الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
مسألة .

فإن قلت : ما وجه قول السلف أنا مؤمن إن شاء الله والاستثناء شك والشك في الإيمان كفر وقد كانوا كلهم يمتنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه .

فقال سفيان الثوري رحمه الله من قال : أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين ، ومن قال : أنا مؤمن حقا فهو بدعة فكيف يكون كاذبا وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه ومن كان ، مؤمنا في نفسه كان مؤمنا عند الله كما أن من كان طويلا وسخيا في نفسه ، وعلم ذلك كان كذلك عند الله ، وكذا من كان مسرورا أو حزينا أو سميعا أو بصيرا ولو قيل للإنسان : هل أنت حيوان لم يحسن أن يقول أنا حيوان إن شاء الله .

ولما قال سفيان ذلك قيل له : فماذا نقول ؟ قال : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأي فرق بين أن يقول آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وبين أن يقول أنا مؤمن وقيل للحسن أمؤمن أنت ؟ فقال إن شاء الله ، فقيل له لم : تستثني يا أبا سعيد في الإيمان فقال : أخاف أن أقول نعم ، فيقول الله سبحانه : كذبت يا حسن ; فتحق علي الكلمة .

وكان يقول : ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره ، فمقتني ، وقال اذهب لا قبلت لك عملا ، فأنا أعمل في غير معمل .

وقال إبراهيم بن أدهم إذا قيل لك أمؤمن أنت ؟ فقل : لا إله إلا الله وقال مرة قل : أنا لا أشك في الإيمان ، وسؤالك إياي بدعة .

وقيل لعلقمة أمؤمن أنت قال ؟ : أرجو إن شاء الله .

وقال الثوري : نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما ندري ما نحن عند الله تعالى فما معنى هذه الاستثناءات فالجواب أن هذا الاستثناء صحيح ، وله أربعة أوجه : وجهان مستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان ولكن في خاتمته أو كماله وجهان لا يستندان إلى الشك .

الوجه الأول الذي : لا يستند إلى معارضة الشك الاحتراز من الجزم خيفة ما فيه من تزكية النفس قال الله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم وقال ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم وقال تعالى : انظر كيف يفترون على الله الكذب وقيل لحكيم : ما الصدق القبيح ، فقال : ثناء المرء على نفسه .

والإيمان من أعلى صفات المجد والجزم تزكية مطلقة وصيغة الاستثناء كأنها ثقل من عرف التزكية كما يقال للإنسان أنت طبيب أو فقيه ، أو مفسر فيقول : نعم إن شاء الله لا في معرض التشكيك ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه فالصيغة صيغة الترديد والتضعيف لنفس الخبر ، ومعناه التضعيف اللازم من لوازم الخبر ، وهو التزكية .

وبهذا التأويل لو سئل عن وصف ذم لم يحسن الاستثناء .

الوجه الثاني التأدب بذكر الله تعالى في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله سبحانه فقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ثم لم يقتصر على ذلك فيما لا يشك فيه ، بل قال تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين وكان الله سبحانه عالما بأنهم يدخلون لا محالة وأنه شاءه ولكن المقصود تعليمه ذلك فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما كان يخبر عنه معلوما كان أو مشكوكا ، حتى قال صلى الله عليه وسلم لما دخل المقابر السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون واللحوق بهم غير مشكوك فيه ، ولكن مقتضى الأدب ذكر الله تعالى وربط الأمور به .

وهذه الصيغة دالة عليه حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني فإذا قيل لك : إن فلانا يموت سريعا فتقول إن شاء الله ، فيفهم منه رغبتك لا تشكك وإذا ، قيل لك : فلان سيزول مرضه ويصح فتقول : إن شاء الله بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة وكذلك ، العدول إلى معنى التأدب لذكر الله تعالى كيف كان الأمر .

التالي السابق


(مسألة) وهي آخر المسائل الثلاث (فإن قلت: ما وجه قول السلف) رحمهم الله تعالى: (أنا مؤمن إن شاء الله) ؟ .

والمراد بالسلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم والشافعية، والمالكية، والحنابلة، ومن المتكلمين الأشعرية، والكلائية، وهو قول سفيان الثوري، وكان صاحبه محمد بن يوسف الفريابي مقيما بعسقلان، فشهر ذلك في الشام عنه، وأخذه عنه عثمان بن مرزوق، فزاد أصحابه المشهورون اليوم بالمرازقة في الديار المصرية الاستثناء في كل شيء وهو بدعة وضلال، أعني ما زادوه، وأما الأصل وهو صحيح كذا ذكره التقي السبكي في رسالة له مستقلة في هذه المسألة، ورأيت بخط المذكور في آخر تلك الرسالة ما نصه:

وممن قال بالاستثناء عبد الله بن مسعود، واختلف في رجوعه عنه، وعمر بن الخطاب في بعض روايته، وعائشة قالت: "أنتم المؤمنون إن شاء الله تعالى"، ومن بعدهم: الحسن، وابن سيرين، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وأبو وائل، ومنصور، ومغيرة، وابن مقسم، والأعمش، وليث بن أبي أسلم، وعطاء بن السائب، وعمارة بن القعقاع، والعلاء بن المسيب، وإسماعيل بن أبي خالد، وابن شبرمة، وسفيان الثوري، وحمزة الزيات، وعلقمة، وإسحاق بن راهويه، وابن عيينة، وحماد بن زيد، والنضر بن شميل، ويزيد بن زريع، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو يحيى صاحب الحسن والآجري، وأبو البحتري سعيد بن فيروز، والضحاك، ويزيد بن أبي زياد، ومحل بن خليفة، ومعمر، وجرير بن عبد الحميد، وابن المبارك، ومالك، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وابن مهدي، وأبو ثور، وأبو سعيد بن الأعرابي، رحمهم الله تعالى. هكذا رأيت بخطه إلا أني رتبتهم كما ترى، على ترتيب الطبقات في الغالب .

وقد وجدت جماعة أخرى من أضراب هؤلاء في كتاب السنة لللالكائي، فمن الصحابة علي بن أبي طالب، ومن المخالفين لهم: ابن أبي مليكة، وسليمان بن بريدة، وعطاء بن يسار، وعبد الرحمن والد العلاء، وبكير الطائي، وميسرة، وغيرهم .

(و) لا يخفى أن (الاستثناء) في الإيمان (شك) ; لأن وضع الاستثناء في اللغة دخول على المحتمل الذي يقال: إنه الشك فيتبادر إلى الأذهان هذا الشك في أصل التصديق الواجب عليه، (والشك في الإيمان كفر) بالاتفاق، (وقد كانوا كلهم يمنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه فقال سفيان) بن سعيد (الثوري) تقدمت ترجمته (من قال: أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين، ومن قال: أنا مؤمن حقا فهو بدعة) ، هكذا أورده صاحب القوت، إلا أنه قال: ومن قال: أنا مؤمن فهو مبتدع، وبعده زيادة يذكرها المصنف بعد قريبا .

(فكيف يكون كاذبا وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه، وكان مؤمنا في نفسه كان مؤمنا عند الله) لا محالة، (كما أن من كان طويلا) في قامته، (أو سخيا) جوادا كل ذلك (في نفسه، وعلم ذلك) من نفسه (كان كذلك عند الله، وكذا من كان مسرورا أو حزينا أو سميعا أو بصيرا) أو موصوفا بأي صفة كانت، (ولو قيل للإنسان: هل أنت حيوان لم يحسن) منه (أن يقول) في الجواب: (أنا حيوان إن شاء الله) ، فإنه لا معنى للاستثناء في هذا، (ولما قال سفيان) الثوري (ذلك) ، أي القول الذي تقدم (قيل له: فماذا نقول؟ قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) وما أنزل إلى إبراهيم الآية، هكذا أورده صاحب القوت متصلا بكلامه الذي مضى آنفا .

وأخرج اللالكائي في كتاب السنة من طريق حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، (وأي فرق بين أن يقول آمنا، وبين أن يقول أنا مؤمن) ، فإن في الظاهر لا فرق بينهما .

(وقيل للحسن) بن سعيد البصري، سيد التابعين، تقدمت ترجمته: (أمؤمن أنت؟ فقال) في جوابه: (إن شاء الله، فقيل: تستثني يا أبا سعيد في الإيمان) ، مع جلالة قدرك وسعة علمك، (فقال: أخاف أن أقول نعم، فيقول الله سبحانه: كذبت; فتحق علي الكلمة) أي كلمة العذاب، هكذا أورده صاحب القوت، إلا أنه قال: فيقول ربي كذبت، وأخرج اللالكائي في السنة من طريق حماد بن زيد، سمعت هشاما، يقول: كان الحسن ومحمد يقولان "مسلم"، [ ص: 264 ] ويهابان "مؤمن". اهـ .

(وكان) الحسن (يقول: ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع على بعض ما يكره، فمقتني، وقال اذهب لا قبلت لك عملا، فأنا أعمل في غير معمل) ، هكذا أورده صاحب القوت متصلا بما سبق، والمقت أشد الغضب والمعمل موضع العمل .

(وقال إبراهيم) بن يزيد النخعي، فقيه الكوفة، وليس هو بابن أدهم، كما ظنه بعض من لا خبرة له بمراجعة الأصول: (إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله) محمد رسول الله، هكذا أورده صاحب القوت .

قال: وروينا عن الثوري، عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم النخعي، فذكره، (وقال) سفيان (مرة) في الجواب: (قل: أنا لا أشك في الإيمان، وسؤالك إياي بدعة) ، هكذا أورده صاحب القوت، وزاد بعده، فقال: وقال بعضهم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر .

قلت: وهذا القول أخرجه اللالكائي في السنة من طريق أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن محل، قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فظهر أن المراد بالبعض في قول صاحب القوت، هو إبراهيم، وقد رواه أيضا بهذا الإسناد، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه مثله، وقال صاحب القوت: وكان جماعة من أهل العلم يرون السؤال عن قولهم: أمؤمن أنت؟ بدعة .

قلت: والمراد به أحمد بن حنبل، كما صرح به اللالكائي، (وقيل لعلقمة) بن قيس فقيه الكوفة: (أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله) ، أخرجه صاحب القوت، من طريق منصور عن إبراهيم، قال: سئل علقمة، فذكره، إلا أنه قال: أرجو ذلك إن شاء الله .

(وقال) سفيان (الثوري: نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما ندري ما نحن عند الله تعالى) ، هكذا أورده صاحب القوت، بلفظ: وكان الثوري يقول: وأخرج اللالكائي في السنة من طريق أبي سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة قال: قال لي الثوري، وأنا وهو في بيته، ما لنا ثالث: نحن مؤمنون والناس عندنا مؤمنون، ولم يكن هذا أفعال من مضى .

وأخرج من طريق عبد الرزاق قال: قال سفيان: نحن مؤمنون عند أنفسنا، فأما عند الله، فما ندري ما حالنا، وفي القوت، وقال بعض العلماء: أنا مؤمن بالإيمان غير شاك فيه، ولا أدري أنا ممن قال الله تعالى فيهم: أولئك هم المؤمنون حقا أم لا، وقال منصور بن زاذان: كان الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل أمؤمن أنت؟ قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقال أبو وائل: قال رجل لابن مسعود: لقيت ركبا فقالوا: نحن المؤمنون حقا، فقال: ألا قالوا: نحن من أهل الجنة .

قلت: وهذا أخرجه اللالكائي من طريق عن الأعمش، عن أبي وائل، ومن طريق يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال رجل عند ابن مسعود: إني مؤمن، قال قل: إني في الجنة، ولكن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومن طريق معاوية عن أبي إسحاق، قال: سألت الأوزاعي، قلت: أترى أن يشهد الرجل على نفسه أنه مؤمن؟ قال: ومن يقول هذا؟ قلت: كيف يقول؟ قال يقول: أرجو، ولكنهم المسلمون، ولكن ما ندري ما يصنع الله بهم .

(فما معنى هذه الاستثناءات) في كلام السلف؟ (فالجواب أن هذا الاستثناء صحيح، وله) في تصحيحه (أربعة أوجه: وجهان مستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان) أي للشك في ثبوت التصديق الجازم في القلب بحال الكمال، وإلا لكان الإيمان منفيا; لأن الشك في ثبوته في الحال كفر (ولكن في خاتمته) أي في إبقائه إلى الوفاة عليه، (وكماله وجهان) منها (لا يستندان إلى الشك الوجه الأول: لا يستند إلى معارضة الشك) ، وهو (الاحتراز من الجزم) به (خيفة ما فيه من تزكية النفس) لا على وجه الشك والارتياب في اليقين، ولا معنى الشك في التصديق، فمن قال أنا مؤمن حقا فقد زكى نفسه، وعصى ربه عز وجل; لأنه (قال الله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم) هو أعلم بمن اتقى فقد نهى فيه عن تزكية النفس وعرض المزكي نفسه للكذب، (وقال) تعالى: ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ثم قال: انظر كيف يفترون على الله الكذب ) أشار إلى أن المزكي نفسه يعرضها للكذب، فأشار بالآية الأولى إلى التزكية والثانية إلى ما يعرض من التزكية .

(و) من هنا [ ص: 265 ] (قيل لحكيم: ما الصدق القبيح، فقال: ثناء المرء) ، وفي بعض النسخ الإنسان (على نفسه) ، وهو التزكية، ولقائل أن يقول: وأي تزكية للنفس في قوله أنه مؤمن حقا؟ فأشار المصنف إلى جوابه، فقال: (والإيمان من أعلى صفات المجد) ، وأفخر ما يتحلى به، (والجزم به) لنفسه بالحقية، (تزكية مطلقة) ; لأنه نسب إلى نفسه أعلى صفات المجد، (وصيغة الاستثناء) ، وهي إن شاء الله، (كأنها نقل من عرف التزكية) ، هكذا في النسخ، وهو المعتمد، وهذا (كما يقال للإنسان أنت طبيب أو فقيه، أو مفسر) ، أو محدث، أو صوفي، أو غير ذلك من هذا الضرب، (فيقول: نعم إن شاء الله) فقوله هذا (لا في معرض التشكيك) بالشدة والضعف، بأن يكرر بعض ما ذكر أكثر وأشد من بعض، (ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه) الثناء عليها، (فالصيغة صيغة الترديد) ; إذ موضوع أن في اللغة دخولها على المحتمل الذي هو الشك في قول، (و) هو يلزم منه (التضعيف لنفس الخبر، ومعناه التضعيف اللازم من لوازم الخبر، وهو التزكية، وبهذا التأويل) الذي حققناه، (لو سئل) رجل (عن وصف ذم) ، كان يقول له: أنت جاهل أو أحمق، أو بليد، (لم يحسن الاستثناء) في الجواب .

وحاصل هذا الوجه أن الاستثناء يراد به التبري عن تزكية النفس، والإعجاب بالحال، وقد دفعه الحنفية بأن الأولى تركه لما أنه يوهم الشك على ما ذكره شارح العقائد، وحكموا ببطلان هذا القول، وقالوا: ذلك لا يصح، كما لا يصح قول القائل: أنا حي إن شاء الله، وأنا رجل إن شاء الله، وقال صاحب التعديل: هو صريح في الشك في الحال، وهو لا يستعمل في المحقق في الحال، حيث لا يقال: أنا شاب إن شاء الله، ولعلمائنا الحنفية في هذا المبحث، كلام طويل تركته لما في أكثره من نسبة التكفير والتضليل والتحريم إلى قائله، فلم أستحسن إيراده، إذ قد أطيق السلف على التكلم به، فكيف ينسون إلى شيء مما ذكروهم وسائطنا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن غلوهم وتشديداتهم سموهم مستثنية شكية، وبنوا على ذلك أنه لا يصلي خلف شاك في إيمانه، وأرادوا به ذلك .

هذا الكلام والله يغفر لقائله إنما صدر من متأخرين منهم إذا حقق البحث معه رجع إلى أمر لفظي، وما أرادوه به من هذه المسألة يرجع إلى ما اعتقدوه بمن يقول هذه المقالة، وهو بريء مما أرادوه به، والأئمة المتقدمون من أصحابنا لم يبلغنا عنهم ذلك، وإمامنا الأعظم- رضي الله عنه- وإن كان قد نقل عنه الإنكار في هذه القولة لم ينقل عنه مثل ما قاله هؤلاء المتأخرون من أصحابه، ولئن سلمنا قولهم من التكفير والتضليل، فكيف يفعلون في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وإبراهيم النخعي، وعلقمة وهؤلاء أصول المذهب، وقد ذهبوا إلى ما ذهب إليه غيرهم من السلف، فالأولى كف الكلام في ذلك إلا عند الضرورة مع كمال مراعاة الأدب والاحترام للمشايخ، القائلين بهذه القولة، وعدم نسبتهم إلى شيء من الضلال، والابتداع فضلا عن الكفر، فهذا الخلاف لفظي، أو معنوي لا يترتب عليه كفر، ولا بدعة، نعوذ بالله من ذلك وبالله التوفيق .

(الوجه الثاني) في جواز الاستثناء المخرج على غير وجه الشك، وهو التبرك، (التأدب بذكر الله) تعالى، (في كل حال) لكون هذه الجملة مشتملة على ذكر اسم الذات، (وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله سبحانه) فهو تعالى ما شاء فعل ولا يسئل عما يفعل، (فقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال) مخاطبا له، ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) واذكر ربك إذا نسيت أي الاستثناء، والمعنى فاستثن إذا ذكرت، فتأدب صلى الله عليه وسلم بذلك أحسن الأدب، وكان يستثني في الشيء يقع لا محالة، كذا في القوت .

(ثم لم يقتصر على ذلك فيما يشك فيه، بل قال) وهو أصدق القائلين معلما لعباده الاستثناء ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين) لا تخافون ، (وكان الله سبحانه عالما) بعلمه القديم الأزلي، (بأنهم يدخلون) مكة، كما وصف (لا محالة وأنه شاء) كذلك، (ولكن المقصود تعليمه ذلك) لتتعلم أمته منه (فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أحسن الأدب، فكان يستثني (في كل ما كان يخبر عنه معلوما كان أو مشكوكا، حتى قال [ ص: 266 ] صلى الله عليه وسلم لما دخل المقابر) ، أي: مقبرة المدينة، وإنما جمعها باعتبار ما حوله: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ونص القوت تنكير السلام، وقال العراقي: أخرجه مسلم عن أبي هريرة اهـ .

قلت: روي لك من حديث أبي هريرة، وعائشة، وأنس، وبريدة بن الحصيب رضي الله عنه. أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم، واللالكائي من طريق مالك، واللالكائي وحده من طريق إسماعيل بن علية، كلاهما عن روح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه عنه بلفظ: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المقبرة، فسلم على أهلها، فقال: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"، ولفظ الحديث لابن علية، وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم، واللالكائي من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عنها بلفظ: " إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" .

وأما حديث أنس فأخرجه اللالكائي من طريق ابن أحمد الزبيدي عن كثير بن يزيد عنه بلفظ: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى البقيع، فقال: السلام عليكم، وإنا بكم لاحقون إن شاء الله، أسأل الله ربي أن لا يحرمنا أجركم ولا يفتنا بعدكم" .

وأما حديث بريدة بن الحصيب، فأخرجه مسلم واللالكائي من طريق سفيان، واللالكائي وحده من طريق شعبة، كلاهما عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أتى على المقابر، وفي حديث سفيان "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرجنا إلى المقابر يقول: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين"، زاد محمد بن بشار، عن جرير بن عمارة، عن سفيان: " أنتم لنا سلف"، ثم اتفقوا "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"، وفي حديث ابن بشار أسأل الله.

(واللحوق بهم غير مشكوك فيه، ولكن مقتضى الأدب) الإلهي (ذكر الله تعالى) على كل حال، خصوصا عند رؤية المقابر، والتفكر في أحوال الموتى والموت; فإنه آكد، (وربط الأمور به) تعالى إشارة إلى تعليقه بالمشيئة، (وهذه الصيغة دالة عليه) ، أي على التبرك والتأدب، لكنه كله مستقبل، وربط المستقبل بالشرط لا يستنكر، (حتى صار بعرف الاستعمال) على ألسنة الناس (عبارة عن إظهار الرغبة والتمني فإذا قيل لك: إن فلانا يموت سريعا) ، أو يقع سريعا (فنقول) في عقبه: (إن شاء الله، فيفهم منه رغبتك) في موته، أو وقوعه في الهلاك، (لا تشكك، و) كذلك (إذا قيل لك مثلا: فلان يزول مرضه ويصح) بدنه، (فتقول: إن شاء الله) ، فهو (بمعنى الرغبة) والتمني (فقد صارت الكلمة معدولة) أي: مصروفة (عن معنى التشكك إلى معنى الرغبة، فكذلك العدول إلى معنى التأدب لذكر الله تعالى) ، والتبرك به (كيف كان الأمر) .

وحاصل هذا الوجه أنهم خرجوا إن شاء الله ههنا إلى معنى آخر غير الشك هو التبرك والتأدب، واستدل عليه بالآيتين، وحديث المقابر، ومن أحسن ما يستشهد به هنا أخرجه البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال سليمان -عليه السلام- "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون"، وأخرجه مسلم كذلك من طريق أخرى نحوه .

ومنها ما أخرجه مسلم من طريق غندر عن شعبة عن محمد بن زياد، سمعت أبا هريرة يحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :" إن لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيبت له، وإني أريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة.

ومنها ما أخرجه اللالكائي من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "ما تقولون في رجل قتل في سبيل الله؟ قالوا: الجنة، قال: الجنة إن شاء الله، قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان ذوا عدل، فقالا: لا نعلم إلا خيرا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: الجنة إن شاء الله قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان [ ص: 267 ] فقالا: لا نعلم إلا شرا، فقالوا: النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد مذنب ورب غفور"، وفي القوت: وقيل: ومن قال افعل كذا، ولم يقل إن شاء الله سأله الله عز وجل عن هذا القول يوم القيامة، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فكل ما ذكر مستقبل، وربط المستقبل بالشرط غير مستنكر، وإنما ينكر ربط الحال بالشرط، ووضع الحنفية قولهم للتبرك مع ظهوره في التشكيك والترديد .

وفي شرح المقاصد: إنه للتأديب بإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى، وهذا ليس فيه معنى الشك أصلا، وإنما هو قوله: لتدخلن المسجد الحرام الآية، وكقوله عليه السلام تعليما: إذا دخل المقابر قال: "السلام عليكم" الحديث اهـ .

فمع المناقضة بين كلاميه تلفيق بين الأحوال المختلفة، فإن الاستثناء في الآية لا يصح أن يكون من قبيل إحالة الأمور إلى المشيئة، بل قيل إنه للتبرك بذكر اسمه سبحانه، أو للمبالغة في الاستثناء في الأخبار، حتى في متحقق الوقوع على أنه قد يقال: التقدير لتدخلن جميعكم إن شاء الله لتأخر بعض المخاطبين من أهل الحديبية، حيا أو ميتا عن فتح مكة، أو معنى إن شاء الله، إذا شاء الله، وهو تأويل لطيف يرد ما فيه من إشكال ضعيف أو الاستثناء عائد إلى الأمن لا إلى الدخول، أو هو تعليم للعباد، وكذا الاستثناء في الحديث، لا يصح أن يكون من باب إحالة الأمور إلى المشيئة فإن اللحوق بالأموات محقق بلا شبهة، بل هو محمول على تعليم الأمة لاحتمال تغيرهم في المآل، أو على أن المراد بقول: بكم خصوص أهل البقيع مثلا في البلاد وبه يظهر لك ما في كلام المصنف، بتأمل تام .

(تنبيه)

ما أجاب به الزمخشري عن قوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله من أن يكون الملك قد قاله فأثبته قرآنا، أو أن الرسول قاله، فكلاهما باطل; لأنه جعل من القرآن ما هو غير كلام الله، فيدخل في وعيد من قال: إن هذا إلا قول البشر والله أعلم .




الخدمات العلمية