بيان مراتب الناس في طول الأمل وقصره .
اعلم أن الناس في ذلك يتفاوتون ; فمنهم من يأمل البقاء ويشتهي ، ذلك أبدا ، قال الله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ومنهم من يأمل البقاء إلى الهرم وهو أقصى العمر الذي شاهده ورآه ، وهو الذي يحب الدنيا حبا شديدا ، ومنهم من يأمل إلى سنة ، فلا يشتغل بتدبير ما وراءها ، فلا يقدر لنفسه وجودا في عام قابل ، ولكن هذا يستعد في الصيف للشتاء ، وفي الشتاء للصيف فإذا ، جمع ما يكفيه لسنته اشتغل بالعبادة . ومنهم من يأمل مدة الصيف أو الشتاء فلا يدخر في الصيف ثياب الشتاء ، ولا في الشتاء ثياب الصيف . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشيخ شاب في حب طلب الدنيا ، وإن التفت ترقوتاه من الكبر إلا الذين اتقوا وقليل ما هم "
ومنهم من يرجع أمله إلى يوم وليلة فلا يستعد إلا لنهاره ، وأما للغد فلا .
قال عيسى عليه السلام : " لا تهتموا برزق غد ، فإن يكن غدا من آجالكم فستأتي فيه أرزاقكم مع آجالكم ، وإن لم يكن من آجالكم فلا تهتموا لآجال غيركم .
" ومنهم من لا يجاوز أمله ساعة ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله ومنهم من لا يقدر البقاء أيضا ساعة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمم مع القدرة على الماء قبل مضي ساعة ، ويقول لعلي لا : " أبلغه " ومنهم من يكون الموت نصب عينيه كأنه واقع به فهو ينتظره . وهذا الإنسان هو الذي يصلي صلاة مودع وفيه ورد ما نقل إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء ، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح عن رضي الله تعالى عنه لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة إيمانه فقال : ما خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها أخرى معاذ بن جبل وكما نقل عن الأسود وهو حبشي أنه كان يصلي ليلا ، ويلتفت يمينا وشمالا ، فقال له قائل ما هذا قال أنظر : ملك الموت من أي جهة يأتيني .
فهذه مراتب الناس ، ولكل درجات عند الله ، وليس من أمله مقصور على شهر ، كمن أمله شهر ويوم ، بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله فإن ، الله لا يظلم مثقال ذرة ، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ثم يظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى العمل ، وكل إنسان يدعي أنه قصير الأمل وهو كاذب إنما يظهر ذلك بأعماله ، فإنه يعتني بأسباب ربما لا يحتاج إليها في سنة ، فيدل ذلك على طول أمله .
وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نصب العين لا يغفل عنه ساعة فليستعد ، للموت الذي يرد عليه في الوقت ، فإن عاش إلى المساء شكر الله تعالى على طاعته وفرح بأنه ، لم يضيع نهاره بل استوفى منه حظه ، وادخره لنفسه ، ثم يستأنف مثله إلى الصباح ، وهكذا إذا أصبح .
ولا يتيسر هذا إلا لمن فرغ القلب عن الغد ، وما يكون فيه .
فمثل هذا إذا مات سعد وغنم ، وإن عاش سر بحسن الاستعداد ، ولذة المناجاة ، فالموت له سعادة ، والحياة له مزيد ، فليكن الموت على بالك يا مسكين ، فإن السير حاث بك وأنت غافل عن نفسك ، ولعلك قد قاربت المنزل ، وقطعت المسافة ، ولا تكون كذلك إلا بمبادرة العمل اغتناما لكل نفس أمهلت فيه .