الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها : أن يكون مشفقا على جميع عباد الله رحيما بهم شديدا على جميع أعداء الله وعلى كل من يقارف شيئا مما يكرهه كما قال الله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم ولا تأخذه لومة لائم ولا يصرفه عن الغضب لله صارف ، وبه وصف الله أولياءه ؛ إذ قال : الذين يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بالشيء ويأوون إلى ذكري كما يأوي النسر إلى وكره ، ويغضبون لمحارمه كما يغضب النمر إذا حرد ، فإنه لا يبالي قل الناس أو كثروا فانظر إلى هذا المثال فإن الصبي إذا كلف بالشيء لم يفارقه أصلا وإن أخذ منه لم يكن له شغل إلا البكاء والصياح حتى يرد إليه فإن ، نام أخذه معه في ثيابه ، فإذا انتبه عاد وتمسك به ، ومهما فارقه بكى ومهما وجده ضحك ومن نازعه فيه أبغضه ، ومن أعطاه أحبه ، وأما النمر فإنه لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أنه يهلك نفسه .

فهذه علامات المحبة فمن تمت فيه هذه العلامات فقد تمت محبته وخلص حبه فصفا في الآخرة شرابه وعذب مشربه .

التالي السابق


(ومنها) أي: ومن علامات المحبة (أن يكون مشفقا على جميع عباد الله رحيما بهم) يصافيهم ويواددهم ويحب لهم أكثر مما يحبه لنفسه؛ لأنه في نفسه راض بما يجري عليه من أحكام ربه، فلا يختار لنفسه حالا من الأحوال، وهو يختار للمسلمين أحسن الأحوال وأكمل الحالات، وهذه الحالة إذا وجدها المحب في نفسه يتحقق أن الله تعالى منحه مقام الربانيين المتخلقين بأخلاق الله (و) يستحب أن يكون (شديدا على جميع أعداء الله وعلى كل من يقارف شيئا مما يكرهه) على حسب درجاتهم في البعد من الله تعبدا لأمر الله سبحانه مع مشاهدة كمال علم الله وحكمته فيهم (كما قال الله تعالى) في وصف المحبين ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) فوصفهم بالشدة على أعداء الله والتراحم فيما بينهم (و) يتأكد أن (لا تأخذه في الله لومة لائم) ولا عذل عاذل (ولا يصرفه عن الغضب لله صارف، وبه وصف الله أولياءه؛ إذ قال: الذين يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بالشيء ويأوون إلى ذكري كما يأوي النسر إلى وكره، ويغضبون كما يغضب النمر إذا حرد، فإنه لا يبالي قل الناس أو كثروا) .

هكذا أورده صاحب القوت، وقد رواه الطبراني، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن منصور المدائني، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي، حدثنا عبد الله بن محمد بن عروة، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن موسى -عليه السلام- قال: يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك، قال: الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه، والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي الناس، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي غضب النمر لنفسه؛ فإن النمر إذا غضب لم يبال أقل الناس أو كثروا. (فإذا نظر إلى هذا المثال) وتدبره (فإن الصبي إذا كلف بالشيء لم يفارقه أصلا وإن أخذ منه لم يكن له شغل إلا البكاء والصياح حتى يرد إليه، فإذا نام أخذه معه في ثيابه، فإذا انتبه) من نومه (عاد) إليه (وتمسك به، ومهما فارقه بكى ومهما وجده ضحك) إليه (ومن نازعه فيه أبغضه، ومن أعطاه أحبه، وأما النمر فإنه لا يملك نفسه عند الغضب) لنفسه (حتى يبلغ من شدة غضبه أنه يهلك نفسه) ، وذلك أن يغيب الخلق عنه حتى نفسه فلا يعقل ما فعل؛ فلذلك ضرب الله هذا المثل في قوله: لا يبالي قل الناس أو كثروا لحقيقة الإخلاص بغيبته عن مداراة الناس (فهذه علامات المحبة) يعني الكلف بالحب والإيواء إلى الذكر والغضب للمحارم (فمن تمت فيه هذه العلامات) المذكورة (فقد تمت محبته وخلص حبه) لله تعالى (فصفا في الآخرة شرابه وعذب مشربه) ، وهو من المقربين ونعيمه في الجنان صرف؛ لأنه كان بعبده لأجله صرفا .




الخدمات العلمية