به، وبسنده إلى الكتاني سمعت أبا جعفر بن الفرجي يقول: رأيت رجلا من الشطار يعرف بجمل عائشة يضرب بالسياط فقلت له: أي وقت يكون ألم الضرب عليكم أسهل؟ فقال: إذا كان من ضربنا لأجله يرانا، وقالالحسين بن منصور الحلاج: المتوكل المحق لا يأكل وفي البلد من هو أحق به منه، وسئل سهل عن التوكل فقال: قلب عاش مع الله بلا علاقة، وقال يحيى بن معاذ: لبس الصوف حانوت، والكلام في الزهد حرفة وصحبة القوافل لغرض، وهذه كلها علاقات، وجاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال فقال له: ارجع إلى بيتك فمن ليس له رزق على الله فاطرده عنك . وبسنده قال إبراهيم الخواص: كنت في طريق مكة فرأيت شخصا وحشيا فقلت: جني أم إنسي؟ فقال: جني، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة، فقلت: بلا زاد؟ فقال: نعم، فينا أيضا من يسافر على التوكل، فقلت: إيش التوكل؟ فقال: الأخذ من الله، وبسنده إلى أبي حمزة قال: إني لأستحي من الله أن أدخل البادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل لئلا يكون شبعي على الشبع زادا أتزوده . وسئل حمدون عن التوكل فقال: تلك حالة لم أبلغها بعد، فكيف يتكلم في التوكل من لم يصح له حال الإيمان؟!! وعن بعضهم قال: كنت في البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدامي واحدا فسارعت حتى أدركته، فإذا هو امرأة بيدها ركوة وعكاز تمشي على التؤدة، فظننت أنها أعيت فأدخلت يدي في جيبي فأخرجت عشرين درهما فقلت: خذيها وامكثي حتى تلحقك القافلة لتكثري بها ثم ائتيني الليلة حتى أصلح لك أمرك، فقالت بيدها هكذا في الهواء، فإذا في كفها دنانير من الغيب وناولتني وقالت: أنت أخذت الدراهم من الجيب وأنا أخذت الدنانير من الغيب . ورأى أبو سليمان الداراني رجلا بمكة لا يتناول إلا شربة من ماء زمزم فمضى عليه أيام فقال له أبو سليمان يوما: أرأيت لو غارت زمزم إيش كنت تشرب؟ فقام وقبل رأسه وقال: جزاك الله خيرا حيث أرشدتني، فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ومضى، وقال إبراهيم الخواص: رأيت في طريق الشام شابا حدثا حسن المراعاة فقال لي: هل لك من الصحبة؟ فقلت: إني أجوع، فقال: إن جعت جعت معك فبقينا أربعة أيام ففتح علينا بشيء فقلت: هلم فقال: اعتقدت أن لا آخذ بواسطة، فقلت: يا غلام دققت، فقال: يا إبراهيم لا تبهرج، فإن الناقد بصير ما لك والتوكل؟ ثم قال: أقل التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو نفسك إلا إلى من إليه الكفايات، وسئل الحارث المحاسبي عن المتوكل هل يلحقه طمع؟ فقال: يلحقه من طريق الطباع خطرات ولا تضره شيئا، ويقويه على إسقاط الطمع اليأس عما في أيدي الناس، وقيل: جاع الثوري في البادية فهتف به هاتف: أيما أحب إليك سبب [ ص: 539 ] أو كفاية؟ فقال: الكفاية ليس فوقها نهاية فبقي سبعة عشر يوما لم يأكل . . . وبسنده إلى الحسن الخياط قال: كنت عند بشر الحافي فجاءه نفر فسلموا عليه فقال: من أنتم؟ فقالوا: نحن من الشام جئنا نسلم عليك، ونريد الحج، فقال: شكر الله لكم، فقالوا: تخرج معنا؟ قال: بثلاث شرائط; لا نحمل معنا شيئا ولا نسأل من أحد شيئا، وإن أعطانا أحد لا نقبل، فقالوا: أما أن لا نحمل، فنعم، وأما أن لا نسأل فنعم، وأما أن لا نقبل إن أعطينا فهذا ما لا نستطيع فقال: أخرجتم متوكلين على زاد الحجاج؟، وقيل لحبيب العجمي: لم تركت التجارة؟ فقال: وجدت الكفيل ثقة، وقيل: من وقع في ميدان التفويض يزف إليه المراد، كما تزف العروس إلى أهلها والفرق بين التفويض والتضييع أن التفويض في حقك، وهو محمود، والتضييع في حق الله وهو مذموم، انتهى ما في الرسالة . وقال صاحب القوت: حدثونا عن بعض السلف، قال: رأيت بعض العباد من أهل البصرة في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، فقلت: أي الأعمال وجدت هناك أفضل؟ قال: التوكل وقصر الأمل، وفي وصية لقمان، ومن الإيمان بالله التوكل على الله، وأن التوكل يحبب العبد إلى الله وأن التفويض إلى الله من هدى الله وبهدى الله يوافق العبد رضوان الله، ومن موافقة العبد رضوان الله يستوجب كرامة الله، وكان سهل يقول: العلم كله باب من التعبد، والتعبد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل وقال: ليس للتوكل حد ولا غاية ينتهى إليه، وقال: التوكل واليقين مثل كفتي الميزان، والتوكل لسانه به يعرف الزيادة والنقصان، وقال: التوكل هو التفويض ثم الرضا، وكان الحسن يقول: الغنى والعز يجولان في طلب التوكل، فإذا طفرا به وطناه وفي هذا المعنى قيل:


يجول الغنى والعز في كل موطن ليستوطنا قلب امرئ إن توكلا ومن يتوكل كان مولاه حسبه
وكان له فيما يحاول معقلا إذا رضيت نفسي بمقدور حظها
تعالت وكانت أفضل الخلق منزلا

ويقال: إن الخوف من المخلوقات عقوبة نقصان الخوف من الخالق، فإن ذلك من قلة الفقه عن الله وضعف التوكل عليه، وقال ابن يعقوب السوسي: المتوكل إذا رأى السبب أو ذم أو مدح فهو مدع لا يصح له التوكل، وقال الخواص: التوكل هو الاكتفاء بعلم الله فيك من تعلق القلب بسواه . وقال عامر بن عبد الله: قرأت ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا فيه، فاستغنيت بقوله تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله قلت: إن أراد أن يضرني لم يقدر أحد أن ينفعني، وإن أعطاني لم يقدر أحد أن يمنعني، وقوله سبحانه: فاذكروني أذكركم فاستغنيت بذكره عن ذكر من سواه، وقوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، فوالله ما هممت برزقي منذ قرأتها فاسترحت .

وقال سهل: ليس مع الإيمان أسباب، إنما الأسباب في الإسلام يعني ليس في حقيقة الإيمان رؤية الأسباب والسكون إليها، وإنما رؤيتها والطمع في الخلق يوجد في مقام الأسباب، فحال المتوكل سكون القلب عن الاستشراك وقطع الهم عن التطلع لما بأيديهم وعكوف القلب على المدبر الحق مشغول الفكر بقدرة المقدر لا يحمله عدم الأسباب على ما حذره العلم عليه وذمه، ولا يمنعه أن يقول الحق وأن يعمل به، أو يوالي في الله ويعادي فيه جريان الأسباب على أيدي الخلق فيترك الحق حياء منهم، أو طمعا فيهم، أو خشية قطع المنافع المعتادة، ولا يدخله طوارق الحاجات ونوازل الضرورات في الانحطاط في أهواء الناس، والميل إلى الباطل أو في السكون عن حق أن يلزمه، أو يوالي عدوا، أو يعادي وليا ليرى بذلك حاله عندهم، أو يشكر بذلك ما أسدوه إليه بالكف عنهم، ولا يرى الصنعة التي قد عرف بها لقوة نظره إلى الصانع ولا يتصنع لمصنوع دخيلة لعلمه بسبق الصنع لدوام مشاهدته ولا يسكن إلى عادة عن خلق، ولا يثق بمعتاد من مخلوق إذ أيقن برزقه وضره ونفعه من أحد، فهذه المعاني من فرض التوكل، فإن وجدت في عبد خرج بها من حد التوكل دون فضائله ويدخله في ضعف اليقين، وقد كان الأقوياء إذا دخل عليهم شيء من هذه الأهواء المفسدة لتوكلهم قطعوا تلك الأسباب وحسموا أصولها واعتقدوا تركها، وعملوا في مفارقة الأوطان وفي التغرب عن الأمصار الآلاف والإيلاف فأخرجوا ذلك حيث دخل عليهم، ووضعوا عليه دواءه وضده من حيث تطرق إليهم حتى ربما فارقوا ظاهر العلم [ ص: 540 ] وخالفوا علماء الظاهر إلى علوم الباطن ومقتضى مشاهدتهم ومواجيد حالهم لئلا تسكن قلوبهم إلى غير الله، ولا تقف همتهم مع السلوى ولا تطمئن نفوسهم إلى غيره، ولا يتخذوا سكنا سواه ولا يسكنوا إلى هوى النفس فيخدعوا بسكونها عن سكون القلب فيسبي ذلك عقولهم ويوهن عزمهم ويضعف يقينهم الذي هو الأصل فيخسروا رأس المال وتفوتهم حقيقة الحال، فماذا يربحون وبأي شهادة يقومون .



* (فصل) * وقال بعضهم: التوكل هو الفرار من التوكل، أي يتوكل ولا ينظر إلى توكله أنه لأجله يكفي، أو يعافى فجعل نظر حال توكله علته لا أن توكله يلزمه الفرار منها حتى يدوم نظره إلى الوكيل وحده بلا خلل، ويقوم له بشهادة منه بلا ملل ولا يكون بينه وبين الوكيل شيء ينظر إليه، أو يعول عليه، أو يدل به حتى التوكيل أيضا الذي هو طريقه وجاء رجل إلى بشر الحافي فقال: إني قد عزمت على السفر إلى الشام، وليس عندي زاد، فما ترى؟ فقال: يا هذا اخرج فيما قصدت له، فإن لم يعطك ما ليس لك لم يمنعك مالك، وشكا رجل إلى الفضيل حاله فقال: يا هذا أمدبرا غير الله تريد؟ وقال الحسن في تفسير قوله تعالى: وقدر فيها أقواتها خلق الأرزاق قبل الأجسام بألفي عام، فالمتوكل لا يطالب مولاه برزق غد كما لا يطالبه مولاه بعمل غد، ويقال: من اهتم برزق غد فهي خطيئة تكتب عليه، وقال الثوري: الصائم إذا اهتم في أول النهار بعشائه كتبت عليه خطيئة، وكان أبو سهل يقول: لنقص ذلك من صومه، وقال: أعرف في البصرة بقرة يغدي على مولاهم برزقهم من الجنة وعشيا يرون منازلهم من الجنة، وعليهم من الغموم والكروب ما لو قسم على أهل البصرة لماتوا، قيل: ولم؟ قال كانوا إذا تغدوا قالوا بأي شيء نتعشى، وإذا تعشوا قالوا: بأي شيء نتغدى وقال مرة: لم يكن لي من التوكل والرضا نصيب، فهذه المقامات من فضائل التوكل وفوقها ما لا يصلح رسمه في كتاب من مكاشفات الصديقين ومشاهدات العارفين منها أنه أعطاهم كن بإعطائه إياهم ... فزهدوا في كون كن لأجل كان توكلا على كينونة الكينات وحياء منه أن يعارضوه في قدرته، أو ينازعوه في ملكه، أو يرغبوا عن تقديره، أو يضاهوه في كونه; لأن تدبيره عندهم أحكم وأتقن، وهو بالعواقب أعلم وأخبر، وهم له أشد إجلالا مما نقدر نحن ونعلم .



* (فصل) * قال سهل في معنى قول الله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت يمحو الأسباب من قلوب العارفين، ويثبت القدرة ويمحو المشاهدة من قلوب الغافلين، ويثبت الأسباب في صدورهم وقال: خلق الله النفس متحركة ثم أقرها بالسكون، وهذا هو الابتلاء، فإن تداركها بالعصمة سكنت، وهذا هو خصوص وإن تركها تحركت بطبعها، وهذا هو الخذلان، وكان الخواص يفرق بين العموم والخصوص بوجود الحركة والسكون فقال: القلوب على حالين، فمن دامت حركته وسعيه كان موصوفا بنفسه لغلبة شاهد النفس عليه لقوله تعالى: وكان الإنسان عجولا ومن دام سكونه كان موصوفا بالحق لغلبة شاهد الحق في سكينته لقوله تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب وقال النهرجوري في معناه: قلوب الأولياء مواضع المطالع لا تتحرك ولا تنزعج، بل تطمئن خوفا أن يرد عليه مفاجاة مطالعة فتجده مترسما بسوء الأدب، وقال بعض أهل المعرفة في تأويل قوله تعالى: ورزق ربك خير وأبقى قال: هو التوكل; لأنه أبقى للعبد من الطلب وخير له من السعي والتعب، ويروى أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين: أدرك لي لطف الفطنة وخفي اللطف، فإني أحب ذلك، قال: يا رب وما لطف الفطنة؟ قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أوقعتها فسلني أرفعها، قال: وما خفي اللطف؟ قال: إن أتتك فولة مسوسة فاعلم أني ذكرتك بها، وكان الخواص يقول: من رجع عند الشدائد إلى سبب أو علاج يستشفي به، أو حركت رهبة المخلوقين صفته فقد برئ من خصوص التوكل وبقي مع عمومه وقال السري -رحمه الله تعالى-: ثلاث يستبين بهن اليقين بالخوف مواطن الهلكة، والتسليم لأمر الله عند نزول البلاء، والرضا بالقضاء عند زوال النعمة . وقال يوسف بن أسباط: كان يقال ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه، من إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى باطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له، وقد روي ذلك مسندا، فهذه أوصاف المتوكل وهي علامة حسن اليقين، وقال داود لابنه سليمان عليهما السلام: يا بني يستدل على تقوى العبد بثلاث; حسن توكله فيما يأتيه، وحسن رضاه فيما أتاه، وحسن صبره فيما فاته [ ص: 541 ]


* (فصل) *

لا يضر التصرف والتكسب ممن صح توكله، ولا يقدح في مقامه ولا ينقص حاله إذا أحكم فيه معنيين، النظر إلى التوكيل في أول الحركة فيكون متحركا به، والرضا في الحكم بعد التصرف فيكون مطمئنا إليه، وقد كان الصانع بيده أحب إليهم من التاجر، والتاجر أحب إليهم من البطال، فإن كان حال المتوكل التصرف فيما قد وجه فيه دخل في الأسباب، وهو ناظر إلى المسبب في تصريفه معتمد عليه، واثق به في حركته مكتسب فيما يقلبه فيه مولاه متيقن فيما يسببه له ويوجهه فيه وكيله، وهو عالم بإذن الله تعالى قد أودع الأشياء منافع خلقه وجعلها خزائن حكمته ومفاتيح رزقه، مجتمع الخلق بجانبه غير متشتت بتفرق همه متبع للسنة والأثر تارك للترفه والنعمة، فهو في تكسبه وتصرفه أفضل ممن دخلت عليه العلل في توكله فساكنها وسكن إلى سكون نفسه في بطالتها وفراغها من هم الآخرة طلبا لراحتها، ومن دخلت عليه الآفة في ترك التكسب فليخرج منها إلى الاحتراف، ومن دخل عليه اليقين واقتطع فليقعد عن الاكتساب، ومن اعتل بالتكسب فليداو بتركه، ومن صح فيه وأوجبه الحكم فليكتسب، والتكسب خير من التشرف إلى الخلق ومن الطمع فيهم واعتياد المسألة، وسالكه على طريقه فهو يصل وإن كان في طريقه بعد، والتوكل إذا اعتد به واقتطع عن أربه ناظرا إلى الوكيل منتظرا للوارد متفرغا للفوائد أفضل; إذ صح في ذلك وصدقت حاله واستقام عليه فهو طريق قريب وسالكه مقرب .



* (فصل) *

قال أبو يعقوب السوسي: التوكل على ثلاث مقامات: عام وخاص وخاص خاص، فمن دخل في الأسباب واستعمل العلم وتوكل على الله وتحقق اليقين فهو خاص عام، ومن خرج من الأسباب على حقيقة بوجود اليقين ثم دخل في الأسباب فتصرف لغيره فهو خاص خاص، قال: وهذا وصف الطبقة العليا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العشرة وغيرهم جردهم اليقين من الدنيا فأدخلهم العلم في الأسباب لغيرهم، ردت عليهم أحوال الغير وجعلوا رازقين لهم فتصرفوا فيها من التعلق بها وقال أيضا: الناس في التوكل على ضربين: طالب له ومطلوب به، فالمطلوب بالتوكل مستعمل بحقائقه مرفوع إلى أعلى غايته، مطالب بالعمل فيه، محق نفسه، وذهب آثاره بمحو رسمه وشاهده، والطالب له توجه بالزهد وترك الأسباب القاطعة، وعمل في حذف كل شاغل يشغله، أو يحول بينه وبين قصده فهو مجتهد في الانفراد .



* (فصل) *

قال بعضهم: التوكل العمل في قطع الطمع، ونفي الركون إلى الأسباب ويكون نظر الله له في المنع أفضل عنده من نظره إليه في العطاء، وأن يجد في المنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء، ومن علم أن الله قصده فالمنع فرح وعلامة ركونه إلى من عوده البر من الخلق ترك القيام عليه بالحق، وترك النصيحة له والانبساط إليه، وكثرة السلام عليه دون غيره ممن لا يبره، ودوام تطلع القلب إلى لقائه ومجيء أسبابه، وعلامة ركونه إلى الأسباب خوف زوالها قبل أن تزول، فإن زال منها شيء لحق عليه الوهن والتمسك بما بقي خوف الفقر .



* (فصل) *

من ألطف ما قيل في السكون إلى غير الله والنظر إلى سواه قول أهل المعرفة في معنى قول الخليل -عليه السلام- واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ، قال: إن أسكن إلى الخلة وهبتها لي، أو بنظر نبوة إلى النبوة التي جعلتها لهم فيحتجبون بذلك عنك، وقال بشر: إن العبد ليقرأ: إياك نعبد وإياك نستعين ، فيقول الله تعالى: كذبت ما إياي تعبد ولا بي تستعين لو كنت إياي تعبد لم تؤثر هواك على رضاي، ولو كنت بي تستعين لم تسكن إلى جلدك وقوتك ولا إلى مالك .



* (فصل) *

قال أبو تراب النخشبي: ليس التوكل أن تتوكل لتكفى ولو عرض ذلك للمتوكلين لتابوا، ولكن تحل بقلبه الكفاية بالله، فصدق الله فيما ضمن فألقى الكفن بين يديه . وقال الخواص: بلغنا أنه التقى موسى والخضر عليهما السلام، وكان موسى أشد جوعا من الخضر، فإذا غزالان قد سقط أحدهما مشويا إلى الخضر وسقط الآخر مذبوحا بجلده ورأسه إلى موسى فقال له الخضر: قم يا موسى فبقدر ما بقي في نفسك من الاهتمام برزقك تتعب، فاعلم أني أنا توكلت فكفيت وأنت اهتممت فعنيت . ويروى من طريق آخر قال موسى للخضر: كيف هذا وقع إليك [ ص: 542 ] نصفه مشويا ووقع نصفه لي نيأ فقال له الخضر: إنه لم يبق لي في هذه الدنيا أمل . وفي رواية: ليس لي في هذا الخلق حاجة، وكان بشر -رحمه الله تعالى- قصير الأمل لم يكن يأمل البقاء من وقت صلاة إلى وقت صلاة أخرى، وكان إذا صلى الظهر يقول للجيران: اطلبوا لكم من يصلي لكم العصر، وكان يقول: أنا ضيف في دار مولاي إن أطعمني أكلت متى أطعمني وإن أجاعني صبرت حتى يطعمني .



* (فصل) *

قال الخواص: الرزق ليس فيه توكل، ولو كان لا ينال الرزق إلا بالتوكل كان الضعيف ومن لا يحسن التوكل يموت، يصحح ذلك قوله تعالى: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ، فهذا الخطاب من الله لخلقه يقتضي من الخلق ترك حمل الأرزاق لوقت لم يأت لطيفة من الله دعاهم منها إلى مواضع الراحة من الاشتغال بحمل ما قد ضمنه لهم، وتوكل باستخراجه إليهم وحجة منه عليهم ألزمهم إياها، وقوله تعالى بالضمان لأرزاق الخلق: الله يرزقها وإياكم ، يقتضي السكون إليه بالثقة به فيما ضمن وتكفل باستخراجه والصبر على وعده حتى يخرج إليه المضمون من أماكنه قال: ففي هذا دليل على تجويز الحركة والسبب للمتوكل، وأن ذلك لا ينقص توكله إذ الدابة المرزوقة بالله من الله، وقد تدب وتتسبب إلى مواضع الرزق، وقد تدخر النملة والفأرة، وهما من الدواب، وقد يجمع بعض الطير في عشه ويجلب إلى وكره لكن يحتاج المتوكل في دبيبه وحركته وذخره بمعنى النملة إلهاما وتوفيقا ونظرا إلى الوكيل بمعقول وتدبير، وكذلك القول في التمثيل الوارد في الخبر السابق تغدو خماصا وتروح بطانا، فالطير وإن لم يكن من وصفها أن تحمل ولا من فعلها أن تدبر وتعقل، فإنها تتحرك وتقصد لقوله: تغدو، فغدوها تسبب وقصدها أماكن معاشها تعيش، وقد أضاف الرازق إليه وجمع بيننا وبينه فيه فقال: وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين الهوام والأنعام فعمنا وإياها بالتحمل إلينا بأن المعايش في الأرض منه علينا إنعام .



* (فصل) *

قال الخواص: الذي قيد أن يسرح في الأرض حيث شاء قلة تصديقه بمجيء الأرزاق إليه حيث كان، وضعف علمه بأن الله معه في كل مكان، وأن الله تعالى يضيق حيث يشاء، ويوسع حيث يشاء، ويؤمن حيث يشاء، ويخيف حيث يشاء، فمن كان ناظرا إلى الله فيما يفتح له أسباب الرزق معتمدا عليه في استخراجه كان البر والبحر والسفر والحضر عليه سواء; لأن من تولى الله كفايته في الحضر تولى كفايته في السفر، ومن كان معتمدا على تكلفه وحيلته لم يتهيأ له أن يفارق العمران، ولو أن عبدا مع مولاه في السفر لكان قلبه قد سكن إليه أن يطعمه حيث سافر معه، وهكذا من علم أن الله سبحانه معه لم يحتج أن يحمل زادا ولا إداوة ويصحح ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للسائل وقد أعطاه: " لو لم تأتها لأتتك" دلالة على ترك الحركة وتوبيخا له في حركته بعد حجة الضمان لمجيء الأرزاق لوقتها، ونهيا له عن السعي إلا ما وقع التصديق بمجيئه لوقته . قال صاحب القوت: وهذا طريق الأقوياء الصابرين، وليس هذا طريق الضعفاء المريدين; إذ لا يقاس الضعيف الجزوع بالقوي الصبور، وكان منهم إبراهيم الخواص وأبو تراب النخشبي وذو النون وحاتم الأصم وعلي الرازي، فإن هؤلاء خصوص المتوكلين وما جرى لهم من الوقائع يدل على أحوالهم .



* (فصل) *

قال الخواص: الاستطاعة على ثلاثة وجوه أعلاها استطاعة بقوة المعرفة وصحة التوكل، وهذه الطائفة نفذت بصدق موكلها لم تعرج على سبب ولا استأذنت أحدا، ولا يقع الاستئذان إلا من ضعف المعرفة وقلة الهداية، وكل من استأذن فالرفق به أولى، كما في الخبر: اعقلها وتوكل، والاستطاعة الأخرى قوة البدن والصبر على المشي والضر، والثالثة بسعة المال، فمن لم يكن عنده أحد هذه الوجوه فليتوقف عن الحج، والزاد مباح للعموم إلا أن الله تعالى قد دل على خير الزاد بقوله: فإن خير الزاد التقوى ، فمن تزود التقوى نجا ولم يخف في طريقه; لأن الله مع الذين اتقوا، ومن التقوى أن لا يقول العبد: غدائي من أين؟ لقول الحق: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وقال وهب: يقول الله تعالى: ابن آدم اتق ونم حيث شئت، فالرزق ليس فيه توكل، وإنما فيه تدبر، ويقوى على قدر معرفته بما صبر له، ولمن صبر، ومعنى الصبر حبس النفس على الوعد بمجيء المضمون ومنعها من الحركة والتطلع إلى مجيئه حتى يسوق الله الأقسام من أماكنها، فمتى رجع الصابر إلى سبب يبتدئ فيه بالحركة من نفسه فقد خرج من حالة الصبر ضيقا من تحمل مؤنته، وهذا مقام المؤمن القوي من المتوكلين .



[ ص: 543 ] * (فصل) *

قال صاحب القوت: أخبرني أبو بكر بن يعقوب الوراق عن إبراهيم الخواص أنه كان يقول: إن سمع المتوكل خلفه بحركة شديدة فتجرد لها قلبه خرج من حد هذا التوكل المخصوص التفت إليها أو لم يلتفت، وهكذا لو طالت أيامه بالسير في البرية إذا كان فيها، واستعان في مسيره بعكازة يتوكأ عليها، أو منطقة يشد بها وسطه، أو يغير عليه عند رؤية قطاع الطريق ولم يكونوا عنده كسائر الناس، وهذا إن وجد في قلبه الميل إلى الخلقان دون الجدد خرج في جميع هذا من حد التوكل وقال أيضا: أكثر الخلق تعلقوا بالأسباب، فإذا صحت المعرفة لله بالقلب سكن القلب إلى ما في الغيب أشد من سكونه إلى ما في اليد من الأسباب الظاهرة; لأن ما في يد العبد لا يدري ما يحدث الله فيه، وماله عند الله هو الباقي يأتي به على أوقاته، فإذا كان القلب قويا عند زوال الدنيا وإدبارها متبرما بما في اليد منها صح التوكل وإذا ضعفت المرأة في القلب ركن القلب إلى الأسباب، وخاف من زوالها قبل أن تزول، فإن زال منها شيء لحق القلب الجزع والتغير من خوف الفقر .



* (فصل) *

قال السري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: واجعلنا للمتقين إماما أن المتقي يكون رزقه من كسبه; لأن الله تعالى يقول: ويرزقه من حيث لا يحتسب ، فكأنه يقول: اجعلنا إماما للمتوكلين الذين أرزاقهم لا من أكسابهم، بل من حيث لا يحتسبون، وهؤلاء هم أهل الصفوة والصفاء الصوفيون الذين توكلوا على الله لله بالله لا في الأرزاق، ولا في العالم يد عليهم من الإرفاق، كما قال قائلهم: الدنيا فانية والآخرة باقية والأرزاق مفروغ منها، فعلى ماذا أتوكل إنما أتوكل عليه أن لا يبعدني من قربه وقال بعضهم: الاعتماد على الخلق هو الخذلان ومن اعتمد بسوى ربه في توكله خاب سعيه .



* (فصل) *

ويستوي عند الخصوص بعين يقينهم ما جاءهم بواسطة أيديهم وأسباب كسبهم وما جاءهم بأيدي غيرهم وبغير كسبهم; إذ كان المعطي عندهم واحدا، والعطاء كله رزقا، فإذا كانت الأيدي ظروف العطاء فسواء كان الظرف يدك أو يد غيرك وسواء كان السبب كسبك أو كسب سواك لك; إذ جميعه رزقك ومثل هذين أيضا يستوي عندهم ما ظهر بيد القدرة لا خلق فيه ولا واسطة به، وما ظهر بأيديهم من الحركة وترتيب العرف والعادة; لأن القدرة أيضا بمنزلة طرف للعطاء ظهر العطاء بها كأيدي العباد من يد الإنسان نفسه أو يد غيره، فهذه المعاني الثلاثة عند الموقنين الموحدين سواء لا يترجح بعضه على بعض لرجحان إيمانهم وقوة يقينهم ونفاذ مشاهدتهم; إذ كله حكمة بالغة وقدرة نافذة على حكم واحد وقادر واحد .



* (فصل) *

الأسواق موائد الإباق يطعم المولى منها من أبق من خدمته وهرب من مجالسته، ووهن عن معاملته وجبن في متاجرته أما سمعت قول الله -عز وجل-: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ، أي ما أريد أن يرزقوا خلقي، إن الله هو الرزاق، أي: إنه لا يطالبهم أن يرزقوا نفوسهم إذا خدموه، فذكر الله في هذه الآية الوجوه الثلاثة من تصرف العبيد التي أباحها للموالي ثم اختار لنفسه أحدها، وهو الخدمة وعليه الكفاية، واختار من العبد أحدها فجعلها عديدة وتنزه عن أحدها وتعالى عنه، وهو الإطعام من العبيد له وصرف عموم العبيد في الوجه الثالث من الإطعام لأنفسهم وهو التكسب، وضرب هذا مثلا بينه وبين خلقه في الأرض، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض فبقي العبيد من الله بحكمين: أحدهما مع اختياره لنفسه من العبادة، وهي المعاملة وعليه الرزق كيف شاء ومتى شاء، وهؤلاء عبيد الرحمن لا عبيد الدنيا، والثاني: ما صرف العبيد من التكسب لأنفسهم جعل ذلك رزقا منهم لهم بجوارحهم، ومدحهم على هذا الوصف، وهؤلاء عموم العبيد منهم عبيد الدنيا وعبيد الهوى، وبقي الوالي مع العبيد على الأحكام الثلاثة التي أباحها لهم وضرب بها المثل بينها وبينهم إن هم اختاروه كان ذلك لهم .



* (فصل) *

التوكل على الله لا يمنع دخول اللصوص ولا يمنع وقوع الاقتدار للبلوى بمحو الدار، والاختيار للمعروفين الاختيار، وقد قال أبو يزيد -قدس سره- وهو من أعلى المتوكلين: ما سافرت في قافلة قط إلا قطع علي الطريق، وقال آخر من نظرائه: ما خرجت في سفر قط ومعي سبب إلا سلط الله علي من يأخذه حتى أبقى مع الله بالله [ ص: 544 ] مجردا بلا سبب، فهذه آيات يرد الله بها أولياءه إليه في تسليطات يدلهم بها عليه ليرجعوا إليه، فالتوكل على الله تعالى في الأسباب لا يوجب بقاءها للعبد ولا إيثاره بها ولا حفظها عليه، ولا يقدم شيئا عن شيء ولا يؤخره لصلاح دنيا أو اختيار عبد، بل هو إلى الإذهاب والإتلاف أقرب; لأن التوكل قرين للزهد وثمرته فهو يرد المتوكل إلى أصله، وذلك وصف صادقي المتقين، ولولا الامتحان لكثر الصادقون، ولولا الإخراج من المعتاد والمألوف لكثر الصالحون، فإذا كان مقام المتوكل الرضا بجريان القضاء والمحبة لمواقيع البلاء لم يبال بقي ما له وسلم سببه الذي توكل عليه عنه، أو عطب; إذ كان محبة وكيله فيه ورضاه به فما عرضه من موافقة محبته وحلاوة رضاه فضل من إتلاف نفسه ودنياه .



* (فصل) *

المتوكلون على درجات، منهم من توكل على الله تعالى تعظيما وإجلالا، ومنهم من توكل عليه ثقة به وتنزيها له، ومنهم من توكل عليه يقينا بوعده لتحقيق صدقه، ومنهم من توكل عليه حبا له، ومنهم من توكل عليه استسلاما لما شهد من قرب عزه وعظيم قدره، ومنهم من توكل عليه خوفا منه، ومنهم من توكل عليه لحسن ظنه به وصدق رجائه له، ومنهم من توكل عليه تسليما له من جميل معاملته، ومنهم من توكل عليه ليحفظه فيما استحفظه فيما له عليه، ومنهم من توكل عليه لقيامه بشهادته عن حسن معرفته، وكلهم توكل عليه لأن توحيده له وشهادة قيوميته ذلك يقتضيه فهذه كلها مواجيد أوليائه، ومنهاج أحبابه عن مشاهدة القرب ومعرفة القريب، وبعضها أعلى مقاما من بعض، وبعض المشاهدات أقرب وأرفع، فأعلاها من توكل عليه للإجلال والتعظيم، وأوسطها من توكل عليه للمحبة والخوف وأدناها من توكل عليه تسليما له وتحببا إليه، وقد ذكرنا من توكل العوام ما يستحيي العارفون من ذكره، وهو التوكل عليه في القوت; لأنه هو المقيت، كما هو المحيي المميت فكما يحيي ويميت، فكذلك يرزق القوت .



* (فصل) *

قيل لسهل -رحمه الله تعالى-: متى يصلح للعبد التوكل؟ قال: إذا علم أن تدبير مولاه خير من تدبيره لنفسه وإن نظر مولاه له أحسن من نظره لنفسه فيترك الفكر فيما كان، والتمني لما يكون ويترك التدبير، ولله عاقبة الأمور، وهو على كل شيء قدير شكور، وإلى هنا انتهى بنا الكلام على شرح مقام التوكل، والحمد لله على نعمائه والصلاة والسلام على سيد أنبيائه وخيرته من أوليائه، قال المؤلف نجز ذلك في الساعة الثالثة من ليلة الاثنين لست بقين من ذي القعدة سنة 1200، والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .




الخدمات العلمية