الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه ؛ إذ يمزج شرابه بقدر من شراب المقربين ، كما قال تعالى في الأبرار إن الأبرار لفي نعيم ثم قال : يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون فإذا طاب شراب الأبرار لشوب الشراب الصرف الذي هو للمقربين .

والشراب عبارة عن جملة نعيم الجنان ، كما أن الكتاب عبر به عن جميع الأعمال فقال إن كتاب الأبرار لفي عليين ثم قال : يشهده المقربون فكان أمارة علو كتابهم أنه ارتفع إلى حيث يشهده المقربون وكما أن الأبرار يجدون المزيد في حالهم ومعرفتهم بقربهم من المقربين ومشاهدتهم لهم فكذلك يكون حالهم في الآخرة ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة كما بدأنا أول خلق نعيده ، وكما قال تعالى جزاء وفاقا ، أي : وافق الجزاء أعمالهم فقوبل الخالص بالصرف من الشراب وقوبل المشوب بالمشوب .

وشوب كل شراب على قدر ما سبق من الشوب في حبه وأعماله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين فمن كان حبه في الدنيا رجاءه لنعيم الجنة والحور العين والقصور مكن من الجنة ليتبوأ منها حيث يشاء فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنسوان فهناك تنتهي لذته في الآخرة ؛ لأنه إنما يعطى كل إنسان في المحبة ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه .

ومن كان مقصده رب الدار ومالك الملك ولم يغلب عليه إلا حبه بالإخلاص والصدق أنزل في مقعد صدق عند مليك مقتدر فالأبرار يرتعون في البساتين ويتنعمون في الجنان مع الحور العين والولدان والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها يستحقرون نعيم الجنان ، بالإضافة إلى ذرة منها فقوم ؛ بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة أقوام آخرون ؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكثر أهل الجنة البله ، وعليون لذوي الألباب .

ولما قصرت الأفهام عن درك معنى عليين عظم أمره ، فقال : وما أدراك ما عليون كما قال تعالى : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة .

التالي السابق


(ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه) ، وهو من أصحاب اليمين (؛ إذ يمزج شرابه بقدر) ما (من شراب المقربين، كما قال الله تعالى في الأبرار) ، أي: وصف نعيمهم ( إن الأبرار لفي نعيم ثم قال: يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) ثم قال في نعت شراب المقربين (ومزاجه) يعني مزاج شراب الأبرار ( من تسنيم عينا يشرب بها المقربون ) ، أي: يشرب بها المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين (فإنما شراب الأبرار لشوب الشواب الصرف الذي هو للمقربين) ولفظ القوت: فما طاب [ ص: 627 ] شراب الأبرار إلا بمزاج شراب المقربين (والشراب عبارة عن جملة نعيم الجنان، كما أن الكتاب عبر به عن جميع الأعمال) ولفظ القوت: فعبر عن جمل نعيم الجنان بالشراب، كما عبر عن العلوم والأعمال بالكتاب، (فقال) في نعت الأبرار مثله ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ثم قال: يشهده المقربون فكان أمارة علو كتابهم أنه ارتفع إلى حيث يشهده) فما حسن عملهم ولا صفت أعمالهم ولا علا كتابهم إلا بشهادة المقربين لما قرب منهم وحضروه (وكما أن الأبرار) في الدنيا يحسن علومهم بعلمهم وترتفع أعمالهم بمشاهدتهم (ويجدون المزيد في) نفوسهم و (حالهم ومعرفتهم بقربهم من المقربين ومشاهدتهم لهم فكذلك يكون حالهم) غدا (في الآخرة) ، وقد قال تعالى: ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) وقال تعالى: ( كما بدأنا أول خلق نعيده ، وكما قال تعالى: جزاء وفاقا ، أي: وافق الجزاء أعمالهم) ، أو وافق أعمالهم جزاءهم (فقوبل الخالص بالصرف من الشراب وقوبل المشوب بالمشوب، وشوب كل شراب على قدر ما سبق من الشوب في حبه وأعماله) ، قال الله تعالى: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره و) قال تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و) قال تعالى: ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) وقال تعالى: سيجزيهم وصفهم ، أي يعطيهم غدا كوصفهم في الدنيا إنه حكيم عليم (فمن كان حبه في الدنيا) اليوم (ورجاؤه لنعيم الجنة) وطيبات الملك (وللحور العين والقصور مكن) غدا (من الجنة ليتبوأ منها حيث شاء) ، وهو أجر العاملين لأجلها (فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنسوان فهناك تنتهي لذته في الآخرة؛ لأنه إنما يعطى كل إنسان في المحبة ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه) فنعم الأجر أجره (ومن كان مقصده رب الدار ومالك الملك) دون الدار والملك (ولم يغلب عليه الأحبة بالإخلاص والصدق أنزل) غدا (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) وشتان بينهما؛ فالأبرار يرتعون في البساتين ويتنعمون في الجنان مع (الحور العين والولدان) وغير ذلك من أنواع النعيم (والمقربون ملازمون للحضرة) على بساط المشاهدة (عاكفون بطرفهم عليها يستحقرون نعيم الجنان، بالإضافة إلى ذرة منها؛ فهم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة أقوام آخرون؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب) .

قال العراقي: رواه البزار من حديث أنس بسند ضعيف مقتصرا على الشطر الأول، وقد تقدم، والشطر الثاني من كلام أحمد بن أبي الحواري، ولعله أدرج فيه. انتهى .

قلت: قد تقدم الكلام فيه، وإن سهلا التستري فسره، فقال: هم الذين ولهت قلوبهم وشغلت بالله -عز وجل- (ولما قصرت الأفهام عن درك معنى عليين عظم) الله تعالى (أمره، فقال: وما أدراك ما عليون ) كتاب مرقوم يشهده المقربون (كما قال تعالى: القارعة ما القارعة ) وأصله ما هي، أي أي شيء هي؟! على التعظيم لشأنها والتهويل لها فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنه أهول لها ( وما أدراك ما القارعة ) ، أي: أي شيء هي أعلمك ما هي؟! لأنك لا تعلم كنهها؛ فإنها أعظم من أن يبلغ دركها أحد، ومثل هذا قوله تعالى: الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة .




الخدمات العلمية