وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج- رحمه الله تعالى- في كتابه «المدخل » على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جدا وحاصله: مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات. وأنا أسوق كلامه فصلا فصلا. قال: فصل في المولد:
ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وقد احتوى ذلك على بدع ومحرمات جملة. وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد
فمن ذلك: استعمال المغاني ومعهن آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشغلون أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحدثات، ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه، فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين، وكان يجب أن يزداد فيه من العبادة والخير شكرا للمولى على ما أولانا به من هذه النعم العظيمة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات. وما ذاك إلا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار صلى الله عليه وسلم إلى [ ص: 372 ] فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: برحمته صلى الله عليه وسلم لأمته ورفقه بهم
« » ذاك يوم ولدت فيه
فتشريف هذا اليوم متضمن تشريف هذا الشهر الذي ولد فيه فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله تعالى به الأشهر الفاضلة وهذا منها، لقوله صلى الله عليه وسلم « ». أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي
بما خصها الله تعالى به من العبادات التي تفعل فيها، لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها. وإنما يجعل التشريف بما خصت به من المعاني. وفضيلة الأزمنة والأمكنة
فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه؟
فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به، اتباعا له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات. ألا ترى إلى قول - رضي الله تعالى عنهما-: ابن عباس » فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان
فإن قال قائل: قد التزم صلى الله عليه وسلم في الأوقات الفاضلة ما التزمه في غيره.
فالجواب: أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه، ألا ترى إلى أنه صلى الله عليه وسلم حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة، ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، وكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلا في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم.
فعلى هذا: تعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويكره له تعظيما لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما، كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم فيترك الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي.
وقد ارتكب بعضهم في هذا الزمان ضد هذا المعنى، و [هو] أنه إذا دخل هذا الشهر الشريف تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما.
ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المهيجة لطرب النفوس، وهذا فيه وجوه من الفساد.
ثم إنهم لم يقتصروا على ما ذكر، بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر الخطر، وهو أن يكون [ ص: 373 ]
المغني شابا نظيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة، فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته، فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء، فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من الفساد ما لا يحصى.
وقد يؤول ذلك في الغالب إلى إفساد حال الزوج وحال الزوجة ويحصل الفراق والنكد العاجل ويتشتت أمرهم بعد جمعهم وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع.
فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط لأن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ونحن تبع فيسعنا ما يسعهم. انتهى.
وحاصل ما ذكره: أنه لم يذم المولد بل ذم ما يحتوي عليه من المحرمات والمنكرات، وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يخص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من وجوه القربات، وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه، فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام وذلك خير وبر وقربة.
وأما قوله آخرا: إنه بدعة: فإما أن يكون مناقضا لما تقدم، أو أنه يحمل على أنه بدعة حسنة، كما تقدم تقريره في صدر الباب، أو يحمل على أن فعل ذلك خير والبدعة منه نية المولد كما أشار إليه بقوله: «فهو بدعة بنفس نيته فقط، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد » فظاهر هذا الكلام أنه كره أن ينوي به المولد فقط ولم يكره عمل الطعام ودعاء الإخوان إليه. وهذا إذا حقق النظر يجتمع مع أول كلامه لأنه حث فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى إذ أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا هو معنى نية المولد. فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولا؟!.
وأما مجرد فعل البر وما ذكر معه من غير نية أصلا فإنه لا يكاد يتصور، ولو تصور لم يكن عبادة ولا ثواب فيه، إذ لا يعمل إلا بنية، ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الشريف، وهذا معنى نية المولد فهي نية مستحسنة بلا شك.
فتأمل.
ثم قال ابن الحاج : ومنهم من يفعل المولد لا لمجرد التعظيم، ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح أو المواسم ويريد أن يستردها ويستحي أن يطلبها بذلك، فيعمل المولد حتى يكون سببا لأخذ ما اجتمع له عند الناس وهذا فيه وجوه من المفاسد: أنه يتصف بصفة النفاق، وهو أن يظهر خلاف ما يبطن، وظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة، وباطنه أنه يجمع فيه فضة. ومنهم من يعمل المولد لأجل جمع الدراهم. [ ص: 374 ]
أو طلب ثناء الناس عليه ومساعدتهم له، وهذا أيضا فيه من المفاسد ما لا يخفى. انتهى.
وهذا أيضا من نمط ما تقدم ذكره، وهو أن الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة، لا من أصل عمل المولد. انتهى ما أوردته من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
ورضي عنه، والله هو الهادي للصواب.