الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن آياته البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض التي هي قطع من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض ، حتى إن جميع المكشوف من البوادي والجبال والأرض ، بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم ، وبقية الأرض مستورة بالماء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الأرض في البحر كالإصطبل في الأرض " فانسب إصطبلا إلى جميع الأرض ، واعلم أن الأرض بالإضافة إلى البحر مثله .

وقد شاهدت عجائب الأرض وما فيها فتأمل الآن عجائب البحر ، فإن عجائب ما فيه من الحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض ، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض ولعظم البحر كان فيه من الحيوانات العظام ما ترى ظهورها في البحر فتظن أنها جزيرة فينزل الركاب عليها فربما تحس بالنيران إذا اشتعلت فتتحرك ويعلم أنها حيوان وما من صنف من أصناف حيوان البر من فرس أو طير أو بقر أو إنسان إلا وفي البحر أمثاله وأضعافه وفيه أجناس لا يعهد لها نظير في البر ، وقد ذكرت أوصافها في مجلدات ، وجمعها أقوام عنوا بركوب البحر وجمع عجائبه .

ثم انظر كيف خلق الله اللؤلؤ ودوره في صدفه تحت الماء وانظر كيف أنبت المرجان من صم الصخور تحت الماء ، وإنما هو نبات على هيئة شجر ينبت من الحجر ثم تأمل ما عداه من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر وتستخرج منه .

التالي السابق


(ومن آياته ) الدالة على عظيم قدرته (البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض ) أي جهاتها (التي هي قطع من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض، حتى إن جميع المكشوف من البوادي والجبال عن الماء، بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مستورة بالماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الأرض [ ص: 205 ] فى البحر كالإصطبل في الأرض" ) قال العراقي: لم أجده، وقد تقدم (فانسب إصطبلا إلى جميع الأرض، واعلم أن الأرض بالإضافة إلى البحر مثله. وقد شاهدت عجائب الأرض وما فيها ) من جبال وحيوان ونبات وغير ذلك (فتأمل الآن عجائب البحر، فإن عجائب ما فيه من الحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض ) ولذا قيل حدث عن البحر ولا حرج. (ولعظم البحر كان فيه من الحيوانات العظام ما ترى ظهورها في البحر فيظن أنها ) لعظمها (جزيرة فينزل الركاب عليها فربما تحس بالنيران إذا اشتعلت ) على ظهورها (فتتحرك ) وتضطرب (ويعلم أنه حيوان ) ذكره القزويني في "عجائب المخلوقات"، والدميري في "حياة الحيوان"، وابن بطوطة في رحلته: "ومنها سمكة في بحر الزنج، كالجبل العظيم من رأسها إلى ذنبها، مثل سنان المنشار من عظام سود كل سن منها كذراعين، وعند رأسها عظمان طويلان في مقدار عشرة أذرع تضرب بهما ماء البحر يمينا وشمالا، فيسمع له صوت هائل، ويخرج الماء من فيها وأنفها فيصعد نحو السماء، ثم يصعد إلى المركب رشاشة كالمطر، فإذا دخلت تحت سفينة كسرتها. ومنها سمكة تسمى المنارة تخرج على هيئتها فترمي نفسها على السفينة فتكسرها، فإذا أحسوا بها ضربوا الطبول والبوقات تبعد عنهم" .

(وما من صنف من أصناف حيوان البر من فرس أو ) حمل أو (طير أو بقر أو إنسان إلا وفي البحر أمثاله وأضعافه ) فإنسان الماء يشبه الإنسان إلا أن له ذنبا وقيل: إن في بحر الشام بعض الأوقات من شكله شكل الإنسان، وله لحية بيضاء يسمونه "شيخ البحر"، فإذا رآه الناس استبشروا به بخصب. وحكي أن بعض الملوك حمل إليه إنسان ماء فأراد الملك أن يعرف حاله فزوجه امرأة فأتاه منها ولد يفهم كلام أبويه، فقيل للولد: ما يقول أبوك؟ قال: يقول أذناب الحيوانات كلها في أسفلها فما بال هؤلاء أذنابهم في وجوههم. وسئل الليث بن سعد عن أكله فقال: لا يؤكل على شيء من الحالات. وفي بحر الروم سمك يقال له بنات الماء، شبه النساء، ذوات شعور سبط ألوانهن إلى السمرة، ذات فروج عظام، وثدي، وكلام لا يكاد يفهم، ويضحكون، ويقهقهون، وربما وقعن في أيدي بعض المراكب فينكحوهن ثم يعيدونهن إلى البحر. وحكى الروياني صاحب البحر أنه كان إذا أتاه صياد بسمكة منهن حلفه أنه لم يطأها. ونوع من حيوان البحر يقال له الشيخ اليهودي، وجهه كوجه الإنسان وله لحية بيضاء، وبدنه كبدن ضفدع، وشعره كشعر البقرة، وهو في حجم عجل، يخرج من البحر ليلة السبت حتى تغيب الشمس ليلة الأحد فيثب كما يثب الضفدع، ويدخل الماء فلا تلحقه السفن إذا تم السبت. وقال القزويني: سمك في البحر يقال له "أبو مرينا" على صور الرجال، بجلود لزجة، وأجسام تشاكله، يبرزون من البحر إلى البر يتشمسون، فإذا وقعوا في أيدي الصيادين بكوا. وقال المسعودي: النسناس حيوان كالإنسان، له عين واحدة، يخرج من الماء ويتكلم، ومتى ظفر بالإنسان قتله. وقال القزويني: إنه أمة من الأمم، لكل واحد منهم نصف بدن ورأس ويد ورجل، كأنه شق إنسان، يقفز على رجل واحدة قفزا شديدا، ويعدو عدوا منكرا، ويوجد في جزائر الصين. وحيوانات البحر التي تشبه حيوانات البر كثيرة جدا، والقول فيها يطول، وإنما اقتصرت على ذكر ما يشبه الإنسان لغرابته. وقال أبو حاتم في كتب الطير: طير الماء أكثر من أن يحصى، أكثر من مائتي لون، والعرب لا تعرف أكثرها، وأسماؤها عندنا بالنبطية لأنها في البطائح في بلاد النبط .

(وفيه أجناس لا يعرف لها نظير في البر، وقد ذكرت أوصافها في مجلدات، وجمعها أقوام عنوا بركوب البحر وجمع عجائبه. ثم انظر كيف خلق الله اللؤلؤ ودرره في صدفه تحت الماء ) ومغاصه ببحر الهند، وعن ابن عباس: إذا أمطرت السماء فتحت الصدف أفواهها. قلت: وهو مطر مخصوص في أيام نيسان الرومي. (وانظر كيف أنبت المرجان من صم الصخور تحت الماء، وإنما هو نبات على هيئة شجر ينبت من الحجر ) ومغاصه في بحر إفريقية، قال الطرطوشي: هو عروق حمر تطلع من الشجر كأصابع الكف. قال: وهذا شاهدناه بمغارب الأرض كثيرا انتهى. وتتخذ منها السبح وغيرها من أنواع الأواني، والمذكور في القرآن هو صغار اللؤلؤ، قاله الأزهري، وجماعة من أئمة اللغة، قيل النون زائدة لأنه ليس في الكلام فعلال بالفتح إلا المضاعف نحو الخلخال، وقال الأزهري: لا أدري أثلاثي أم رباعي .

(ثم تأمل ما علاه من العنبر وأصناف [ ص: 206 ] النفائس التي يقذفها البحر وتستخرج منه ) والعنبر قطع توجد في بحر الهند تشبه الشمع في جموده وذوبانه; وقيل: إنه روث دابة بحرية، وقيل: إنه زبد البحر، وقيل: إنه من عين يسيل في البحر، وتفصل عنه الحلاوة، ويطفو الشمع من فوق، فهو العنبر الأشهب، وربما اتفق أنه يبتلعه السمك المعروف بـ"البالة" لحلاوة فيه فيعرض له قولنج فيموت فيقذفه البحر إلى الساحل فتتفرق أجزاء السمك، وينعقد ذلك العنبر الأشهب في جوفه، فهو العنبر الفستقي. وقال القزويني: البالة سمكة عظيمة يخاف منها أهل السفن، فإذا بغت على حيوان البحر بعث الله لها سمكة نحو الذراع تلتصق بأذنها، ولا تفارقها، فتطلب قعر البحر، وتضرب الأرض برأسها إلى أن تموت، وتطفو على الماء كالجبل العظيم، ولها أناس يرصدونها، فإذا رأوها جروها بالكلاليب إلى الساحل، وشقوا بطنها، واستخرجوا منها العنبر .




الخدمات العلمية