الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثامن في سياق القصة

                                                                                                                                                                                                                              اعلم رحمني الله وإياك أن في حديث كل من الصحابة السابق ذكرهم في الباب السابع ما ليس في الآخر ، فاستخرت الله تعالى وأدخلت حديث بعضهم في بعض ورتبت القصة على نسق واحد ، لتكون أحلى في الآذان الواعيات ، وليعم النفع بها في جميع الحالات . فإن قلت إن أحاديث المعراج كل حديث منها مخالف للآخر . فقد يكون المعراج تعدد بعددها فلم جعلت الكل قصة واحدة؟ .

                                                                                                                                                                                                                              فأقول : قال في «زاد المعاد» : «هذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة جعلوه مرة أخرى فكلما اختلفت عليهم الرواة عددوا هم الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل إن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة ، ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه وقع مرارا كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا ، ثم يقول : «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» ، ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين ثم يحطها عشرا عشرا؟ .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ عماد الدين بن كثير رحمه الله تعالى في تاريخه ، بعد أن ذكر أنه لم يقع في سياق مالك بن صعصعة ذكر بيت المقدس : «وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به ، أو ينساه ، أو يذكر ما هو الأهم عنده ، أو ينشط تارة فيسوقه كله ، وتارة يحدث مخاطبه بما هو الأنفع له» ، «ومن جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة ، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب» ، «وذلك أن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء ، وفي كلها تفرض عليه الصلوات ، فكيف يدعى تعدد ذلك؟ هذا في غاية البعد» ، «ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته ولنقله الناس على التكرار» . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ في الفتح نحوه وزاد : «ويلزم أيضا وقوع التعدد في سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبي ، وسؤال أهل كل باب : هل بعث إليه؟ وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك ، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتجه ، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح إلا أنه لا يعد وقوع مثل ذلك في المنام توطئة ثم وقوعه يقظة» . انتهى ملخصا .

                                                                                                                                                                                                                              إذا علم ما تقرر فأقول : «بينما النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت في الحجر ، إذ أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر ، فقال أولهم : أيهم؟ فقال أوسطهم هو خيرهم . فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى ليلة أخرى . فقال الأول : هو هو . فقال الأوسط : نعم ، وقال الآخر : خذوا سيد القوم [ ص: 80 ]

                                                                                                                                                                                                                              الأوسط بين الرجلين . فرجعوا عنه حتى إذا كانت الليلة الثالثة ، رآهم ، فقال الأول : هو هو ، فقال الأوسط : نعم ، وقال الآخر : خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين . فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم ، فألقوه على ظهره فتولاه منهم جبريل » .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : «فرج سقف بيتي ، فنزل جبريل ، فشق من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ، ثم قال جبريل لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره ، فاستخرج قلبه ، فغسله ثلاث مرات ، ونزع ما كان فيه من أذى ، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسوت من ماء زمزم ، ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ، فأفرغه في صدره ، وملأه حلما وعلما ويقينا وإسلاما . ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة ، ثم أتي بالبراق مسرجا ملجما ، وهو دابة أبيض ، طويل فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، مضطرب الأذنين ، إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه ، وإذا هبط ارتفعت يداه ، له جناحان في فخذيه يحفز بهما رجليه» .

                                                                                                                                                                                                                              وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما : «له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر» . انتهى . «فاستصعب عليه» وفي رواية «فشمس ، وفي رواية كأنها صرت أذنيها فرزها جبريل وقال : مه أبمحمد تفعلين هذا؟» وفي رواية : «فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال : «ألا تستحي يا براق؟ فوالله ما ركبك خلق» - وفي رواية - عبد لله قط أكرم على الله منه . فاستحى حتى ارفض عرقا ، وقر حتى ركبها» - وفي رواية - ركبه . وكانت الأنبياء تركبها قبله» . وقال أنس بن مالك : «كانت الأنبياء تركبها قبله» . وقال سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن : «وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام» .

                                                                                                                                                                                                                              فانطلق به جبريل - وفي رواية- فانطلقت مع جبريل . وعند أبي سعيد النيسابوري في الشرف : فكان الآخذ بركابه جبريل ، وبزمام البراق ميكائيل- وفي رواية : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره .

                                                                                                                                                                                                                              فساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل . فقال له جبريل : انزل فصل ههنا ، ففعل ، ثم ركب . فقال له جبريل : أتدري أين صليت؟ قال : لا . قال : صليت بطيبة وإليها المهاجر . فانطلق البراق يهوي به ، يضع حافره حيث أدرك طرفه . فقال جبريل : انزل فصل ، ففعل . ثم ركب . فقال جبريل : أتدري أين صليت؟ قال : لا . قال : صليت بمدين عند شجرة [ ص: 81 ] موسى . ثم ركب . فانطلق البراق يهوي . ثم قال : انزل فصل . ففعل . ثم ركب . فقال : أتدري أين صليت؟ قال : لا . قال : صليت بطور سينا حيث كلم الله موسى .

                                                                                                                                                                                                                              ثم بلغ أرضا بدت له قصورا . فقال له جبريل : انزل فصل . ففعل ، ثم ركب وانطلق البراق يهوي . فقال له جبريل : أتدري أين صليت؟ قال : لا . قال : صليت ببيت لحم ، حيث ولد عيسى . وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن ، يطلبه بشعلة من نار ، كلما التفت رآه . فقال له جبريل : ألا أعلمك كلمات تقولهن ، فإذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى ، فقال جبريل : «قل أعوذ بوجه الله الكريم ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» . فانكب لفيه وانطفأت شعلته .

                                                                                                                                                                                                                              فساروا حتى أتوا على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان فقال : يا جبريل ما هذا؟ قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه . ووجد ريحا طيبة ، فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال : هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها ، بينا هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط ، فقالت : بسم الله ، تعس فرعون . فقالت ابنة فرعون : أولك رب غير أبي؟ قلت : نعم ، ربي وربك الله . وكان للمرأة ابنان وزوج فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما ، فقال : إني قاتلكما ، فقالا : إحسانا منك إن قتلتنا أن تجعلنا في بيت- وفي رواية قالت :

                                                                                                                                                                                                                              إن لي إليك حاجة . قال : وما هي؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي ، فتدفنا جميعا . قال :

                                                                                                                                                                                                                              ذلك لك بما لك علينا من الحق ، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ، ثم أمر بها لتلقى فيها هي وأولادها ، فألقوا واحدا ، واحدا ، حتى بلغوا أصغر رضيع فيهم ، فقال : يا أمه قعي ولا تقاعسي فإنك على الحق . قال : وتكلم أربعة وهم صغار : هذا ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم ، كلما رضخت عادت كما كانت . ولا يفتر عنهم من ذلك شيء . فقال : يا جبريل من هؤلاء؟ فقال : هؤلاء الذين تتشاغل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة . ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع ، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها . فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال :

                                                                                                                                                                                                                              هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم ، وما ظلمهم الله شيئا ، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ، ولحم آخر نيء خبيث ، فجعلوا يأكلون من النيء الخبيث ويدعون النضيج .

                                                                                                                                                                                                                              فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب ، فيأتي [ ص: 82 ]

                                                                                                                                                                                                                              امرأة خبيثة ، فيبيت عندها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا ، فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته . فقال : ما هذا يا جبريل ؟ فقال : هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ، وتلا : ولا تقعدوا بكل صراط توعدون [الأعراف : 76] ورأى رجلا يسبح في نهر من دم ، يلقم الحجارة ، فقال :

                                                                                                                                                                                                                              من هذا؟ قال : آكل الربا . وأتى على قوم قد جمع الرجل منهم حزمة عظيمة لا يستطيع حملها ، وهو يزيد عليها ، فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ، ويريد أن يتحمل عليها .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عاد ، لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء خطباء الفتنة من أمتك يقولون ما لا يفعلون . ومر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم .

                                                                                                                                                                                                                              وأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع ، فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها . وأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة كريح المسك ، وسمع صوتا ، فقال : يا جبريل ما هذا؟ قال : هذا صوت الجنة تقول : يا رب ايتني بما وعدتني ، فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي ، وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي ، وأكوابي وصحافي وأباريقي ومراكبي وعسلي ومائي ، ولبني وخمري . قال : لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي ، وعمل صالحا ، ولم يشرك بي ، ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيني فهو آمن ، ومن سألني أعطيته ، ومن أقرضني جزيته ، ومن توكل علي كفيته ، إني أنا الله لا إله إلا أنا ، لا أخلف الميعاد ، وقد أفلح المؤمنون ، وتبارك الله أحسن الخالقين . قالت : قد رضيت .

                                                                                                                                                                                                                              وأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة ، فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا صوت جهنم تقول : يا رب ايتني بما وعدتني ، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي ، وقد بعد قعري واشتد حري ، فأتني بما وعدتني . فقال :

                                                                                                                                                                                                                              لك كل مشرك ومشركة ، وكافر وكافرة ، وخبيث وخبيثة ، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب :

                                                                                                                                                                                                                              قالت : قد رضيت . [ ص: 83 ]

                                                                                                                                                                                                                              ورأى الدجال في صورته رؤية عين لا رؤيا منام ، فقيل : يا رسول الله كيف رأيته؟ فقال :

                                                                                                                                                                                                                              «رأيته فيلمانيا أقمر هجانا إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري ، كأن شعر رأسه أغصان شجرة ، أشبهه بعبد العزى بن قطن» . ورأى عمودا أبيض كأنه لؤلؤة ، تحمله الملائكة ، فقال :

                                                                                                                                                                                                                              ما تحملون؟ قالوا : عمود الإسلام ، أمرنا أن نضعه بالشام . وبينا يسير إذ دعاه داع عن يمينه : يا محمد ، أنظرني أسألك . فلم يجبه . فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا داعي اليهود ، أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك . وبينا هو يسير إذ دعاه عن شماله : يا محمد أنظرني أسألك ، فلم يجبه ، فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا داعي النصارى ، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك .

                                                                                                                                                                                                                              وبينا هو يسير ، إذا بامرأة حاسرة عن ذراعها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              فقالت : يا محمد أنظرني أسألك ، فلم يلتفت إليها ، فقال : ما هذه يا جبريل ؟ قال : تلك الدنيا ، أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة . وبينا هو يسير فإذا هو بشيء يدعوه متنحيا عن الطريق ، يقول : هلم يا محمد ، فقال جبريل ، سر يا محمد ، فقال : من هذا؟ هذا عدو الله إبليس ، أراد أن تميل إليه . وسار فإذا هو بعجوز على جانب الطريق ، فقالت : يا محمد أنظرني أسألك ، فلم يلتفت إليها ، فقال : من هذه يا جبريل ؟ قال : إنه لم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر هذه العجوز . وبينا هو يسير إذ لقيه خلق من خلق الله ، فقالوا : السلام عليك يا أول ، السلام عليك يا آخر ، السلام عليك يا حاشر ، فقال جبريل : اردد السلام ، فرد ، ثم لقيه الثانية فقال له مثل ذلك ، ثم لقيه الثالثة فقال له مثل ذلك . فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : إبراهيم وموسى وعيسى .

                                                                                                                                                                                                                              ومر على موسى وهو يصلي في قبره الكثيب الأحمر ، رجل طوال سبط آدم كأنه من رجال شنوءة ، وهو يقول يرفع صوته : أكرمته وفضلته ، فدفع إليه ، فسلم عليه فرد عليه السلام ، وقال : من هذا معك يا جبريل ؟ فقال : هذا أحمد ، فقل : مرحبا بالنبي العربي الذي نصح لأمته ودعا له بالبركة وقال : سل لأمتك اليسر .

                                                                                                                                                                                                                              فساروا فقال : يا جبريل من هذا؟ قال : هذا موسى بن عمران ، قال : ومن يعاتب؟ قال :

                                                                                                                                                                                                                              يعاتب ربه . قال : أويرفع صوته على ربه؟ قال جبريل إن الله تعالى قد عرف له حدته ثم مر برجل قائم يصلي قال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال جبريل : هذا أخوك محمد ، فرحب به ودعا له ببركة فقال : سل لأمتك اليسر ، فقال من هذا يا جبريل ؟ قال هذا أخوك عيسى . ومر على شجرة كان ثمرها السرح ، تحتها شيخ وعياله ، فرأى مصابيح وضوءا . فقال : من هذا يا جبريل ؟ قال :

                                                                                                                                                                                                                              هذا أبوك إبراهيم . فسلم عليه فرد عليه السلام . وقال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا ابنك [ ص: 84 ] أحمد . فقال : مرحبا بالنبي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته ، يا بني إنك لاق ربك الليلة ، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها ، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل .

                                                                                                                                                                                                                              ودعا له بالبركة .

                                                                                                                                                                                                                              فسار حتى أتى الوادي الذي في المدينة يعني بيت المقدس ، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي . فقيل : يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال : «مثل الحمم» ثم سار حتى انتهى إلى المدينة ، فدخلها من بابها اليماني ، وإذا عن يمين المسجد وعن يساره نوران ساطعان . فقال : يا جبريل ما هذان النوران؟ قال : أما الذي عن يمينك فإنه محراب أخيك داود ، وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم . فدخل المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر ، فأتى جبريل الصخرة التي ب بيت المقدس ، فوضع إصبعه فيها فخرقها ، فشد بها البراق ، وفي رواية مسلم ، فربطه بالحلقة التي تربط بها الأنبياء . فلما استوى بها النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة المسجد ، قال جبريل : يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال : نعم ، قال جبريل : فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن ، وهن جلوس عن يسار الصخرة ، فانتهى إليهن ، فسلم عليهن ، فرددن عليه السلام . فقال : من أنتن؟ فقلن : «خيرات حسان» ، نساء قوم أبرار ، نقوا فلم يدرنوا ، وأقاموا لم يظعنوا ، وخلدوا فلم يموتوا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم صلى هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثيرون ، فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد ، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة ، فقاموا ينتظرون من يؤمهم ، فأخذ جبريل بيده فقدمه فصلى بهم ركعتين . وفي رواية : ثم أقيمت الصلاة ، فتدافعوا حتى قدموا محمدا . وعند الواسطي عن كعب : فأذن جبريل ونزلت الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالملائكة والمرسلين ، فلما انصرف ، قال جبريل :

                                                                                                                                                                                                                              يا محمد ، أتدري من صلى خلفك؟ قال : لا . قال : كل نبي بعثه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عند الحاكم وصححه البيهقي : فلقي أرواح الأنبياء ، فأثنوا على ربهم . فقال إبراهيم : «الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي ، وأنقذني من النار ، وجعلها علي بردا وسلاما . ثم إن موسى أثنى على ربه تبارك وتعالى فقال : «الحمد لله الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي ، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون» . ثم إن داود أثنى على ربه فقال : «الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما ، وعلمني الزبور ، وألان لي الحديد ، وسخر لي الجبال يسبحن والطير ، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال : «الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي [ ص: 85 ]

                                                                                                                                                                                                                              الشياطين والإنس يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات ، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلا ، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والجن والطير ، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين ، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس فيه حساب ولا عقاب» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم إن عيسى ابن مريم أثنى على ربه تبارك وتعالى فقال : «الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب . ثم قال له : كن فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة ، والتوراة والإنجيل ، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ، ورفعني وطهرني .

                                                                                                                                                                                                                              وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل» .

                                                                                                                                                                                                                              فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «كلكم أثنى على ربه وإني مثن على ربي» ، فقال : «الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا ، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء ، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس ، وجعل أمتي وسطا ، وجعل أمتي هم الأولون والآخرون ، وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما» .

                                                                                                                                                                                                                              فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : «بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم » .

                                                                                                                                                                                                                              ثم تذاكروا أمر الساعة ، فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال : «لا علم لي بها» . فردوا أمرهم إلى موسى فقال : لا علم لي بها» . فردوا أمرهم إلى عيسى فقال : «أما وجبتها فلا يعلمها إلا الله ، وفيما عهد إلي ربي إن الدجال خارج ، ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص ، فيهلكه الله تعالى إذا رآني ، حتى إن الحجر ليقول : يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله ، فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج .

                                                                                                                                                                                                                              وهم من كل حدب ينسلون فيطؤون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ، ثم يرجع الناس فيشكونهم إلي ، فأدعو الله تعالى عليهم ، فيهلكهم ويميتهم حتى تحوي الأرض من ريحهم ، فينزل الله تعالى المطر ، فيجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر .

                                                                                                                                                                                                                              ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها ليلا أو نهارا» .

                                                                                                                                                                                                                              وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من العطش أشد ما أخذه ، فأتي بقدحين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال في أحدهما لبن والآخر عسل- وفي رواية أتي بآنية ثلاث مغطاة أفواهها ، فأتي بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا ، وفي لفظ أنه لم يشرب منه شيئا ، ثم دفع إليه إناء آخر فشرب منه حتى روي ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر ، فقيل له : اشرب فقال : «لا أريده قد رويت» .

                                                                                                                                                                                                                              فقال جبريل : «إنها ستحرم على أمتك» .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : فعرض عليه الماء والخمر واللبن ، وفي [ ص: 86 ]

                                                                                                                                                                                                                              رواية العسل بدل الماء فشرب من العسل قليلا ، وتناول اللبن فشرب منه حتى روي ، فضرب جبريل منكبيه وقال : «أصبت الفطرة ، ولو شربت الخمر لغوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل ، ولو شربت الماء لغرقت أمتك» ، وفي رواية قال شيخ «متكئ على منبر له لجبريل :

                                                                                                                                                                                                                              «أخذ صاحبك الفطرة ، وإنه لمهتد» . ثم أتي بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم ، فلم ير الخلق أحسن من المعراج ، له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب . وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس منضد باللؤلؤ ، عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة ، فصعد هو وجبريل حتى انتهيا إلى باب من أبواب السماء الدنيا يقال له باب الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل ، وهو صاحب السماء الدنيا- وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي : «يسكن الهواء فلم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم» ، انتهى- وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف .

                                                                                                                                                                                                                              فاستفتح جبريل باب السماء : قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال :

                                                                                                                                                                                                                              محمد ، قيل : أوقد أرسل إليه؟ - وفي رواية : بعث إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به وأهلا ، حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ففتح لهما . فلما خلصا إلى السماء ، فإذا فيها آدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته ، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول : روح طيبة ونفس طيبة ، اجعلوها في عليين ، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكفار ، فيقول : روح خبيثة ونفس خبيثة ، اجعلوها في سجين وعن يمينه أسودة وباب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب تخرج منه ريح خبيثة ، فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى .

                                                                                                                                                                                                                              فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فرد عليه السلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل من هذا؟ قال : هذا أبوك آدم ،

                                                                                                                                                                                                                              وهذه الأسودة نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، وأهل الشمال منهم أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة ، إذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة ، إذا نظر من يدخله من ذريته ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم ، إذا نظر من يدخله من ذريته بكى وحزن .

                                                                                                                                                                                                                              ثم مضى صلى الله عليه وسلم هنيهة ، فإذا هو بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربه أحد ، وإذا بأخونة عليها لحم قد أروح وأنتن ، عنده ناس يأكلون منه . فقال : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام . وفي لفظ : وإذا هو بأقوام على مائدة عليها لحم مشوي كأحسن ما رؤي من اللحم ، وإذا حوله جيف ، فجعلوا يقبلون على الجيف يأكلون منها ويدعون اللحم . فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الزناة يحلون ما حرم الله عليهم ويتركون ما أحل الله لهم . [ ص: 87 ]

                                                                                                                                                                                                                              ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام بطونهم أمثال البيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم ، كلما نهض أحدهم خر ، فيقول : اللهم لا تقم الساعة ، قال : وهم على سابلة آل فرعون ، فتجيء السابلة فتطؤهم فسمعتهم يضجون إلى الله تعالى . فقال : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس [البقرة : 275] .

                                                                                                                                                                                                                              ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل ، فتفتح أفواههم ويلقمون حجرا ، وفي رواية : يجعل في أفواههم صخر من جهنم ، ثم يخرج من أسافلهم ، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى . فقال : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [النساء : 10] ثم مضى هنيهة فإذا هو بنساء معلقات بثديهن ونساء منكسات بأرجلهن ، فسمعهن يضججن إلى الله تعالى ، فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن . ثم مضى هنيهة إذا هو بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه ، فيقال له : كل كما كنت تأكل من لحم أخيك . فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون .

                                                                                                                                                                                                                              ثم صعدا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل . قيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به وأهلا ، حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . ففتح لهما . فلما خلصا فإذا هو بابني الخالة : عيسى بن مريم ، ويحيى بن زكريا ، شبيه أحدهما بصاحبه : ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما . وإذا بعيسى جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأنما أخرج من ديماس أي حمام شبهه بعروة بن مسعود الثقفي .

                                                                                                                                                                                                                              فسلم عليهما فردا عليه السلام ، ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعوا له بخير .

                                                                                                                                                                                                                              ثم صعدا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ . قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به وأهلا ، حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . ففتح لهما فلما خلصا فإذا هو بيوسف ومعه نفر من قومه فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، وفي رواية أحسن ما خلق الله ، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب . قال : من هذا يا جبريل ؟ قال : أخوك يوسف .

                                                                                                                                                                                                                              ثم صعدا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن [ ص: 88 ]

                                                                                                                                                                                                                              معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به وأهلا حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . فلما خلصا فإذا هو بإدريس فقد رفعه الله مكانا عليا ، فسلم عليه فرد عليه السلام ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم دعا له بخير .

                                                                                                                                                                                                                              ثم صعدا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من هذا؟ فقال : جبريل . قيل :

                                                                                                                                                                                                                              ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به وأهلا ، حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . ففتح لهما ، فلما خلصا فإذا هو بهارون ، ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء ، تكاد تضرب إلى سرته من طولها ، وحوله قوم من بني إسرائيل ، وهو يقص عليهم فسلم عليه فرد عليه السلام ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم دعا له . فقال : يا جبريل من هذا؟ فقال : الرجل المحبب في قومه هارون بن عمران .

                                                                                                                                                                                                                              ثم صعدا إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبريل . قيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به وأهلا ، حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، ففتح لهما ، فجعل يمر بالنبي والنبيين معهم الرهط ، والنبي والنبيين معهم القوم ، والنبي والنبيين ليس معهم أحد . ثم مر بسواد عظيم ، فقال : «من هذا» قيل له موسى وقومه ولكن ارفع رأسك فإذا بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب فقيل له : هؤلاء أمتك وسوى هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب . فلما خلصا فإذا بموسى بن عمران ، رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة ، كثير الشعر ، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دونهما .

                                                                                                                                                                                                                              فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم دعا له بخير ، وقال : يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا ، بل هذا أكرم على الله مني . فلما جاوزه النبي صلى الله عليه وسلم بكى . فقال : ما يبكيك؟ فقال : أبكي لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل الجنة من أمتي ، ويزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا رجل من بني آدم خلفي في دنيا وأنا في أخرى ، فلو أنه بنفسه لم أبال ، ولكن معه كل أمته . ثم صعد .

                                                                                                                                                                                                                              فلما انتهينا إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق ، فاستفتح جبريل ، قيل :

                                                                                                                                                                                                                              من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل :

                                                                                                                                                                                                                              مرحبا به وأهلا ، حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . ففتح لهما فسمع تسبيحا في السماوات العلا مع تسبيح كثير : سبحت السموات العلى من ذي [ ص: 89 ]

                                                                                                                                                                                                                              المهابة مشفقات ، سبحان العلي الأعلى ، سبحانه وتعالى . فلما خلصا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم بإبراهيم رجل أشمط ، جالس عند باب الجنة ، على كرسي مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، ومعه نفر من قومه ، فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فرد عليه السلام ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح وقال : مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة . فقال له : وما غراس الجنة؟ قال : «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . وفي رواية : «أقرئ على أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . وهو أشبه ولده به ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا ، فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلصت ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم . فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم فقال : يا جبريل من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء وما هذه الأنهار التي دخلوها؟

                                                                                                                                                                                                                              فقال : أما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم ، وأما هذه الأنهار فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث وسقاهم ربهم شرابا طهورا [الإنسان : 21] وقيل له : هذا مكانك ومكان أمتك ، وإذا هو بأمته شطرين : شطر عليهم ثياب كأنها القراطيس ، وشطر عليه ثياب رمد ، فدخل البيت المعمور ، ودخل معه الآخرون الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمد وهم على خير ، فصلى ومن معه من المؤمنين في البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ، آخر ما عليهم ، ثم خرج ومن معه .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عند الطبراني بسند صحيح : «مررت ليلة أسري بي على الملأ الأعلى فإذا جبريل كالحلس البالي من خشية الله ، وفي رواية عند البزار «كأنه حلس لاطئ» . انتهى ، ثم أتي بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل ، فشرب اللبن ، فقال جبريل : اختارت أمتك الفطرة ،

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك . ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، وإليها ينتهي ما يعرض من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها . وإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها . وإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها [ ص: 90 ] كآذان الفيلة ، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة ، وفي رواية : الورقة منها مغطية للأمة كلها . وفي لفظ عند الطبراني : الورقة منها تظل الخلق ، على كل ورقة ملك ، تغشاها ألوان لا يدرى ما هي ، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت ، وفي رواية : تحولت ياقوتا وزبرجدا فما يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها ، فيها فراش من ذهب ، وفي رواية يلوذ بها جراد من ذهب .

                                                                                                                                                                                                                              فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد من أمتك خلا على سبيلك ، وإذا في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقال : ما هذه يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات . وفي رواية : فإذا في أصلها عين تجري يقال لها السلسبيل ، ينشق منها نهران : أحدهما الكوثر ، يطرد عجاحا مثل السهم ، عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد ، وعليه طيور خضر أنعم طير ، رأى فيه آنية الذهب والفضة ، تجري على رضراض من الياقوت والزمرد ، ماؤه أشد بياضا من اللبن ، فأخذ من آنية ، فاغترف من ذلك الماء ، فشرب فإذا هو أحلى من العسل ، وأشد ريحا من المسك ، فقال له جبريل : هذا هو النهر الذي حباك به ربك ، والنهر الآخر نهر الرحمة فاغتسل فيه ، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عند السدرة له ستمائة جناح ، جناح منها قد سد الأفق ، تتناثر من أجنحته التهاويل : الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله تعالى . انتهى . ثم أخذ على الكوثر حتى إذ دخل الجنة فإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ،

                                                                                                                                                                                                                              فرأى على بابها مكتوبا : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر . فقال : يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يسأل إلا من حاجة . فاستقبلته جارية فقال : لمن أنت يا جارية؟ فقالت : لزيد بن حارثة .

                                                                                                                                                                                                                              ورأى الجنة من درة بيضاء وإذا فيها جنابذ اللؤلؤ . فقال : يا جبريل ، إنهم يسألوني عن الجنة . فقال : أخبرهم أنها قيعان ترابها المسك ، وسمع في خارجها وجسا ، فقال : يا جبريل ما هذا؟ قال : بلال المؤذن . فسار فإذا هو بأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وإذا رمانها كالدلاء ،

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : وإذا فيها رمان كأنه جلود الإبل المقتبة ، وإذا بطيرها كالبخاتي .

                                                                                                                                                                                                                              فقال أبو بكر : يا رسول الله إن تلك الطير لناعمة . قال : [ ص: 91 ] أكلتها أنعم منها وإني لأرجو أن تأكل منها .

                                                                                                                                                                                                                              وبينا هو يسير بنهر على حافتيه الدر المجوف ، وإذا طينه مسك أذفر فقال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هو الكوثر .

                                                                                                                                                                                                                              ثم عرضت عليه النار فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته ، ولو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها ، فإذا بقوم يأكلون الجيف ، فقال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس . ورأى رجلا أحمر أزرق فقال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا عاقر الناقة .

                                                                                                                                                                                                                              ورأى مالكا خازن النار ، فإذا رجل عابس يعرف الغضب في وجهه ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام ، ثم أغلقت دونه ، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، فغشيها من أنوار الخلائق ومن أنوار الملائكة أمثال الغربان حين يقض على الشجرة وينزل على كل ورقة ملك من الملائكة فغشيها سحابة من كل لون .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث إن جبريل قال له : إن ربك يسبح . قال : وما يقول؟ قال : يقول : «سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، سبقت رحمتي غضبي» . فتأخر جبريل ، ثم عرج به حتى ظهر لمستوى سمع فيه صريف الأقلام . ورأى رجلا مغببا في نور العرش ، فقال : من هذا؟ ملك ، قيل : لا ، قال : نبي ، قيل : لا ، قال : من هو؟ قيل : هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطب من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم ينتسب لوالديه قط ، فرأى ربه سبحانه وتعالى ، فخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا ، وكلمه ربه تعالى عند ذلك . فقال له : يا محمد . قال : لبيك يا رب . قال : سل : فقال :

                                                                                                                                                                                                                              إنك اتخذت إبراهيم خليلا ، وأعطيته ملكا عظيما وكلمت موسى تكليما ، وأعطيت داود ملكا عظيما وسخرت له الجن والإنس والشياطين وسخرت له الرياح وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده . وعلمت عيسى التوراة والإنجيل ، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان عليهما سبيل .

                                                                                                                                                                                                                              فقال الله سبحانه وتعالى : قد اتخذتك حبيبا . قال الراوي : وهو مكتوب في التوراة :

                                                                                                                                                                                                                              حبيب الله . وأرسلتك للناس كافة بشيرا ونذيرا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، لا أذكر إلا وذكرت معي وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلت أمتك أمة وسطا ، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون ، وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا ، وأولهم يقضى له ، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك ، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطها نبيا قبلك ، وأعطيتك الكوثر ، [ ص: 92 ] وأعطيتك ثمانية أسهم : الإسلام والهجرة والجهاد والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأني يوم خلقت السماوات والأرض ، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فقم بها أنت وأمتك .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فضلني ربي : أرسلني رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيرا ونذيرا ، وألقى في قلوب عدوي الرعب من مسيرة شهر ، وأحل لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، وعرضت علي أمتي فلم يخف علي التابع والمتبوع ورأيتهم على قوم ينتعلون بالشعر ، ورأيتهم أتوا على قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأنما أخرمت أعينهم بالمخيط فلم يخف علي ما هم ، لا قوي من بعدي ، وأمرت بخمسين صلاة» .

                                                                                                                                                                                                                              انتهى . وأعطي ثلاثا : أنه سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن مسعود : أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات .

                                                                                                                                                                                                                              ثم انجلت عنه السحابة وأخذ بيده جبريل ، فانصرف سريعا ، فأتى على إبراهيم ، فلم يقل شيئا ، ثم أتى على موسى ، قال : ونعم الصاحب كان لكم ، فقال : «ما صنعت يا محمد؟ ما فرض عليك ربك وعلى أمتك؟» قال : فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة» .

                                                                                                                                                                                                                              قال : «فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عنك وعن أمتك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد خبرت الناس قبلك وبلوت بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه ، فأمتك أضعف أجسادا وأبدانا وقلوبا وأبصارا وأسماعا» . فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيره ، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت ، فرجع سريعا حتى انتهى إلى الشجرة ، فغشيته السحابة ، وخر ساجدا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال : «رب خفف عنا» ، وفي لفظ : «عن أمتي فإنها أضعف الأمم» . قال : «قد وضعت خمسا» ، ثم انجلت السحابة ، ورجع إلى موسى فقال : «وضع عني خمسا» . قال : «ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك» . فلم يزل يرجع بين موسى وبين ربه ، يحط عنه خمسا خمسا ، حتى قال : «يا محمد» ، قال : «لبيك وسعديك» قال : «هن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة لا يبدل القول لدي ولا ينسخ كتابي تخفيفها عنك كتخفيف خمس صلوات ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن [ ص: 93 ] عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة» . فنزل حتى انتهى إلى موسى ، فأخبره فقال : «ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك» . قال له : «قد راجعت ربي حتى استحييت منه ولكن أرضى وأسلم» .

                                                                                                                                                                                                                              فناداه مناد أن «قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» .

                                                                                                                                                                                                                              فقال له موسى : «اهبط بسم الله» . ولم يمر على الملأ من الملائكة إلا قالوا له : «عليك بالحجامة» . وفي لفظ : «مر أمتك بالحجامة» . ثم انحدر ، فقال جبريل : «ما لي لم آت لأهل السماء إلا رحبوا بي وضحكوا إلي ، غير واحد سلمت عليه فرد السلام ورحب بي ودعا لي ، ولم يضحك إلي . قال : قال : «مالك خازن النار ، لم يضحك منذ خلق ، ولو ضحك لأحد لضحك إليك» . فلما نزل إلى السماء الدنيا نظر أسفل منه ، فإذا هو برهج ودخان ، فقال ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم ، لا يتفكرون في ملكوت السماوات والأرض ، ولولا ذلك لرأوا العجائب .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ركب منصرفا ، فمر بعير لقريش بمكان كذا وكذا ، منها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء ، فلما حاذى العير نفرت واستدارت وصرخ ذلك البعير وانكسر ، ومر بعير قد ضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان ، فسلم عليهم ، فقال بعضهم : هذا صوت محمد .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أتى أصحابه قبيل الصبح بمكة ، فلما أصبح قطع وعرف أن الناس تكذبه ، فقعد حزينا ، فمر عليه عدو الله أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه ، فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء؟ قال : نعم . قال : ما هو؟ قال : أسري بي الليلة . قال : إلى أين؟ قال : إلى بيت المقدس .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال : نعم . فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه . قال : أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ قال : نعم ، قال يا معشر بني كعب بن لؤي .

                                                                                                                                                                                                                              فانفضت إليه المجالس ، وجاءوا حتى جلسوا إليهما . فقال : حدث قومك بما حدثتني

                                                                                                                                                                                                                              فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إني أسري الليلة بي» . قالوا : إلى أين؟ قال : إلى بيت المقدس ، قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال : نعم ، فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا ، وضجوا وأعظموا ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فقال المطعم بن عدي : كل أمرك قبل اليوم كان أمما غير قولك اليوم ، أنا أشهد أنك كاذب ، نحن نضرب أكباد الإبل إلى البيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا ، أتدعي أنت أنك أتيته في ليلة؟ واللات والعزى لا أصدقك . [ ص: 94 ]

                                                                                                                                                                                                                              فقال أبو بكر لمطعم : بئس ما قلت لابن أخيك ، جبهته وكذبته ، أما أنا فأشهد أنه صديق صادق . فقالوا : يا محمد صف لنا بيت المقدس ، كيف بناؤه وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل؟ وفي القوم من سافر إليه . فذهب ينعت لهم بناءه كذا وهيئته كذا ، وقربه من الجبل كذا ، فما زال ينعته لهم حتى التبس عليه النعت فكرب كربا ما كرب مثله ، فجيء بالمسجد وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال ، فقالوا : كم للمسجد من باب؟ ولم يكن عدها ، فجعل ينظر إليه ويعدها بابا بابا ، ويعلمهم ، وأبو بكر يقول : صدقت صدقت ، أشهد إنك رسول الله . فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قالوا لأبي بكر : أفتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟

                                                                                                                                                                                                                              قال : نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة . فبذلك سمي أبو بكر الصديق . ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا . فقال «أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد ضلوا ناقة لهم ، فانطلقوا في طلبها ، فانتهيت إلى رحالهم ، فليس بها منهم أحد ، وإذا قدح ماء فشربت منه ، ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم يقدمها جمل أورق عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان وها هي ذه تطلع عليكم من الثنية» . قالوا : فمتى تجيء؟ قال يوم الأربعاء . فلما كان ذلك اليوم ، انصرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ، ولم تجئ . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ، فزيد له في النهار ساعة ، وحبست عليه الشمس ، حتى دخلت العير ، فاستقبلوا الليل . فقالوا : هل ضل لكم بعير؟ قالوا : نعم . فسألوا العير الأخر فقالوا : هل انكسر لكم ناقة حمراء؟ قالوا : نعم . قالوا : فهل كان عندكم قصعة من ماء؟ فقال رجل : أنا والله وضعتها فما شربها أحد ، متأولا أهريقت في الأرض . فرموه بالسحر ، وقالوا : صدق الوليد ، فأنزل الله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                              وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس [الإسراء : 60] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية