قال : ثم إن ابن إسحاق قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ممن استضعفوه منهم ، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبهم ومنهم من تصلب لهم ويعصمه الله تعالى .
روى عن ابن إسحاق قال : قلت سعيد بن جبير : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال : نعم ، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له : هذا الجعل إلهك من دون الله فيقول نعم . افتداء منهم مما يبلغون من جهدهم . لابن عباس
وكان أبو جهل الخبيث هو الذي يغري بهم رجال قريش ، إذا سمع بالرجل أسلم له شرف ومنعة أنبه [وأخزاه] فقال : تركت دين أبيك وهو خير منك ، لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك . وإن كان تاجرا قال : والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك . وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به .
رضي الله عنه ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب بلال . فمن المستضعفين
قال وغيره : فكان ابن إسحاق أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك البلاء . أحد أحد أنا كافر باللات والعزى .
وروى عن البلاذري قال : مررت عمرو بن العاص ببلال وهو يعذب في الرمضاء ولو أن بضعة لحم وضعت عليه لنضجت وهو يقول : أنا كافر باللات والعزى . وأمية مغتاظ عليه فيزيده عذابا فيقبل عليه فيدغت في حلقه فيغشى عليه ثم يفيق .
وروى ابن سعد عن رضي الله تعالى عنه قال : حججت- أو قال اعتمرت- فرأيت حسان بن ثابت في حبل طويل يمده الصبيان وهو يقول : أحد أحد أنا أكفر باللات والعزى وهبل ونائلة وبوانة ، فأضجعه بلالا أمية في الرمضاء . [ ص: 358 ]
وروى عن البلاذري قال : جعلوا في عنق مجاهد حبلا وأمروا صبيانهم أن يشتدوا به بين أخشبي بلال مكة - يعني جبليها- ففعلوا ذلك وهو يقول : أحد أحد .
وروى ابن سعد عن قال : كان عروة من المستضعفين من المؤمنين وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون ، وكان الذي يعذبه بلال أمية بن خلف الجمحي .
وروى عن البلاذري عمير بن إسحاق قال : كان إذا اشتد عليه العذاب قال : أحد أحد . فيقولون له : قل كما نقول فيقول : إن لساني لا ينطق به ولا يحسنه . بلال
قال وروي أن البلاذري : قال : أعطشوني يوما وليلة ثم أخرجوني فعذبوني في الرمضاء في يوم حار . بلالا
قال : وحدثني ابن إسحاق عن أبيه قال : كان هشام بن عروة ورقة بن نوفل يمر ببلال وهو يعذب وهو يقول : أحد أحد . فيقول ورقة : أحد أحد والله يا . ثم يقبل على بلال أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول : أحلف بالله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا .
حتى مر رضي الله تعالى عنهما وهم يصنعون به ذلك ، وكانت دار أبو بكر الصديق في أبي بكر بني جمح فقال أبو بكر لأمية : ألا تتقي الله في هذا المسكين حتى متى تعذبه؟ قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى . قال : أفعل . عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به . قال : قد قبلت . قال : هو لك . فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ أبو بكر فأعتقه . بلالا
وروى بسند صحيح عن البلاذري قال : محمد بن سيرين لما أسلم أخذه أهله فقمطوه وألقوا عليه من البطحاء ، وجعلوا يقولون : ربك اللات والعزى . فيقول أحد أحد . فأتى عليه بلال رضي الله تعالى عنه فقال : علام تعذبون هذا الإنسان؟ فاشتراه بسبع أواقي وأعتقه . أبو بكر
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قد اشتراه فقال : الشركة يا . فقال : قد أعتقته يا رسول الله أبا بكر .
وروى بسند جيد عن البلاذري عن إسماعيل بن أبي خالد قيس قال : اشترى أبو بكر بخمس أواقي . بلالا
ومنهم خباب بن الأرت بالمثناة الفوقية .
قال : قالوا كان البلاذري الأرت سواديا ، فأغار قوم من ربيعة على الناحية التي كان فيها فسبوه وأتوا به الحجاز فباعوه فوقع إلى سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة وزعم أبو اليقظان أن خبابا كان أخا سباع لأمه .
قال : البلاذري وخباب فيما يقول ولده : ابن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة ، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم ، وإنه وقع عليه سبي فصار إلى أم أنمار مولاته فأعتقته وإنه كانت به رتة ، كان ألكن إذا تكلم بالعربية فسمي الأرت . [ ص: 359 ]
وروى عن البلاذري كردوس أن خبابا أسلم سادس ستة .
وروى عن البلاذري قال : أعطوهم ما أرادوا حين عذبوا إلا الشعبي فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرضف حتى ذهب ماء متنه . خباب بن الأرت
وروى عن البلاذري ، ومن طريق آخر عن الشعبي أبي ليلى الكندي قال ، جاء إلى خباب رضي الله تعالى عنهما فقال له عمر : ادنه ، ادنه . فأجلسه على متكئه وقال : ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا رجل واحد . قال : ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال : عمر - وفي رواية بلال ، الشعبي قال : ما هو بأحق مني إن عمار بن ياسر كان له في المشركين من يمنعه الله به ، ولم يكن لي أحد ، لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها ثم وضع رجل رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري ثم كشف بلالا عن ظهره فإذا هو قد برص . خباب
وروى عن البلاذري أبي صالح قال : كان قينا وكان قد أسلم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فأخبرت بذلك مولاته فكانت تأخذ الحديدة وقد أحمتها فتضعها على رأسه ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اللهم انصر خباب خبابا فاشتكت مولاته رأسها وهي أم أنمار فكانت تعوي مع الكلاب ، فقيل لها اكتوي فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها خباب .
قال محمد بن عمر الأسلمي وكان الذي يعذب خبابا حين أسلم ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص . وقيل وهو الثبت الأسود بن عبد يغوث .
وروى البخاري ومحمد بن عمر الأسلمي عن والبيهقي رضي الله تعالى عنه قال : خباب الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة شديدة فقلت : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد محمرا وجهه فقال : إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه . أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل
ومنهم صهيب بن سنان الرومي .
روى ابن سعد عن قال : كان عروة من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في الله صهيب .
ومنهم عامر بن فهيرة . [ ص: 360 ]
قال قالوا البلاذري : عامر من المستضعفين فكان يعذب كان بمكة ليرجع عن دينه حتى اشتراه وأعتقه . أبو بكر
وروى ابن سعد عن - بضم القاف وكسر الظاء المشالة المعجمة- قال : كان محمد بن كعب القرظي عامر بن فهيرة يعذب حتى لا يدري ما يقول .
ومنهم أبو فكيهة واسمه أفلح ويقال يسار . وكان عبدا لصفوان بن أمية فأسلم حين أسلم ، فمر به بلال رضي الله عنه وقد أخذه أبو بكر أمية بن خلف فربط في رجله حبلا وأمر به فجر ثم ألقاه في الرمضاء فمر به جعل فقال : أليس هذا ربك فقال : الله ربي خلقني وخلقك وخلق هذا الجعل فغلط عليه وجعل يخنقه ومعه أخوه أبي بن خلف يقول : زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره . فأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء ووضع على بطنه صخرة فدلع لسانه فلم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات ، ثم أفاق فمر به رضي الله عنه فاشتراه وأعتقه . أبو بكر
وروى ابن سعد عن قال : كان محمد بن كعب القرظي أبو فكيهة يعذب حتى- لا يدري ما يقول .
ومنهم وأبوه وأمه عمار بن ياسر سمية وأخوه عبد الله رضي الله عنهم .
روى البلاذري عن والبيهقي قال : مجاهد أبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه ، وأما أول من أظهر الإسلام فمنعه قومه ، وأما الآخرون فألبسوا دروع الحديد وصهروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم ، وجاء أبو بكر أبو جهل إلى سمية فطعنها في قلبها فهي أول شهيدة في الإسلام .
وروى ابن سعد عن قال : أخبرني من رأى محمد بن كعب القرظي متجردا في سراويل . قال : ونظرت إلى ظهره فإذا فيه حبط فقلت : ما هذا؟ قال : هذا ما كانت عمار بن ياسر قريش تعذبني في رمضاء مكة .
وروى عنه أيضا قال : البلاذري يعذب حتى لا يدري ما يقول عمار . كان
وروى عن البلاذري رضي الله عنها أم هانئ وأباه عمار بن ياسر ياسرا وأخاه عبد الله بن ياسر وسمية أم عمار كانوا يعذبون في الله فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة . أن
فمات ياسر في العذاب وأغلظت سمية لأبي جهل فطعنها في قلبها فماتت ، ورمي عبد الله فسقط . [ ص: 361 ]
ومنهم جارية بني المؤمل بن حبيب .
قال وكان يقال لها فيما ذكر البلاذري : أبو البختري : لبيبة ، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب فكان يعذبها حتى يفتر فيدعها ثم يقول : أما إني أعتذر إليك بأني لم أدعك إلا سآمة فتقول : كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم . عمر
وروى ابن سعد عن قال : حسان قدمت مكة معتمرا والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يؤذون ويعذبون ، فوقفت على وهو متوزر يخنق عمر جارية بني عمرو بن المؤمل حتى تسترخي في يديه فأقول قد ماتت . فاشتراها فأعتقها أبو بكر .
ومنهم زنيرة - بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة ويروى : زنبرة بزاي مفتوحة فنون ساكنة فباء موحدة- الرومية كان عمر بن الخطاب وأبو جهل يعذبانها .
قال قالوا وكان البلاذري : أبو جهل يقول ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا ؟ فلو كان ما أتى به محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه أفسبقتنا زنيرة إلى رشد وهي من ترون . زنيرة قد عذبت حتى عميت فقال لها وكانت أبو جهل : إن اللات والعزى فعلتا بك ما ترين . فقالت ، وهي لا تبصر : وما تدري اللات والعزى من يعبدهما ، ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد بصري . فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا من سحر محمد فاشتراها رضي الله تعالى عنه فأعتقها . أبو بكر
ومنهم أم عنيس - بعين مهملة مضمومة فنون فمثناة تحتية فسين مهملة- ويقال عبيس بباء موحدة فمثناة تحتية . أمة لبني زهرة ، الأسود بن عبد يغوث يعذبها فابتاعها وكان . أبو بكر
ومنهم النهدية وابنتها . وكانت مولدة لبني نهد بن زيد فصارت لامرأة من بني عبد الدار فكانت تعذبهما وتقول : والله لا أقلعت عنكما أو يعتقكما بعض من صبأ بكما . فمر بهما رضي الله عنه وقد بعثتهما في طحين لها وهي تقول : والله لا أعتقكما أبدا فقال : حل يا أم فلان فقالت حل أنت والله أفسدتهما فأعتقهما . قال : فبكم هما؟ قالت : بكذا وكذا . قال : قد أخذتهما به وهما حرتان أرجعا إليها طحينها ، قالتا : أو نفرغ منه يا أبو بكر ثم نرده إليها قال : أو ذاكما إن شئتما . أبا بكر
ومنهم أم بلال حمامة . ذكرها في الدرر فيمن كان يعذب في الله فاشتراها أبو عمر وأعتقها . وأهملها أبو بكر في الاستيعاب واستدركوها على الاستيعاب . أبو عمر
والحاصل مما تقدم : أن رضي الله عنه اشترى جماعة ممن كان يعذب في الله تعالى أبا بكر ، وهم وأمه بلال وعامر بن فهيرة وأبو فكيهة وجارية بني المؤمل والنهدية وابنتها وزنيرة . [ ص: 362 ]
وروى وصححه عن الحاكم قال : عبد الله بن الزبير قال أبو قحافة رضي الله عنهما : يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك فعلت ما فعلت فأعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال لأبي بكر رضي الله عنه : يا أبت إنما أريد ما أريد لله عز وجل . أبو بكر فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى [الليل 5] إلى آخر السورة فأنزل الله تعالى : .
قال رضي الله عنه يذكر عمار بن ياسر وأصحابه الذين أعتقهم بلالا مما كانوا فيه من البلاء وكان اسم أبو بكر أبي بكر عتيقا :
جزى الله خيرا عن وصحبه عتيقا وأخزى بلال فاكها وأبا جهل عشية هما في وصحبه بلال
ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل بتوحيده رب الأنام وقوله
شهدت بأن الله ربي على مهل فإن تقتلوني تقتلوني ولم أكن
لأشرك بالرحمن من خيفة القتل فيا رب إبراهيم والعبد يونس
وموسى وعيسى نجني ثم لا تمل لمن ظل يهوى العز من آل غالب
على غير حق كان منه ولا عدل