وأما صفة القدرة فهي أيضا كمال والعجز نقص فكل كمال وبهاء وعظمة واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ حتى أن الإنسان ليسمع في الحكاية شجاعة علي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما من الشجعان وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران فيصادف في قلبه اهتزازا وفرحا وارتياحا ضروريا بمجرد لذة السماع ؛ فضلا عن المشاهدة ، ويورث ذلك حبا في القلب ضروريا للمتصف به فإنه نوع كمال ، فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى فأعظم الأشخاص قوة وأوسعهم ملكا وأقواهم بطشا وأقهرهم للشهوات وأقمعهم لخبائث النفس وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ما منتهى قدرته وإنما غايته أن يقدر على بعض صفات نفسه ، وعلى بعض أشخاص الإنس في بعض الأمور ، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا ضرا ولا نفعا ، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى ولسانه من الخرس وأذنه من الصمم ، وبدنه من المرض ، ولا يحتاج إلى عد ما يعجز عنه في نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته فضلا عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ، ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها ، فلا قدرة له على ذرة منها وما هو قادر عليه من نفسه وغيره ، فليست قدرته من نفسه وبنفسه ، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه ، والممكن له من ذلك ، ولو سلط بعوضا على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال في أعظم ملوك الأرض ذي القرنين إذ قال : قدرة الله تعالى ، إنا مكنا له في الأرض فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه في جزء من الأرض ، والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم ، وجميع الولايات التي يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة ، ثم تلك الغبرة أيضا من فضل الله تعالى وتمكينه ، فيستحيل أن يحب عبدا من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه واستيلائه وكمال قوته ، ولا يحب الله تعالى لذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فهو الجبار القاهر والعليم القادر السموات مطويات بيمينه والأرض وملكها وما عليها في قبضته وناصية ، جميع المخلوقات في قبضة قدرته ، إن أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة ، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعي بخلقها ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعها ، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته ، فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء ، فإن كان يتصور أن يحب قادر لكمال قدرته ، أصلا . فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه
وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص والتقدس عن الرذائل والخبائث ، فهو أحد موجبات الحب ومقتضيات الحسن والجمال في الصور الباطنة ، والأنبياء والصديقون وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك والقدوس ذي الجلال والإكرام .
وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص ، بل كونه عاجزا مخلوقا مسخرا مضطرا هو عين العيب والنقص فالكمال لله وحده وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله ، وليس في المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبدا مسخرا لغيره قائما بغيره ، وذلك محال في حق غيره وشرح وجوه التقدس والتنزه في حقه عن النقائص يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره فهذا الوصف أيضا إن كان كمالا وجمالا محبوبا فلا تتم حقيقته إلا له وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقا ، بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصانا كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار وللإنسان ، كمالا بالإضافة إلى الفرس ، وأصل النقص شامل للكل ، وإنما يتفاوتون في درجات النقصان . فهو المنفرد بالكمال المنزه عن النقص المقدس عن العيوب
فإذا ، الجميل محبوب ، والجميل المطلق هو الواحد الذي لا ند له الفرد الذي لا ضد له ، الصمد الذي لا منازع له ، الغني الذي لا حاجة له ، القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه العالم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض القاهر الذي لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة ، ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة ، الأزلي الذي لا أول لوجوده ، الأبدي الذي لا آخر لبقائه الضروري الوجود الذي لا يحوم إمكان العدم حول حضرته ، القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل موجود به جبار السموات والأرض خالق الجماد والحيوان والنبات ، المنفرد بالعزة والجبروت والمتوحد ، بالملك والملكوت ، ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة والكمال الذي تتحير في معرفة جلاله العقول وتخرس ، في وصفه الألسنة الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته ، ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه ، كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين وقال سيد الصديقين رضي الله تعالى عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، سبحان من لم يجعل للخلق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فليت شعري من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقا ويجعله مجازا أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال . لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن أن ، ينكر كون الله تعالى موصوفا بها ، أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة محبوبا بالطبع عند من أدركه فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون .
فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان ؛ لأن الإحسان يزيد وينقص ولذلك ، أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن أود الأوداء إلى من عبدني بغير نوال لكن ليعطي الربوبية حقها وفي الزبور من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار : لو لم أخلق جنة ولا نارا ألم أكن أهلا أن أطاع ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا فقالوا : نخاف النار ونرجو الجنة ، فقال لهم : مخلوقا خفتم ومخلوقا رجوتم ، ومر بقوم آخرين كذلك فقالوا : نعبده حبا له وتعظيما لجلاله فقال : أنتم أولياء الله حقا معكم أمرت أن أقيم وقال أبو حازم إني لأستحيي أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل .
وفي الخبر لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجرا لم يعمل ، ولا كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل .