الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فقد وردت الآيات والأخبار بالرضا بقضاء الله تعالى فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى فهو محال ، وهو قادح في التوحيد ، وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله تعالى ، وكيف السبيل إلى الجمع ، وهو متناقض على هذا الوجه ؟! وكيف يمكن الجمع بين الرضا والكراهة في شيء واحد ؟ فاعلم أن هذا مما يلتبس على الضعفاء القاصرين عن الوقوف على أسرار العلوم وقد التبس على قوم حتى رأوا السكوت عن المنكر مقاما من مقامات الرضا ، وسموه حسن الخلق وهو جهل محض ، بل نقول : الرضا والكراهة يتضادان إذا تواردا على شيء واحد من جهة واحدة على وجه واحد فليس من التضاد في شيء واحد أن يكره من وجه ، ويرضى به من وجه ؛ إذ قد يموت عدوك الذي هو أيضا عدو بعض أعدائك وساع ، في إهلاكه فتكره موته من حيث إنه مات عدو عدوك ، وترضاه من حيث إنه مات عدوك .

وكذلك المعصية لها وجهان ؛ وجه إلى الله تعالى من حيث إنه فعله واختياره وإرادته ، فيرضى به من هذا الوجه تسليما للملك إلى مالك الملك ، ورضا بما يفعله فيه ، ووجه إلى العبد من حيث إنه كسبه ووصفه وعلامة كونه ممقوتا عند الله وبغيضا عنده ، حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت ، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم .

ولا ينكشف هذا لك إلا بمثال . فلنفرض محبوبا من الخلق قال بين يدي محبيه :

إني أريد أن أميز بين من يحبني ويبغضني ، وأنصب فيه معيارا صادقا وميزانا ناطقا ، وهو أني أقصد إلى فلان فأوذيه وأضربه ضربا يضطره ذلك إلى الشتم لي .

حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدوا لي ، فكل من أحبه اعلم أيضا أنه عدوي ، وكل من أبغضه اعلم أنه صديقي ومحبي .

ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض ، وحصل البغض الذي هو سبب العداوة .

فحق على كل من هو صادق في محبته وعالم بشروط المحبة أن يقول أما : تدبيرك في إيذاء هذا الشخص وضربه وإبعاده وتعريضك إياه للبغض والعداوة ، فأنا محب له وراض به ، فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك وإرادتك ، وأما شتمه إياك فإنه عدوان من جهته ؛ إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم ، ولكنه كان مرادك منه ، فإنك قصدت بضربه استنطاقه بالشتم الموجب للمقت فهو من حيث إنه حصل على وفق مرادك وتدبيرك الذي دبرته ، فأنا راض به ، ولو لم يحصل لكان ذلك نقصانا في تدبيرك وتعويقا في مرادك ، وأنا كاره لفوات مرادك ، ولكنه من حيث إنه وصف لهذا الشخص وكسب له وعدوان وتهجم منه عليك على خلاف ما يقتضيه جمالك ؛ إذ كان ذلك يقتضي أن يحتمل منك الضرب ، ولا يقابل بالشتم ، فأنا كاره له من حيث نسبته إليه ومن حيث هو وصف له لا من حيث هو مرادك ومقتضى تدبيرك ، وأما بغضك له بسبب شتمك فأنا راض به ومحب له ؛ لأنه مرادك ، وأنا على موافقتك أيضا مبغض له ؛ لأن شرط المحب أن يكون لحبيب المحبوب حبيبا ولعدوه عدوا .

وأما بغضه لك فإني أرضاه من حيث إنك أردت أن يبغضك إذ أبعدته عن نفسك وسلطت عليه دواعي البغض ، ولكني أبغضه من حيث إنه وصف ذلك المبغض وكسبه وفعله ، وأمقته لذلك ، فهو ممقوت عندي لمقته إياك ، وبغضه ومقته لك أيضا عندي مكروه من حيث أنه وصفه ، وكل ذلك من حيث إنه مرادك فهو مرضي .

وإنما التناقض أن يقول : هو من حيث إنه مرادك مرضي ، ومن حيث إنه مرادك مكروه وأما ، إذا كان مكروها لا من حيث إنه فعله ومراده ، بل من حيث إنه وصف غيره وكسبه ، فهذا لا تناقض فيه ، ويشهد لذلك كل ما يكره من وجه ويرضى به من وجه ، ونظائر ذلك لا تحصى .

فإذا ، تسليط الله دواعي الشهوة والمعصية عليه حتى يجره ذلك إلى حب المعصية ، ويجره الحب إلى فعل المعصية يضاهي ضرب المحبوب للشخص الذي ضربناه مثلا ليجره الضرب إلى الغضب والغضب إلى الشتم .

ومقت الله تعالى لمن عصاه ، وإن كانت معصيته بتدبيره يشبه بغض المشتوم لمن شتمه وإن كان شتمه إنما يحصل بتدبيره واختياره لأسبابه ، وفعل الله تعالى ذلك بكل عبد من عبيده ، أعني تسليط دواعي المعصية عليه ، يدل على أنه سبقت مشيئته بإبعاده ومقته .

، فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه الله ويمقت من مقته الله ، ويعادي من أبعده الله عن حضرته ، وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته ، فإنه بعيد مطرود ملعون عن الحضرة ، وإن كان بعيدا بإبعاده قهرا ومطرودا بطرده واضطراره .

والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون مقيتا بغيضا إلى جميع المحبين ؛ موافقة للمحبوب بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده .

بهذا ، يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله ، والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم ، والمبالغة في مقتهم مع الرضا بقضاء الله تعالى من حيث إنه قضاء الله عز وجل .

وهذا كله يستمد من سر القدر الذي لا رخصة في إفشائه وهو أن الشر والخير كلاهما داخلان في المشيئة والإرادة ، ولكن الشر مراد مكروه ، والخير مراد مرضي به .

فمن ، قال : " ليس الشر من الله " فهو جاهل ، وكذا من قال : إنهما جميعا منه من غير افتراق في الرضا والكراهة فهو أيضا مقصر .

وكشف الغطاء عنه غير مأذون فيه ، فالأولى السكوت والتأدب بأدب .

الشرع ، فقد قال : صلى الله عليه وسلم : القدر سر الله فلا تفشوه وذلك يتعلق بعلم المكاشفة .

وغرضنا الآن بيان الإمكان فيما تعبد به الخلق من الجمع بين الرضا بقضاء الله تعالى ومقت المعاصي ، مع أنها من قضاء الله تعالى ، وقد ظهر الغرض من غير حاجة إلى كشف السر فيه .

وبهذا يعرف أيضا أن الدعاء بالمغفرة والعصمة من المعاصي وسائر الأسباب المعينة على الدين غير مناقض للرضا بقضاء الله تعالى ، فإن الله تعبد العباد بالدعاء ليستخرج الدعاء منهم صفاء الذكر وخشوع القلب ورقة التضرع ، ويكون ذلك جلاء للقلب ، ومفتاحا للكشف ، وسببا لتواتر مزايا اللطف .

كما أن حمل الكوز وشرب الماء ليس مناقضا للرضا بقضاء الله تعالى في العطش ، وشرب الماء طلبا لإزالة العطش مباشرة سبب رتبه مسبب الأسباب ، فكذلك الدعاء سبب رتبه الله تعالى وأمر به .

وقد ذكرنا أن التمسك بالأسباب جريا على سنة الله تعالى لا يناقض التوكل واستقصيناه ، في كتاب التوكل ، فهو أيضا لا يناقض الرضا ؛ لأن الرضا مقام ملاصق للتوكل ويتصل به نعم إظهار البلاء في معرض الشكوى وإنكاره بالقلب على الله تعالى مناقض للرضا وإظهار البلاء على سبيل الشكر والكشف عن قدرة الله تعالى لا يناقض وقد قال بعض السلف : من حسن الرضا بقضاء الله تعالى أن لا يقول : هذا يوم حار ، أي في معرض الشكاية ، وذلك في الصيف ، فأما الشتاء فهو شكر ، والشكوى تناقض الرضا بكل حال ، وذم الأطعمة وعيبها يناقض الرضا بقضاء الله تعالى ؛ لأن مذمة الصنعة مذمة للصانع ، والكل من صنع الله تعالى .

وقول القائل : الفقر بلاء ومحنة ، والعيال هم وتعب ، والاحتراف كد ومشقة ، كل ذلك قادح في الرضا ، بل ينبغي أن يسلم التدبير لمدبره ، والمملكة لمالكها ، ويقول ما قاله عمر : رضي الله عنه : لا أبالي أصبحت غنيا أو فقيرا ، فإني لا أدري أيهما خير لي .

التالي السابق


(فإن قلت: فقد وردت الآيات والأخبار بالرضا بقضاء الله تعالى) وأنه مطلوب (فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله فهو محال، وهو قادح في التوحيد، وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله تعالى، وكيف السبيل إلى الجمع، وهو متناقض على هذا الوجه؟! وكيف يمكن الجمع بين الرضا والكراهة في شيء واحد؟ فاعلم أن هذا مما يلتبس على الضعفاء القاصرين عن الوقوف على أسرار العلوم) العاجزين عن فهمها، (وقد التبس على قوم حتى رأوا السكوت على المنكرات مقاما من مقامات الرضا، وسموه حسن خلق) وليس منه (وهو جهل محض، بل نقول: الرضا والكراهة يتضادان إذا تواردا على شيء واحد من جهة واحدة على وجه واحد، وليس من المتضاد في شيء واحد أن يكره من وجه ويرضى به من وجه؛ إذ قد يموت عدوك الذي هو أيضا عدو بعض أعدائك، أو ساع في إهلاكه [ ص: 667 ] فتكره موته من حيث إنه مات عدو عدوك، وترضاه من حيث إنه مات عدوك، وكذلك المعصية لها وجهان؛ وجه إلى الله تعالى من حيث إنه فعله واختياره وإرادته، فيرضى به من هذا الوجه تسليما للملك إلى مالك الملك، ورضا بما يفعله فيه، ووجه إلى العبد من حيث إنه كسبه ووصفه وعلامة كونه ممقوتا عند الله وبغيضا عنده، حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم، ولا ينكشف هذا لك بالأمثال .

فلنفرض محبوبا من الخلق قال بين يدي محبيه: إني أريد أن أميز بين يدي من يحبني ويبغضني، وأنصب فيه معيارا صادقا وميزانا ناطقا، وهو أني أقصد إلى فلان وأوذيه وأضر به ضربا يضطره ذلك إلى الشتم لي، حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدوا لي، فكل من أحبه فاعلم أيضا أنه عدو لي، وكل من أبغضه فاعلم أنه صديقي ومحبي، ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض، وحصل البغض الذي هو سبب العداوة، فحق على كل من هو صادق في محبته وعالم بشروط المحبة أن يقول: ما تدبيرك في إيذاء هذا الشخص وضربه وإبعاده وتعريضك إياه للبغض والعداوة، فأنا محب له وراض به، فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك وإرادتك، وأما شتمه إياك فإنه عدوان من جهته؛ إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم، ولكنه كان مرادك منه، فإنك قصدت بضربه استنطاقه بالشتم الموجب للمقت هو من حيث إنه حصل على وفق مرادك وتدبيرك الذي دبرته، فأنا راض به، ولو لم يحصل لكان ذلك نقصانا في تدبيرك وتعويقا في مرادك، وأنا كاره لفوات مرادك، ولكنه من حيث إنه وصف لهذا الشخص وكسب له وعدوان وتهجم منه عليك على خلاف ما يقتضيه جمالك؛ إذ كان ذلك يقتضي أن يحتمل منك الضرب، ولا يقابل بالشتم، فأنا كاره له من حيث نسبته إليه ومن حيث هو وصف له من حيث هو مرادك ومقتضى تدبيرك، وأما بغضك له بسبب شتمك فأنا راض به ومحب له؛ لأنه مرادك، وأنا على موافقتك أيضا مبغض له؛ لأن شرط الحب أن يكون حبيب المحبوب حبيبا وعدوه عدوا، وأما بغضه لك فإني أرضاه من حيث إنك أردت أن يبغضك إذا بعدته عن نفسك وسلطت عليه دواعي البغض، ولكني أبغضه من حيث إنه وصف ذلك المبغض وكسبه وفعله، وأمقته لذلك، فهو ممقوت عندي لمقته إياك، وبغضه ومقته لك أيضا مكروه عندي من حيث إنه وصفه، وكل ذلك من حيث إنه مرادك فهو مرضي، وإنما المتناقض أن يقول: من هو من حيث إنه مرادك مرضي، ومن حيث إنه مرادك مكروه، فأما إذا كان مكروها لا من حيث إنه مراده وفعله، بل من حيث إنه وصف غيره وكسبه، فهذا لا تناقض فيه، ويشهد لذلك كل ما يكره من وجه ويرضى به من وجه، ونظائر ذلك لا تحصى، فإذا تسليط الله تعالى دواعي الشهوة والمعصية عليه حتى يجره ذلك إلى حب المعصية، ويجره الحب إلى فعل المعصية أيضا هي ضرب المحبوب للشخص الذي ضربناه مثلا ليجره الضرب إلى الغضب و) يجره (الغضب إلى الشتم [ ص: 668 ] ومقت الله تعالى لمن عصاه، وإن كان معصيته بتدبيره يشبه بغض المشتوم لمن شتمه إن كان شتمه إنما حصل بتدبيره واختياره لأسبابه، وفعل الله تعالى ذلك بكل عبد من عبيده، أعني تسليط دواعي المعصية عليه، يدل على أنه سبقت مشيئته بإبعاده ومقته، فواجب على كل عبد محب لله تعالى أن يبغض من أبغضه الله ويمقت من مقته الله، ويعادي من أبعده الله تعالى عن حضرته، وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته، فإنه بعيد مطرود ملعون عن الحضرة، وإن كان بعيدا بإبعاده قهرا ومطرودا بطرده اضطرارا، والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون مقيتا بغيضا إلى جميع المحبين؛ موافقة للمحبوب بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده، وبهذا يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله، والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم، والمبالغة في مقتهم مع الرضا بقضاء الله تعالى من حيث إنه قضاء الله عز وجل) وبه يظهر معنى قوله تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، وقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وكذلك أمر المؤمنين في قوله تعالى: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة (وهذا كله يستمد من سر القدر الذي لا رخصة في إفشائه) إلا لأهله، (وهو أن الشر والخير كلاهما داخلان في المشيئة والإرادة، ولكن الشر مراد مكروه، والخير مراد مرضي به، فمن قال: "ليس الشر من الله" فهو جاهل، وكذا من قال: إنهما جميعا منه من غير افتراق في الرضا والكراهة فهو أيضا مقصر، وكشف الغطاء عنه غير مأذون فيه، فالأولى السكوت والتأدب بآداب الشرع، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: القدر سر الله فلا تفشوه) رواه أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر ونحوه، ورواه الطبراني عن ابن عباس من قول عيسى -عليه السلام- بلفظ: فلا تحلوه. وقد تقدم (وذلك يتعلق بعلم المكاشفة، وغرضنا الآن بيان الإمكان فيما تعبد به الخلق من الجمع بين الرضا بقضاء الله ومقت المعاصي، مع أنها من قضاء الله تعالى، وقد ظهر الغرض من غير حاجة إلى كشف السر فيه) .

