الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : الحديبية : بحاء مهملة مضمومة ، فدال مهملة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية مفتوحة . قال الإمام الشافعي - رحمه الله - وأهل اللغة وبعض أهل الحديث - رحمهم الله - التحتية مخففة . وقال أكثر أهل الحديث مشددة . قال النووي - رحمه الله - فهما وجهان مشهوران .

                                                                                                                                                                                                                              وقال في المطالع : ضبطنا التخفيف عن المتقنين وأما عامة الفقهاء والمحدثين فيشددونها . وقال البكري - رحمه الله - أهل العراق يشددون ، وأهل الحجاز يخففون .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النحاس - رحمه الله - سألت كل من لقيت ممن أثق بعلمه عن « الحديبية » فلم يختلفوا عن قراءتها مخففة .

                                                                                                                                                                                                                              قال أحمد بن يحيى - رحمه الله - لا يجوز فيها غيره ، ونص في البارع على التخفيف . وحكى التشديد ابن سيده - رحمه الله - في المحكم ، قال في تهذيب المطالع : ولم أره لغيره ، وأشار بعضهم إلى أن التثقيل لم يسمع حتى يصح ، ووجهه أن التثقيل إنما يكون في المنسوب ، نحو الإسكندرية فإنها منسوبة إلى الإسكندر وأما الحديبية فلا تعقل فيها النسبة ، وياء النسبة في غير منسوب قليلة ، ومع قلته موقوف على السماع . والقياس أن يكون أصلها حدباء بزيادة «ألف للإلحاق ببنات الأربعة ، فلما صغرت انقلبت الألف ياء» ، وقيل : حديبة ، وشهد لصحة هذا أقوالهم لييلة بالتصغير ، ولم يرد لها مكبر فقدره الأئمة ليلة لأن المصغر فرع المكبر ، ويمتنع وجود فرع بدون أصله .

                                                                                                                                                                                                                              قال المحب الطبري - رحمه الله - : هي قريبة من مكة أكثرها في الحرم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي صحيح البخاري عن البراء «الحديبية» بئر . قال الحافظ - رحمه الله - يشير إلى أن [ ص: 70 ] المكان المعروف بالحديبية سمي ببئر كانت هنالك ، هذا اسمها ، ثم عرف المكان كله بذلك ، وبينها وبين مكة نحو مرحلة واحدة ، وبين المدينة تسع مراحل الثاني : قالوا : كانت سنة ست ، قاله الجمهور ، في ذي القعدة ، وقال هشام بن عروة عن أبيه - رحمهما الله - في شوال ، وشذ بذلك هشام عن الجمهور . وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهور . وفي البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة ، وفيه عن أنس - رضي الله عنه - اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عمر كلهن في ذي القعدة ، فذكر منها عمرة الحديبية .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : اختلفت الروايات في عدة من كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، ففي رواية عبد العزيز الأفاقي عن الزهري في حديث المسور ، ومروان : ألف وثمانمائة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء : كنا أربع عشرة مائة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق كانوا ألفا وأربعمائة أو أكثر .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية لسالم بن أبي الجعد عن جابر : أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، وكذلك رواية سعيد بن المسيب عنه ، وكذلك رواية ابن أبي شيبة عن مجمع بن جارية .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ - رحمه الله - والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، فمن قال ألف وخمسمائة جبر الكسر ، ومن قال ألف وأربعمائة ألغاه . ويؤيده قول البراء في رواية عنه : كنا ألفا وأربعمائة أو أكثر ، واعتمد على هذا الجمع النووي - رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                              وأما البيهقي - رحمه الله - فمال إلى الترجيح ، وقال : إن رواية من قال ألفا وأربعمائة أرجح ، ثم روى من طريق أبي الزبير ومن طريق سفيان بن عمر بن دينار ، كلاهما عن جابر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              ومن رواية معقل بن يسار عن سلمة بن الأكوع ، والبراء بن عازب ومن طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه ، ومعظم هذه الطرق عن مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              ووقع عند ابن سعد - رحمه الله - في حديث معقل بن يسار : زهاء ألف وأربعمائة ، وهو أيضا في عدم التحديد .

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول عبد الله بن أبي أوفى - رحمه الله - : كنا ألفا وثلاثمائة كما رواه البخاري ، فيمكن حمله على ما أطلع عليه ، واطلع غيره على زيادة أناس لم يطلع هو عليهم ، والزيادة من الثقة مقبولة . أو العدد الذي ذكره عدد المقاتلة . والزيادة عليها من الأتباع ومن الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم . [ ص: 71 ]

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول ابن إسحاق - رحمه الله - إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه ، لأنه قاله استنباطا من قول جابر - رضي الله عنه - : نحرنا البدنة عن عشرة ، وكانوا نحروا سبعين بدنة .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن ، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا . وقال ابن القيم : ما ذكره ابن إسحاق غلط بين ، واستدل به من أنهم نحروا سبعين بدنة ، والبدنة جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله فإنه قد صرح أن البدنة في هذه العمرة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم كانوا أربعمائة وتسعين رجلا ، وقد قال في تمام الحديث بعينه : إنهم كانوا ألفا وأربعمائة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ما وقع في حديث المسور ومروان عن البخاري أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة مائة ، فيجمع أيضا بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم . وأما الذين زادوا على ذلك فكانوا غائبين عنها ، كمن توجه مع عثمان - رضي الله عنه - إلى مكة ، على أن لفظ البضع يصدق على الخمس والأربع ، فلا تخالف .

                                                                                                                                                                                                                              وجزم ابن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة ، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة ألفا وسبعمائة . وحكى ابن سعد : أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين . وهذا إن ثبت تحرير بالغ .

                                                                                                                                                                                                                              وزاد ابن مردويه عن ابن عباس ، وفيه رد على ابن دحية ، حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم ، أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحديد ، وإنما ذكره بالحدس والتخمين .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : في أخذه - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين عن خالد وجيشه ، جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلبا لغرتهم .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : في استشارته - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ، استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأي ، واستطابة لنفوسهم ، وأن يخصص به بعضهم دون البعض .

                                                                                                                                                                                                                              السادس :

                                                                                                                                                                                                                              في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ما خلأت وما ذاك لها بخلق ،

                                                                                                                                                                                                                              جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته ، وإن جاز أن يطرأ عليه ، وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد مثلها منه لا تنسب إليه ويرد على من نسبه إليها ممن ، لا يعرف صورة حاله ، لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة جميعا صحيحا ، ولم يعاتبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعذرهم في ظنهم .

                                                                                                                                                                                                                              السابع :

                                                                                                                                                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم - حبسها حابس الفيل :

                                                                                                                                                                                                                              أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها ، وقصة الفيل مشهورة ، وتقدمت الإشارة إليها . ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدتهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال ، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة ، لكن سبق في علم . [ ص: 72 ]

                                                                                                                                                                                                                              الله - تعالى - في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم ، وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون . وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب منهم ناس بغير عمد كما أشار إلى ذلك تبارك وتعالى - في قوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات [الفتح 25] الآية .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : استبعد المهلب جواز إطلاق حابس الفيل على الله عز وجل ، وقال : المراد حبسها أمر الله سبحانه وتعالى . وتعقب بأنه يجوز إطلاق ذلك في حق الله - تعالى - فيقال :

                                                                                                                                                                                                                              حبسها الله حابس الفيل ، وإنما الذي يمكن أن يمنع تسميته - تعالى - حابس الفيل ونحوه ، كما أجاب به ابن المنير ، وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء توقيفية .

                                                                                                                                                                                                                              وقد توسط الغزالي وطائفة فقالوا : محل المنع ما لم يرد نص بما يشتق منه بشرط ألا يكون ذلك الاسم المشتق منه مشعرا بنقص ، فيجوز تسميته بالواقي ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته [غافر 9] ولا يجوز تسميته البناء وإن ورد في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد [الذاريات 47] التاسع :

                                                                                                                                                                                                                              في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «حبسها حابس الفيل»

                                                                                                                                                                                                                              جواز التشبيه من الجهة العامة ، وإن اختلفت الجهة الخاصة ، لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض ، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض ، ولكن جاز التشبيه من جهة إرادة الله - تعالى - منع الحرم مطلقا ، أما من أهل الباطل فواضح ، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره في الرابع .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر :

                                                                                                                                                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة . .

                                                                                                                                                                                                                              . إلى آخره» . قال السهيلي رحمه الله : لم يقع في شيء من طرق الحديث ، أنه قال إن شاء الله - تعالى - مع أنه مأمور في ذلك في كل حال .

                                                                                                                                                                                                                              قال : والجواب عن ذلك أنه كان أمرا واجبا حتما ، فلا يحتاج معه للاستثناء ، وتعقب بأنه - تعالى - قال في هذه القصة لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين فقال : إن شاء الله ، مع تحقيق وقوع ذلك تعليما وإرشادا ، فالأولى أن يحمل على أن الاستثناء سقط من الراوي ، أو كانت القصة قبل نزول الأمر بذلك ، ولا يعارضه كون الكهف مكية ، إذ لا مانع من أن يتأخر نزول بعض السورة ،

                                                                                                                                                                                                                              وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - «والذي نفسي بيده»

                                                                                                                                                                                                                              إلخ تأكيد القول باليمين ليكون أدعى إلى القبول . وقد حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلف في أكثر من ثمانين موضعا ، كما سيأتي بسط ذلك في بابه .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : في حديث البراء في شفير بئر الحديبية أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمضمض [ ص: 73 ]

                                                                                                                                                                                                                              ودعا ثم صبه فيها ، وفي حديث المسور ، ومروان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها ، ويمكن الجمع بأن الأمرين وقعا معا ، ويؤيد ذلك ما رواه محمد بن عمر من طريق أوس بن خولي أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ في الدلو ثم أفرغه فيها وانتزع السهم ثم وضعه فيها ، وهكذا ذكر أبو الأسود عن عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - تمضمض في الدلو وصبه في البئر ، ونزع سهما من كنانته فألقاه فيها ففارت .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية