وإنما هذا تنبيه على طريق الفكر واعتقد ، على طريق الجملة أنه ما من كوكب من الكواكب إلا ولله تعالى حكم كثيرة في خلقه ، ثم في مقداره ، ثم في شكله ، ثم في لونه ، ثم في وضعه من السماء ، وقربه .من ، الكواكب التي بجنبه ، وبعده وقس على ذلك ما ذكرناه من أعضاء بدنك ، إذ ما من جزء إلا وفيه حكمة بل حكم كثيرة ، وأمر السماء أعظم ، بل لا نسبة لعالم الأرض إلى عالم السماء ، لا في كبر جسم ، ولا في كثرة معانيه . وعجائب السماوات لا مطمع في إحصاء عشر عشير جزء من أجزائها ،
وقس التفاوت الذي بينهما في كثرة المعاني بما بينهما من التفاوت في كبر الأرض ، فأنت تعرف من كبر الأرض ، واتساع أطرافها ، أنه لا يقدر آدمي على أن يدركها ويدور بجوانبها وقد اتفق الناظرون على أن الشمس مثل الأرض مائة ونيفا وستين مرة وفي الأخبار ما يدل على عظمتها ثم الكواكب التي تراها أصغرها مثل الأرض ثمانى مرات ، وأكبرها ينتهي إلى قريب من مائة وعشرين مرة مثل الأرض .
وبهذا تعرف ارتفاعها وبعدها إذ للعبد صارت ترى صغارا ، ولذلك أشار الله تعالى إلى بعدها فقال : رفع سمكها فسواها .
وفي الأخبار أن ما فإذا كان هذا مقدار كوكب واحد مثل الأرض أضعافا ، فانظر إلى كثرة الكواكب . بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام
ثم انظر إلى السماء التي الكواكب مركوزة فيها ، وإلى عظمها .
ثم انظر إلى سرعة حركتها وأنت لا تحس بحركتها ، فضلا عن أن تدرك سرعتها ، لكن لا تشك أنها في لحظة تسير مقدار عرض كوكب لأن الزمان من طلوع أول جزء من كوكب إلى تمامه يسير وذلك ، الكوكب هو مثل الأرض مائة مرة وزيادة ، فقد دار الفلك في هذه اللحظة مثل الأرض مائة مرة ، وهكذا يدور على الدوام ، وأنت غافل عنه .
وانظر كيف عبر جبريل عليه السلام عن سرعة حركته إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل زالت الشمس ؟ فقال : لا نعم ، فقال : كيف تقول لا نعم ؟ فقال : من حين قلت لا إلى أن قلت نعم سارت الشمس خمسمائة عام فانظر إلى عظم شخصها ثم إلى خفة حركتها ثم انظر إلى قدرة الفاطر الحكيم كيف أثبت صورتها مع اتساع أكنافها في حدقة العين مع صغرها حتى تجلس على الأرض وتفتح عينيك نحوها ، فترى جميعها .
فهذه السماء بعظمها ، وكثرة كواكبها ، لا تنظر إليها ، بل انظر إلى بارئها كيف خلقها ثم أمسكها من غير عمد ترونها ومن غير علاقة من فوقها وكل العالم .
كبيت واحد ، والسماء سقفه . فالعجب منك أنك تدخل بيت غني فتراه مزوقا بالصبغ مموها بالذهب فلا ينقطع تعجبك منه ، ولا تزال تذكره ، وتصف حسنه طول عمرك ، وأنت أبدا تنظر إلى هذا البيت العظيم ، وإلى أرضه ، وإلى سقفه ، وإلى هوائه ، وإلى عجائب أمتعته ، وغرائب حيواناته ، وبدائع نقوشه ثم لا تتحدث فيه ، ولا تلتفت بقلبك إليه ، فما هذا البيت دون ذلك البيت الذي تصفه بل ذلك البيت هو أيضا جزء من الأرض التي هي أخس أجزاء هذا البيت ، ومع هذا فلا تنظر إليه ليس له سبب إلا أنه بيت ربك هو الذي انفرد ببنائه وترتيبه ، وأنت قد نسيت نفسك ، وربك ، وبيت ربك ، واشتغلت ببطنك ، وفرجك ، ليس لك هم إلا شهوتك أو حشمتك ، وغاية .
شهوتك أن تملأ بطنك ولا تقدر على أن تأكل عشر ما تأكله بهيمة ، فتكون البهيمة فوقك بعشر درجات .
وغاية حشمتك أن تقبل عليك عشرة أو مائة من معارفك فينافقون بألسنتهم بين يديك ، ويضمرون خبائث الاعتقادات عليك ، وإن صدقوك في مودتهم إياك فلا يملكون لك ولا لأنفسهم نفعا ، ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا وقد يكون في بلدك من أغنياء اليهود والنصارى من يزيد جاهه على جاهك وقد اشتغلت بهذا الغرور ، وغفلت عن ثم غفلت عن التنعم بالنظر إلى جلال مالك الملكوت والملك . النظر في جمال ملكوت السماوات والأرض ،
وما مثلك ، ومثل عقلك ، إلا مثل النملة تخرج من جحرها الذي حفرته في قصر مشيد من قصور الملك ، رفيع البنيان ، حصين الأركان ، مزين بالجواري ، والغلمان ، وأنواع الذخائر ، والنفائس ، فإنها إذا خرجت من جحرها ، ولقيت صاحبتها ، لم تتحدث لو قدرت على النطق إلا عن بيتها ، وغذائها ، وكيفية ادخارها ; فأما حال القصر والملك الذي في القصر فهي بمعزل عنه ، وعن التفكر فيه ، بل لا قدرة لها على المجاوزة بالنظر عن نفسها ، وغذائها ، وبيتها إلى غيره .
. وكما غفلت النملة عن القصر ، وعن أرضه ، وسقفه ، وحيطانه ، وسائر بنيانه ، وغفلت أيضا عن سكانه ، فأنت أيضا غافل عن بيت الله تعالى ، وعن ملائكته ، الذين هم سكان سماواته ، فلا تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك ، ولا تعرف من ملائكة السماوات إلا ما تعرف النملة منك ومن سكان بيتك .
نعم ليس للنملة طريق إلى أن تعرفك ، وتعرف عجائب قصرك ، وبدائع صنعة الصانع فيه ، وأما أنت فلك قدرة على أن تجول في الملكوت ، وتعرف من عجائبه ما الخلق غافلون عنه .