ثم لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن ، وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف ، ويحتاج إلى طعام غليظ ، ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن ، فأنبت له الأسنان عند الحاجة لا قبلها ولا بعدها . فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة في تلك اللثات اللينة ثم حنن قلوب الوالدين عليه للقيام بتدبيره ، في الوقت الذي كان عاجزا عن تدبير نفسه ، فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه . انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخر خلق الأسنان إلى تمام الحولين ;
ثم انظر كيف رزقه القدرة ، والتمييز ، والعقل ، والهداية تدريجا حتى بلغ وتكامل فصار مراهقا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا إما كفورا أو ، شكورا ، مطيعا أو عاصيا ، مؤمنا أو كافرا ، تصديقا لقوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا فانظر إلى اللطف والكرم ، ثم إلى القدرة والحكمة ، تبهرك عجائب الحضرة الربانية .
والعجب كل العجب ممن يرى خطا حسنا أو نقشا حسنا على حائط فيستحسنه فيصرف جميع همه إلى التفكر في النقاش والخطاط ، وأنه كيف نقشه وخطه ، وكيف اقتدر عليه ، ولا يزال يستعظمه في نفسه ، ويقول : ما أحذقه ! وما أكمل صنعته وأحسن ! قدرته ! ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ، ولا يحيره جلاله وحكمته فهذه فهو أقرب مجال لفكرك ، وأجلى شاهد على عظمة خالقك ، وأنت غافل عن ذلك ، مشغول ببطنك وفرجك ولا ، تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل ، وتشبع فينام وتشتهي ، فتجامع ، وتغضب فتقاتل ، والبهائم كلها تشاركك في معرفة ذلك وإنما خاصية الإنسان التي حجبت البهائم عنها معرفة الله تعالى بالنظر في ملكوت السماوات والأرض ، وعجائب الآفاق والأنفس ، إذ بها يدخل العبد في زمرة الملائكة المقربين ، ويحشر في زمرة النبيين والصديقين ، مقربا من حضرة رب العالمين وليست ، هذه المنزلة للبهائم ، ولا لإنسان رضي من الدنيا بشهوات البهائم فإنه شر من البهائم بكثير . نبذة من عجائب بدنك التي لا يمكن استقصاؤها
إذ لا قدرة للبهيمة على ذلك . وأما هو فقد خلق الله له القدرة ثم عطلها وكفر نعمة الله فيها فأولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا .