ومن آياته الهواء اللطيف المحبوس بين مقعر السماء ومحدب الأرض يدرك بحس اللمس عند هبوب الرياح جسمه ، ولا يرى بالعين شخصه وجملته ، مثل البحر الواحد والطيور محلقة في جو السماء ومستبقة سباحة فيه بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء ، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هبوب الرياح ، كما تضطرب أمواج البحر ، فإذا حرك الله الهواء وجعله ريحا هابة فإن شاء جعله نشرا بين يدي رحمته كما قال سبحانه : وأرسلنا الرياح لواقح فيصل بحركته روح الهواء إلى الحيوانات والنباتات فتستعد للنماء ، وإن شاء جعله عذابا على العصاة من خليقته ، كما قال تعالى : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ثم مهما ضغط في الماء فالزق المنفوخ يتحامل عليه الرجل القوي ليغمسه في الماء فيعجز عنه ، والحديد الصلب تضعه على وجه الماء فيرسب فيه . انظر إلى لطف الهواء ، ثم شدته وقوته ،
وكذلك كل مجوف فيه هواء لا يغوص في الماء ، لأن الهواء ينقبض عن الغوص في الماء فلا ينفصل عن السطح الداخل من السفينة ، فتبقى السفينة الثقيلة مع قوتها وصلابتها معلقة في الهواء اللطيف كالذي ، يقع في بئر فيتعلق بذيل رجل قوي ممتنع عن الهوي في البئر . فانظر كيف ينقبض الهواء من الماء بقوته مع لطافته ، وبهذه الحكمة أمسك الله تعالى السفن على وجه الماء ،
فالسفينة بمقعرها تتشبث بأذيال الهواء القوي حتى تمتنع من الهوي والغوص في الماء . فسبحان من علق المركب الثقيل في الهواء اللطيف من غير علاقة تشاهد وعقدة ، تشد .
ثم فهي عجائب ما بين السماء والأرض . وقد أشار القرآن إلى جملة ذلك في قوله تعالى : انظر إلى عجائب الجو ، وما يظهر فيه من الغيوم ، والرعود ، والبروق ، والأمطار ، والثلوج ، والشهب ، والصواعق ، وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وهذا هو الذي بينهما .
وأشار إلى تفصيله في مواضع شتى حيث قال تعالى : والسحاب المسخر بين السماء والأرض وحيث تعرض للرعد والبرق والسحاب والمطر فإذا لم يكن لك حظ من هذه الجملة إلا أن ترى المطر بعينك ، وتسمع الرعد بأذنك ، فالبهيمة تشاركك في هذه المعرفة ، فارتفع من حضيض عالم البهائم إلى عالم الملأ الأعلى ، فقد فتحت عينيك فأدركت ظاهرها ، فغمض عينك الظاهرة ، وانظر ببصيرتك الباطنة ، لترى عجائب باطنها ، وغرائب أسرارها . وهذا أيضا باب يطول الفكر فيه إذ لا ، مطمع في استقصائه .
وهو مع رخاوته حامل للماء الثقيل ، وممسك له في جو السماء إلى أن يأذن الله في إرسال الماء ، وتقطيع القشرات كل قطرة بالقدر الذي أراده الله تعالى ، وعلى الشكل الذي شاءه . فترى السحاب يرش الماء على الأرض ، ويرسله قطرات متفاصلة ، لا تدرك قطرة منها قطرة ، ولا تتصل واحدة بأخرى ، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه ، فلا يتقدم المتأخر ، ولا يتأخر المتقدم ، حتى يصيب الأرض قطرة قطرة فلو اجتمع الأولون والآخرون على أن يخلقوا منها قطرة أو يعرفوا عدد ما ينزل منها في بلدة واحدة أو قرية واحدة لعجز حساب الجن والإنس عن ذلك ; فلا يعلم عددها إلا الذي أوجدها . فتأمل السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جو صاف لا كدورة فيه ، وكيف يخلقه الله تعالى إذا شاء ، ومتى شاء ،
ثم كل قطرة منها عينت لكل جزء من الأرض ، ولكل حيوان فيها ، من طير ، ووحش ، وجميع الحشرات ، والدواب ومكتوب ، على تلك القطرة بخط إلهي لا يدرك بالبصر الظاهر أنها رزق الدودة الفلانية التي في ناحية الجبل الفلاني تصل إليها عند عطشها في الوقف الفلاني ، هذا مع ما في انعقاد البرد الصلب من الماء اللطيف وفي تناثر الثلوج كالقطن المندوف من العجائب التي لا تحصى .
كل ذلك فضل من الجبار القادر ، وقهر من الخلاق القاهر ، ما لأحد من الخلق فيه شرك ، ولا مدخل ، بل ليس للمؤمنين من خلقه إلا الاستكانة والخضوع تحت جلاله وعظمته ولا للعميان الجاحدين إلا الجهل بكيفيته ، ورجم الظنون بذكر سببه وعلته ، فيقول الجاهل المغرور إنما ينزل الماء لأنه ثقيل بطبعه ، وإنما هذا سبب نزوله ويظن أن هذه معرفة انكشفت له ويفرح بها ولو قيل له ما معنى الطبع ، وما الذي خلقه ، ومن الذي خلق الماء الذي طبعه الثقل ، وما الذي رقى الماء المصبوب في أسافل الشجر إلى أعالي الأغصان وهو ثقيل بطبعه فكيف هوى إلى أسفل ثم ارتفع إلى فوق في داخل تجاويف الأشجار شيئا فشيئا بحيث لا يرى ولا يشاهد حتى ينتشر في جميع أطراف الأوراق فيغذي كل جزء من كل ورقة ويجري ، إليها في تجاويف عروق شعرية صغار يروى منه العرق الذي هو أصل الورقة ثم ينتشر من ذلك العرق الكبير الممدود في طول الورقة عروق صغار فكأن الكبير نهر وما انشعب عنه جداول ثم ينشعب من الجداول سوق أصغر منها ثم ينتشر منها خيوط عنكبوتية دقيقة تخرج عن إدراك البصر حتى تنبسط في جميع عرض الورقة فيصل الماء في أجوافها إلى سائر أجزاء الورقة ليغذيها ، وينميها ، ويزينها ، وتبقى طراوتها ونضارتها وكذلك إلى سائر أجزاء الفواكه ، فإن كان الماء يتحرك بطبعه إلى أسفل فكيف تحرك إلى فوق ، فإن كان ذلك بجذب جاذب فما الذي سخر ذلك الجاذب وإن ؟ كان ينتهي بالآخرة إلى خالق السماوات والأرض وجبار الملك والملكوت فلم لا يحال عليه من أول الأمر ! فنهاية الجاهل بداية العاقل .