الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وهو محال ; إذ هو الموجب والآمر والناهي ، وكيف يتهدف لإيجاب ، أو يتعرض للزوم وخطاب والمراد ؟! بالواجب أحد أمرين : إما الفعل الذي في تركه ضرر إما آجل كما يقال : يجب على العبد أن يطيع الله حتى لا يعذبه في الآخرة بالنار، أو ضرر عاجل كما يقال : يجب على العطشان أن يشرب حتى لا يموت .

وإما أن يراد به الذي يؤدي عدمه إلى محال ، كما يقال : وجود المعلوم واجب إذ عدمه يؤدي إلى محال ، وهو أن يصير العلم جهلا فإن أراد الخصم بأن الخلق واجب على الله بالمعنى الأول فقد عرضه للضرر وإن أراد به المعنى الثاني فهو مسلم إذ بعد سبق العلم لا بد من وجود المعلوم وإن أراد به معنى ثالثا فهو غير مفهوم .

وقوله : يجب لمصلحة عباده كلام فاسد فإنه إذا لم يتضرر بترك مصلحة العباد ، لم يكن للوجوب في حقه معنى .

ثم إن مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة فأما أن يخلقهم في دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب ، فما في ذلك غبطة عند ذوي الألباب .

التالي السابق


ثم أشار المصنف بالرد عليهم بأنه لو وجب شيء فإما بالإيجاب الشرعي (وهو محال; إذ هو الموجب) بكسر الجيم (و) هو (الآمر الناهي، وكيف يتهدف لإيجاب، أو يتعرض للزوم وخطاب؟!) فإن هذا شأن المكلفين، أي: لو وجب شيء لاقتضى الحال موجبا، ورتبة الموجب فوق رتبة الموجب عليه، ولا يخفى بطلانه .

(و) يقال لهم: (المراد بالواجب أحد أمرين: إما بالفعل الذي في تركه ضرر إما آجل) أي: في الآخرة، عرف بالشرع (كما يقال: يجب على العبد أن يطيع الله) سبحانه، (أو) ضرر (عاجل) أي: في الدنيا، وإن عرف بالفعل (كما يقال: يجب على العطشان أن يشرب حتى لا يموت) ، ومعنى الوجوب هنا ترجح الفعل على الترك; لما يتعلق من الضرر بالترك (وإما) بالإيجاب العقلي (أن يراد به الذي يؤدي عدمه إلى) أمر (محال، كما يقال: وجود المعلوم) أي: ما تعلق علم الله بوقوعه (واجب) وقوعه; (إذ عدمه يؤدي إلى محال، وهو أن يصير العلم جهلا) ونحن نجزم أن عدم ذلك لا يلزم منه محال لذاته، ولا يضره (فإن أراد الخصم) وهو المعتزلي بقوله (بأن) ابتداء (الخلق) مثلا (واجب على الله) سبحانه (المعنى الأول) وهو أن في تركه ضررا آجلا أو عاجلا (فقد عرضه) تعالى (للضرار) أي: المضارة، كذا في سائر النسخ، وفي نسخ المسايرة: "للضرر"، أي: ولحوق الضرر محال في حقه تعالى، والقول به كفر، وفاقا، (وإن أراد به المعنى الثاني) وهو أن عدمه محال (فهو مسلم) ، حيث نظر أن ابتداء الخلق والتكليف قد تعلق العلم بوقوعه; (إذ بعد سبق العلم) بوقوع شيء (لا بد من وجود) ذلك الشيء (المعلوم) وقوعه (وإن أراد) الخصم (به معنى ثالثا) أي: بكون ابتداء الخلق واجبا (فهو غير مفهوم) ولا يجب عليه شيء بالإيجاب العادي أيضا; لما يلزم من تحتم فعله عليه، فلا يكون مختارا، والعادة فعله، فلم تبق شبهة، إلا أنه باعتبار الحسن والقبح العقليين، وهو باطل، كما سيأتي، فثبت أنه لا يجب على [ ص: 180 ] الله شيء بوجه من الوجوه، ولما كانت المعتزلة يذهبون إلى المعنى الثاني، وهو الذي عدمه يؤدي إلى محال، لكن بمعنى آخر استطرد ابن الهمام خلف كلام المصنف، فقال: واعلم أنهم يريدون بالواجب ما يثبت بتركه نقص في نظر العقل بسبب ترك مقتضى قيام الداعي إلى ذلك الفعل، وهو هنا كمال القدرة والغنى المطلق، مع انتفاء الصادق عن ذلك الفعل، فترك المراعاة المذكورة مع ذلك بخل يجب تنزيهه تعالى عنه، فيجب ما اقتضاه قيام الداعي، أي: لا يمكن أن يقع غيره; لتعاليه سبحانه عما لا يليق، وهذا الذي يريدونه هو المعنى الثاني الذي ذكره المصنف، وظاهر تسليمه له أنهم قصدوا: المعلوم يجب وقوعه، فهو صحيح، ومراد المصنف تسليم إطلاق لفظ الوجوب فقط، لا مع موضوعه; فإنه عين مذهب الاعتزال، وإنما مراده أن ابتداء الخلق واجب الوقوع; لتعلق العلم بوقوعه، وأن ابتداء التكليف كذلك; لأن عدم وقوعه يؤدي إلى محال، هو انقلاب العلم جهلا، وهذا غير ملاق لمقصود المعتزلة، وإن لم يكن مراده ذلك لزم أن يسلم أن كل أصلح للعبد يجب وقوعه له; لأن كل ما علم وقوعه للعبد فهو الأصلح له عندهم; لزعمهم المبالغة في التنزيه .

(وقوله: يجب لمصلحة عباده) أي: وجوب رعاية الأصلح (كلام فاسد) من أصله; (فإنه إذا لم يتضرر) سبحانه وتعالى (بترك مصلحة العباد، لم يكن للوجوب في حقه) تعالى (معنى، ثم مصلحة العباد) إنما هي (فى أن يخلقهم في الجنة) أي: لو كانت الحكمة مقرونة بطلب المنفعة، كما يزعمون، لكان ابتداء الخلق في الجنة، وفيه أعظم المنافع، بل فيه المنفعة التي ليس في ضمنها ضرر أولى (فأما أن يخلقهم في دار البلايا) أي: دار الدنيا، مع ما في ضمنها ضرر وخوف (ويعرضهم للخطايا) والمعاصي (ثم يهدفهم) أي: يجعلهم هدفا (لخطر العقاب) بارتكاب الخطايا (وهو العرض) على الله تعالى (والحساب، فما في ذلك غبطة) يغتبط بها (عند ذوي الألباب) وفي بعض النسخ: "لأولي الألباب" .

قال ابن الهمام -عقيب هذا الكلام-: وأنت قد علمت أن معنى هذا الوجوب عندهم كونه لا بد من وقوعه، وفرض عدمه فرض محال; لاستلزامه المحال -على زعمهم-، وهو اتصافه بالبخل، فلا يكون بهذا الوجوب معرضا للضرر، كما ألزمهم به الحجة; لأن التعريض له إنما يلزم لو كان الإيجاب مبنيا على التخيير في فعل ذلك الأمر الواجب وتركه، وليس هذا كذلك; لأن حاصل كلامهم فيه سلب قدرته عن ترك ما هو الأصلح; لانتفاء قدرته من الاتصاف بما لا يليق به; فالسبيل في دفعهم إنما منع كل واقع هو الأصلح لمن وقع له، ومنع لزوم ما لا يليق به، أي: البخل الذي زعموه، فتأمل .

وقد استدل إمام الحرمين على إبطال الإيجاب العقلي بأنه غير معقول بالنسبة إليه; فإنه لا يعقل إلا أن يكون باذله ملزما، ولا يتحقق ذلك بالنسبة إلى الله تعالى، وبأن ما يوجبونه على الله تعالى من إثابة العبد على الطاعات، والطاعات الصادرة منه شكر النعمة السابغة، ومن أدى ما وجب عليه لم يستحق عوضا، فلا تحقق لوجوبه، وكذلك يلزمهم أيضا إذا أوجبوا على الباري تعالى أصل الخلق وإكمال العقل وإزاحة العلل، وإذا كان واجبا على الله فكيف يجب الشكر على العبد؟! وسيأتي إيضاحه .




الخدمات العلمية