وقال الكمال محمد بن إسحاق في مقاصد المنجيات: أفعال العباد على ثلاثة أقسام: طاعات، ومباحات، ومعاص. فالطاعات يرضى بها مطلقا، والمعاصي لا يرضى بها مطلقا، والمباحات منها ما تعين على الطاعات وفراغ القلب للذكر، فيلحق بالطاعات، ومنها ما يشغل القلب عن ذكر الله ويحث على المخالفة فيلحق بالمعاصي في عدم الرضا، والسر في ذلك أن الله أراد ما لا يرضى ولا يأمر إلا بما يرضى والعباد متعبدون بما يصدر من الأمر والنهي، لا بما يصدر عن مشيئته وتدبيره، فالرب تعالى لا يأمر العباد إلا بما فيه مصلحة لهم عاجلة أم آجلة، وقد تعبدنا ربنا بكراهة المعاصي لمصلحتين؛ إحداهما مقصودة في نفسها، والثانية وسيلة لغيرها، أما المصلحة المقصودة لنفسها فإن الله تعالى تسمى بالخافض الرافع، ولهما آثار في الوجود في الخفض والرفع، فندب الله عباده إلى أن يكون المخفوض عنده المخفوض عندهم، والمرفوع عنده المرفوع عندهم، ولا يوجد كمال هذه العبادة إلا عند المحبين؛ لأن المحبة إذا قربت تعدت إلى كل ما يتعلق بالمحبوب، حتى يحب حبيبه ويبغض بغيضه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، أي قاتل نفسك. وقوله تعالى: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، وأما المصلحة المقصودة لغيرها، فإن الله جبل طباع العباد على النفرة عما يكرهونه، فكراهة المعاصي على هذا وسيلة إلى تركها ونبذها، لا من حيث إنها من فعل الله، فإن قلت: الرضا والسخط أيضا مرادان، وقد قلت: أن الله أراد ما لا يرضى. وما معنى قوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر فأقول: الرضا والسخط مرددان بين الإرادة والفعل، ومعنى الآية محمول على الصفة الفعلية لا على الصفة الذاتية، فقوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر ، أي إذا كفروا عاملهم معاملة الساخط عليهم، وهذا معنى قولك: يريد ما لا يرضى، أي خصهم بفعل يعاقبهم عليه؛ لأن حقيقة لفظي [ ص: 669 ] الرضا والسخط محالان في حق الله تعالى. انتهى .

(وبهذا تعرف أيضا أن الدعاء بالمغفرة والعصمة من المعاصي وسائر الأسباب المعينة على الدين غير مناقض للرضا بقضاء الله تعالى، فإن الله تعالى تعبد العباد بالدعاء ليستخرج الدعاء منهم صفاء الذكر وخشوع القلب ورقة التضرع، ويكون ذلك جلاء للقلب، ومفتاحا للكشف، وسببا لتواتر مزايا اللطف، كما أن حمل الكوز وشرب الماء ليس مناقضا للرغبة بقضاء الله تعالى في العطش، وشرب الماء طلبا لإزالة العطش مباشرة سبب رتبه مسبب الأسباب، فكذلك الدعاء سبب رتبه الله تعالى وأمر به، وقد ذكرنا أن التمسك بالأسباب جريا على سنة الله تعالى لا يناقض التوكل، وقد استقصيناه في كتاب التوكل، فهو أيضا لا يناقض الرضا؛ لأن الرضا مقام ملاصق للتوكل ويتصل به) ، وهذا عذر من جعل الرضا من لواحق التوكل وحالا من أحواله، ولم يعده خاصا، كما تقدم الكلام عليه .

(نعم إظهار البلاء في معرض الشكوى وإنكاره بالقلب على الله تعالى مناقض للرضا) ولذلك قال أبو علي الدقاق: ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، إنما الرضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء. (وإظهار البلاء على سبيل الشكر والكشف عن قدرة الله تعالى لا يناقض) ولفظ القوت: والتحدث بالأوجاع والإخبار عن المصائب لا ينقص حال الراضي إذا رآها نعمة من الله عليه وشكر الله عليها، وكان القلب مسلما غير متسخط ولا متبرم بمر القضاء، (وقد قال بعض السلف: من حسن الرضا بقضاء الله تعالى أن لا يقول: هذا يوم حار، أي في معرض الشكاية، وذلك في أيام الصيف، فأما في الشتاء فهو شكر، والشكوى تناقض الرضا، وذم الأطعمة وعيبها يناقض الرضا بقضاء الله تعالى؛ لأن مذمة الصنعة مذمة للصانع، والكل من صنع الله، وقول القائل: الفقر بلاء ومحنة، والعيال هم وتعب، والاحتراف كد ومشقة، كل ذلك قادح في الرضا، بل ينبغي أن يسلم التدبير لمدبره، والمملكة لمالكها، ويقول ما قال عمر -رضي الله عنه-: لا أبالي أصبحت غنيا أو فقيرا، فإني لا أدري أيهما خير لي) ولفظ القوت: ومن الرضا عند أهل الرضا أن لا يقول العبد: هذا يوم شديد الحر، ولا هذا يوم شديد البرد، ولا يقول: الفقر بلاء ومحنة، ولا العيال هم وتعب، ولا الاحتراف كد ومشقة، ولا يعقد بقلبه من ذلك ما لا يفوه به، بل يرضى بالقلب ويسلم، ويسكن القلب ويستسلم بوجود حلاوة التدبير، واستحسانه بحكم التقدير، وروينا عن عمر -رضي الله عنه- قال: ما أبالي على أي حال أصبحت من شدة أو رخاء. اهـ .

وقال الكمال الصوفي في المقاصد: ومن عاب صورة من الصور، أو طعاما من الأطعمة، أو تبرم بحر أو ببرد، أو أنكر بقلبه أو لسانه ما يصب الله على عباده من المحن والبلايا والرزايا وجملة أنواع ما اختبر الله به العباد من الأمر والنهي، وما يقع في الآخرة من المثوبات والعقوبات، بطل رضاه، ووجبت عليه التوبة. والله الموفق .




الخدمات العلمية