الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
كما ورد في الخبر ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه وهدايته ، وإلا فالشيطان ملازم للمشمرين لعبادة الله تعالى ، لا يغفل عنهم لحظة ؛ حتى يحملهم على الرياء في كل حركة من الحركات ، حتى في كحل العين ، وقص الشارب ، وطيب يوم الجمعة ولبس الثياب فإن هذه سنن في أوقات مخصوصة وللنفس فيها حظ خفي ؛ لارتباط نظر الخلق بها ، ولاستئناس الطبع بها فيدعوه ، الشيطان إلى فعل ذلك ، ويقول : هذه سنة ، لا ينبغي أن تتركها ، ويكون انبعاث القلب باطنا لها ؛ لأجل تلك الشهوة الخفية أو مشوبة بها شوبا يخرج عن حد الإخلاص بسببه وما لا يسلم عن هذه الآفات كلها فليس بخالص بل من يعتكف في مسجد معمور نظيف ، حسن العمارة ، يأنس إليه الطبع ، فالشيطان يرغبه فيه ، ويكثر عليه من فضائل الاعتكاف ، وقد يكون المحرك الخفي في سره هو الأنس بحسن صورة المسجد ، واستراحة الطبع إليه ، ويتبين ذلك في ميله إلى أحد المسجدين ، أو أحد الموضعين ، إذا كان أحسن من الآخر وكل ذلك امتزاج بشوائب الطبع ، وكدورات النفس ، ومبطل حقيقة الإخلاص لعمري : الغش ، الذي يمزج بخالص الذهب ، له درجات متفاوتة ، فمنها ما يغلب ، ومنها ما يقل ، لكن يسهل دركه .

ومنها ما يدق بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير .

وغش القلب ، ودغل الشيطان وخبث النفس أغمض من ذلك وأدق كثيرا .

ولهذا قيل : ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل وأريد به العالم البصير بدقائق آفات الأعمال ؛ حتى يخلص عنها ؛ فإن الجاهل نظره إلى ظاهر العبادة واغتراره بها كالنظر السوادي إلى حمرة الدينار المموه واستدارته ، وهو مغشوش زائف في نفسه وقيراط من الخالص الذي يرتضيه الناقد البصير خير من دينار يرتضيه الغر الغبي .

فهكذا يتفاوت أمر العبادات ، بل أشد وأعظم ، ومداخل الآفات المتطرقة إلى فنون الأعمال لا يمكن حصرها وإحصاؤها ، فلينتفع بما ذكرناه مثالا ، والفطن يغنيه القليل عن الكثير والبليد لا يغنيه التطويل أيضا ، فلا فائدة في التفصيل .

التالي السابق


(ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره ) وعظمت معرفته في مكايده (وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه وهدايته، وإلا فالشيطان ملازم للمشمرين لعبادة الله، لا يغفل عنهم لحظة؛ حتى يحملهم على الرياء في كل حركة من الحركات، حتى في كحل العين، وقص الشارب، وطيب يوم الجمعة ولبس الثياب ) الحسنة (فإن هذه سنن في أوقات مخصوصة ) وقد تقدم ذكر كل واحدة منها في مواضعها (وللنفس فيها حظ خفي؛ لارتباط نظر الخلق بها، ولاستئناس الطبع بها، فيدعو الشيطان إلى فعل ذلك، ويقول: هذه سنة، لا ينبغي أن تتركها، ويكون انبعاث القلب باطنا لها؛ لأجل تلك الشهوة الخفية ) الكامنة في النفس (أو مشوبة بها شوبا يخرج عن حد الإخلاص ) الكامل (بسببه، وما لا يسلم من هذه الآفات كلها فليس بخالص ) حقيقة .

(بل من يعتكف في مسجد ) من المساجد (معمور ) بالناس (نظيف، حسن العمارة، يأنس إليه الطبع، فالشيطان يرغبه فيه، ويكثر عليه من فضائل الاعتكاف، وقد يكون المحرك الخفي في سره هو الأنس بصورة المسجد، واستراحة الطبع إليه، ويتبين ذلك في ميله إلى أحد المسجدين، أو أحد الوصفين، إذا كان أحسن من الآخر ) .

وأخفى من ذلك: أن يميل إلى مسجد خرب بعيد عن الناس، فيلقي في نفسه أنه أجمع لقلبك في العبادة، وفي باطنه الانفراد عن الناس، وهو سبب الظهور، فيكون عين ما هرب منه .

(وكل ذلك امتزاج بشوائب الطبع، وكدورات النفس، ومبطل حقيقة الإخلاص -لعمري- الغش، الذي يمزج بخالص الذهب، له درجات متفاوتة، فمنها ما يغلب، ومنها ما يقل، لكن يسهل دركه، ومنها ما يدق بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير .

وغش القلب، ودغل الشيطان ) أي: مكره (وخبث النفس أغمض من ذلك وأدق كثيرا؛ ولهذا قيل: ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل ) وقد روي في المرفوع نحوه .

روى ابن النجار، عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده: "ركعتان من عالم أفضل من سبعين ركعة من غير عالم".

رواه الشيرازي في الألقاب من طريق مالك بن دينار، عن الحسن، عن أنس، عن علي، رفعه: "ركعة من عالم بالله خير من ألف ركعة من متجاهل بالله".

وروى أبو نعيم من حديث أنس: "ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط".

(وأريد به العالم البصير بدقائق آفات الأعمال؛ حتى يخلص عنها؛ فإن الجاهل نظره إلى ظاهر العبادة واغتراره بها كنظر السوادي ) الجلف (إلى حمرة الدينار المموه ) أي: المسقي بماء الذهب (و ) حسن (استدارته، وهو ) مع ذلك (مغشوش زائف في نفسه ) غير رابح (وقيراط من الخالص الذي يرتضيه الناقد خير من دينار يرتضيه الغر ) بالكسر، أي: الجاهل (الغبي، فهكذا يتفاوت أهل العبادات، بل أشد وأعظم، ومداخل الآفات المتطرقة إلى فنون الأعمال لا يمكن حصرها وإحصاؤها، فلينتفع بما ذكرناه مثالا، والفطن يغنيه القليل عن [ ص: 60 ] الكثير ) فتسري معرفته إليه؛ لفطانته، ويقيسه على القليل (والبليد ) الجبلة والطبع (لا يغنيه التطويل أيضا، فلا فائدة في التفصيل ) في حقه. والله الموفق .




الخدمات العلمية