الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فقد مال الاختيار إلى أن الإيمان حاصل دون العمل .

وقد اشتهر عن السلف قولهم الإيمان عقد وقول وعمل ، فما معناه قلنا : لا يبعد أن يعد العمل من الإيمان ; لأنه مكمل له ومتمم كما يقال : الرأس واليدان من الإنسان ومعلوم أنه يخرج عن كونه إنسانا بعدم الرأس ولا يخرج عنه بكونه مقطوع اليد وكذلك يقال التسبيحات والتكبيرات من الصلاة وإن كانت لا تبطل بفقدها فالتصديق بالقلب من الإيمان كالرأس من وجود الإنسان إذ ينعدم بعدمه وبقية الطاعات كالأطراف بعضها أعلى من بعض وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " والصحابة رضي الله عنهم ما اعتقدوا مذهب المعتزلة في الخروج عن الإيمان بالزنا ولكن معناه غير مؤمن حقا إيمانا تاما كاملا كما يقال للعاجز المقطوع الأطراف هذا ليس بإنسان أي ليس له الكمال الذي هو وراء حقيقة الإنسانية .

التالي السابق


(فإن قلت: فقد مال الاختيار) والترجيح بما ذكرت آنفا (إلى أن الإيمان حاصل) بذاته (دون العمل) حيث جعلت مفهومه التصديق بالقلب أو به وباللسان، (وقد اشتهر عن السلف) الصالحين (قولهم) أي صح عنهم أنهم قالوا: (الإيمان عقد وقول وعمل، فما معناه) ؟ بينوا لنا،أما تحقيق معتقد السلف في الإيمان، فقد ذكر عبد القاهر البغدادي أن الذين قالوا: إن الإيمان بالقلب واللسان، وسائر الأركان فهم خمس فرق، إحداهما أصحاب الحديث، والثانية الزيدية، والثالثة الإمامية، والرابعة المعتزلة، والخامسة الخوارج. فأما أصحاب الحديث قد اختلفت عباراتهم في حقيقة الإيمان وحده، ثم سرد عباراتهم وأقوالهم إلى أن قال: ومنهم من قسم الإيمان على أنواع، فأعلى الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، هذا قول عامة أصحاب الحديث وفقهائهم، مثل مالك والشافعي، والأوزاعي، وأهل المدينة، وأهل الظاهر، وأحمد وإسحاق، وسائر أئمة الحديث، وبه قال من متكلميهم الحارث بن أسد المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وأبو علي الثقفي، وأبو الحسن الكبير الطبري اهـ .

وإلى هذا ميل صاحب القوت وعباراته دالة عليه، وقال: وقد روي ذلك مفصلا في حديث علي -رضي الله عنه- الإيمان قول باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالأركان، ثم قال: فأدخل أعمال الجوارح في عقود الإيمان، وقد ظهر من السياقين نسبة هذا القول إلى السلف، وصح قول المصنف، واشتهر عن السلف، وأشار إلى الجواب بقوله: (قلنا: لا يبعد أن يعد العمل من الإيمان; لأنه مكمل له ومتمم) التكميل، يستعمل في الذوات والصفات، وكمل الشيء تمت أجزاؤه وكمله، وأكمله، والتتميم: تكميل الأجزاء، (كما يقال: الرأس واليدان من الإنسان) ، أي من جملة أجزاء الإنسان .

(ومعلوم) بالبديهة (أنه يخرج عن كونه إنسانا بعدم الرأس) ; لأنه إذا ذهب الرأس ذهب الإنسان، (ولا يخرج عنه) ، أي عن كونه إنسانا (بكونه مقطوع اليد) أو اليدين، أو من أصل خلقته، (ولذلك يقال التسبيحات) التي يؤتى بها في الركوع والسجود، (والتكبيرات) التي يؤتى بها عند الافتتاح، وعند كل رفع وخفض، (من الصلاة) ، أي من نفسها، (وإن كانت) الصلاة (لا تبطل بفقدها) اتفاقا، (فالتصديق بالقلب) نسبته (من الإيمان كالقلب من وجود الإنسان) ، أشار بذلك إلى أنه جزء من مفهومه (إذ ينعدم) الإيمان (بعدمه) ، كما ينعدم الإنسان بعدم القلب .

(وبقية الطاعات) الحاصلة (كالأطراف) من الإنسان حيث لا ينعدم الإنسان بعدمها (وبعضها) أي الطاعات (أعلى من بعض) كما أن بعض الأطراف من الإنسان أشرف من بعض، ومثل التصديق والعمل أيضا، كمثل فسطاط قائم بالأرض ظاهره متجاف، وله أطناب، وله عمود في باطنه فالفسطاط مثل الإيمان له أركان من أعمال العلانية، فأعمال الجوارح هي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في باطن الفسطاط مثله، كالتصديق لأقوام للفسطاط، إلا به فقد احتاج الفسطاط إليهما جميعا، إذ لا استعانة له ولا قوة إلا بهما جميعا، (وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن") .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة قلت: وفيه زيادة عندهما، وهي:"ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"، وهكذا رواه أحمد والترمذي وابن [ ص: 255 ] ماجة، وزاد عبد الرزاق، وأحمد، ومسلم في روايتهم: "ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم وإياكم"، وأخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والطبراني في الكبير، والحكيم الترمذي، والبيهقي عن عبد الله بن أبي داوود، والطبراني أيضا في الكبير، عن عبد الله بن مغفل ، وفي الأوسط عن علي.

وقال ابن عدي في الكامل: رواه علي بن عاصم بن علي الواسطي، عن شعبة، عن قتادة، عن كثير بن كنز عن ابن عياض، عن أبي هريرة، وعلي ليس بشيء، وهذا لا أعلم أحدا يرويه عن شعبة بهذا الإسناد غير علي بن عاصم، وأورده في ترجمة بقية بن الوليد، عن شعبة، وورقاء بن عمر، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال الأعرج: سمعت من أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان يقول مع ذلك ولا ينتهب نهبة... الحديث، وهذا من حديث شعبة عن أبي الزناد، لم يروه عن شعبة غير بقية، وذلك; لأنه لا يحفظ لشعبة عن أبي الزناد شيء، ويقال: إن في أصل بقية هذا الحديث، نا شعبة عن أبي الزناد، فقيل: كان في كتابه نا عبد عن أبي الزناد، فصحفوا عنه، فقالوا: شعبة عن أبي الزناد اهـ .

وأخرجه أبو نعيم في الحلية، عن أبي هريرة وزاد بعد قوله: "وهو مؤمن ينزع منه الإيمان ولا يعود إليه حتى يتوب، فإذا تاب عاد إليه".

وأخرجه البزار والطبراني في الكبير، والخطيب في التاريخ، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعندهم بعد قوله وهو مؤمن: "فإذا تاب تاب الله عليه".

وعند الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد بلفظ: "فإذا تاب رجع إليه"، وأخرجه عبد الرزاق ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة، وبعد قوله: وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد، وأخرجه عبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وسمويه، وابن الضريس، عن أبي سعيد والحكيم الترمذي، عن عائشة. وذكر ابن عدي في الكامل في ترجمة إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التميمي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: خطبنا علي بالكوفة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث. وأورد في ترجمة يحيى بن هاشم- نا أظنه شعبة- عن الحكم، عن إبراهيم بهذا الإسناد، وأورده في ترجمة الحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله .

(والصحابة ما اعتقدوا) رضي الله عنهم (مذاهب المعتزلة) بل ولا ذهب فهمهم (في الخروج عن الإيمان بالزنا) ، وشرب الخمر، والسرقة، والانتهاب، والغل، وإن وجد في بعض رواياته لفظ الخروج والنزع، فهو على المبالغة والتشديد، (ولكن معناه غير مؤمن حقا) وصدقا، وغير مؤمن (إيمانا تاما) بشروطه (كاملا) بالورع والمخافة، وهذا (كما يقال للعاجز المقطوع الأطراف) كاليدين، والرجلين والأنف والأذن (هذا ليس بإنسان) وهو صحيح، (أي ليس له الكمال الذي وراء حقيقة الإنسانية) .

وأورد صاحب القوت هذا الحديث، وقال: معناه كامل الإيمان ومؤمن حقا، لأن حقيقة الإيمان كمال الخوف والورع، إذ الأمة مجمعة أن أهل الكبائر ليسوا بكافرين، وإذا فسق بالزنا وشرب الخمر خرج من حقيقة الإيمان، وهو الخوف، والورع، ولم يخرج من اسمه وهو التصديق، والتزام الشريعة، وفيه معنى لطيف، كأنه يرتفع عنه إيمان الحياء لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الحياء من الإيمان"، والمستحي لا يكشف عورته على حرام، ويبقى إيمان الإسلام والتوحيد، وإيجاب الأحكام .



(تنبيه)

قال الفخر الرازي: الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، والقائلون بأنها داخلة تحت اسم الإيمان، اختلفوا فقال الشافعي رحمه الله: الفسق لا يخرج عن الإيمان، وهذا في غاية الصعوبة; لأنه إذا كان اسما لمجموع الأمور، فعند فوات بعضها يفوت ذلك المجموع; إذ المجموع ينتفي بانتفاء جزئه، فوجب أن ينتفي الإيمان. وأما المعتزلة والخوارج فأصلهم مطرد لنا: أن الأعمال عطف على الإيمان في غير موضع من كتاب الله عز وجل، والمعطوف غير المعطوف عليه; ولأنه شرط لصحة الأعمال، كما في قوله تعالى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ، والشرط غير المشروط، وقال الله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ولو لم يكن الإيمان معرفة عندهم لكان ذلك شرطا غير مفيد، وقد خاطب باسم الإيمان، ثم أوجب الأعمال فقال: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام وهذا دليل التغاير وقصر اسم الإيمان على التصديق، ولهذا فزع أعداء الله تعالى [ ص: 256 ] عند معاينة العذاب والبأس إلى التصديق دون غيره من الأعمال نحو فرعون لما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وقول قوم يونس عليه السلام: آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ، وتشبثهم بقوله تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم ، أي صلاتكم عند بيت المقدس لا يتم; لأن المراد بهذا الإيمان التصديق أيضا، غير أن المراد به تصديقهم بكون الصلاة جائزة عند التوجه إلى بيت المقدس، ويحتمل أن يراد به نفس الصلاة، إلا أنها سميت إيمانا مجازا إما لأنها لا تصح بدون الإيمان، فكان الإيمان شرط جوازها، وسبب قبولها، أو لدلالتها على الإيمان، على أن الاسم محمول على المجاز بالإجماع فإنهم ما جعلوا الإيمان اسما لكل فرد من أفراد العبادات، حتى لا يكون الخارج عن الصلاة خارجا عن الإيمان، ولا مفسد الصلاة مفسدا للإيمان، وكذا هذا في الصوم، والحج، ثم إطلاق اسم الجملة على كل فرد من أفراد الجملة مجاز، وإذا كان الاسم مجازا كان حمله على ما ذكرنا أحق لما فيه من مراعاة معنى اللغة، والله أعلم .




الخدمات العلمية