وفيها: بغداد: أسست مدينة
وكان سبب ذلك: أن أبا جعفر بنى - حين أفضي الأمر إليه - الهاشمية قبالة مدينة ابن هبيرة إلى جنب الكوفة ، أبو جعفر أيضا مدينة بظهر الكوفة سماها: الرصافة . وبنى
فلما ثارت الروندية بأبي جعفر في مدينته التي يقال لها: الهاشمية كره سكناها لاضطراب من اضطرب عليه من الروندية ، ولم يأمن على نفسه . فخرج يرتاد موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده ، ويبني به مدينة ، فانحدر إلى جرجرايا ، ثم صار إلى بغداد ، ثم مضى إلى الموصل ، ثم عاد إلى بغداد فقال: هذا موضع صالح ، وهذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء ، يأتينا فيها كل ما في البحر ، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك ، وهذه الفرات يجيء فيها كل شيء بالشام والرقة ، وضرب عسكره على الصراة ، وخط المدينة ، ووكل بكل ربع قائدا . [ ص: 70 ]
أخبرنا قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني محمد بن علي الوراق وأحمد بن علي المحتسب قالا: أخبرنا أبو محمد بن جعفر بن هارون الكوفي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حدثنا محمد بن خلف قال: زعم عبد الله بن أبي سعيد قال: حدثني أحمد بن حميد بن جبلة قال: حدثني أبي ، عن جدي جبلة قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة البغداديين يقال لها: المباركة ، وكانت لستين نفسا من البغداديين ، فعوضهم عنها عوضا أرضاهم فأخذ جدي جبلة قسمه فيهم .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة ، وأن الهند رسمتها فجعلت صفة الأقاليم كأنها حلقة ، فالإقليم الأول منها: إقليم بلاد الهند ، والإقليم الثاني إقليم الحجاز ، والإقليم الثالث إقليم مصر ، والإقليم الرابع إقليم بابل ، وهو أوسط الأقاليم وأعمرها ، وفيه جزيرة العرب ، وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا ، وبغداد في وسط هذا الإقليم . والإقليم الخامس بلاد الروم ، والإقليم السادس بلاد الترك ، والإقليم السابع بلاد الصين . والإقليم الرابع الذي فيه العراق - وفي العراق بغداد - هو صفوة الأرض ووسطها لا يلحق من فيه عيب سرف ولا تقصير ، فكذلك اعتدلت ألوان أهله ، وامتدت أجسامهم ، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة ، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان ، ومن غلظ الترك ، ومن جفاء أهل الجبال وخراسان ، ومن دمامة أهل الصين ومن جانسهم ، واجتمعت في أهل هذا القسم من الأرض محاسن جميع أهل الأقطار ، وكما اعتدلوا في الخلقة ، كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بالعلم والآداب ، وهم أهل العراق ومن جاورهم .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن علي بن عبد الله المقرئ قال: أخبرنا محمد بن جعفر التميمي قال: أخبرنا أبو أحمد الجلودي قال: حدثنا محمد بن زنجويه ، عن ابن عائشة قال: كتب رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب اختر لي المنازل . قال: فكتب: يا أمير [ ص: 71 ] المؤمنين إنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد كعب الأحبار اليمن . فقال حسن الخلق: أنا معك . فقال الجفاء: أريد الحجاز فقال الفقر: وأنا معك . فقال البأس: أريد الشام . فقال السيف: وأنا معك . فقال العلم: أريد العراق . فقال العقل: وأنا معك . فقال الغنى: أريد مصر . فقال الذل: وأنا معك . فاختر لنفسك ، فلما ورد الكتاب على قال: عمر فالعراق إذن ، فالعراق إذن .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على أبي بكر أحمد بن محمد اليزدي ، عن أبي شيخ عبد الله بن محمد بن حيان قال: حدثني أبو الحسن البغدادي قال: قال إبراهيم بن عبد الله: جئت إلى فقال: الأمصار عشرة: الصناعة الجاحظ بالبصرة ، والفصاحة بالكوفة ، والخير ببغداد ، والغدر بالري ، والحسد بهراة ، والجفاء بنيسابور ، والبخل بمرو ، والطرمذة بسمرقند ، والمروءة ببلخ ، والتجارة بمصر .
وقال سليمان بن مجالد: خرج يرتاد منزلا ، فخرجنا على ساباط ، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه ، وأقام يعالج عينيه ، فسأله الطبيب أين يريد أمير المؤمنين؟ قال: يرتاد منزلا قال: فإنا نجد في كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبني مدينة بين المنصور دجلة والصراة تدعى: الزوراء ، فإذا أسسها وبنى عرقا منها أتاه فتق من الحجاز فقطع بناءها وأقبل على إصلاح ذلك الفتق ، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر منه ، فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثم يعود إلى بنائها فيتمه ، ثم يعمر طويلا ، ويبقى الملك في عقبه . قال سليمان: فإن أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر ، فأخبرت به أمير المؤمنين . فدعا الرجل فحدثه الحديث ، فكر راجعا عوده على بدئه وقال: والله أنا ذلك لقد سميت مقلاصا وأنا صبي ، ثم انقطعت عني ، ثم شاور في ذلك ، فاتفق رأي القوم على بغداد ، وقالوا له: تجيئك الميرة من العرب في الفرات وطرائف مصر والشام ، وتجيئك [ ص: 72 ] الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة ، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تامرا حتى تصل إلى الزاب ، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة ، وأنت بين أنهار لا يصل إليك [عدوك] إلا على جسر أو قنطرة ، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدو وأنت بين دجلة والفرات ، لا يجيئك أحد من المشرق أو المغرب إلا احتاج إلى العبور بدجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين .
فوجه في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة فأحضروا ، وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة ، وكان ممن أحضر الحجاج بن أرطأة وأبو حنيفة والنعمان بن ثابت .
وأمر بخط المدينة ، وحفر الأساسات ، وضرب اللبن ، وحرق الآجر ، وكان أول ما ابتدأ به في عملها سنة خمس وأربعين [ومائة] ، وأحب أن ينظر إليها ، فأمر أن تخط بالرماد ، وأقبل يدخل من كل باب ، ويمر في فضلاتها وطاقتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ، وأمر أن يحفر أساس ذلك على ذلك الرسم .
قال ابن عياش: فوضع أول لبنة بيده وقال: بسم الله وبالله ، و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال: ابنوا على بركة الله وعونه .
وقال حماد التركي: لما وقع اختيارهم على موضع بغداد ، وكان في موضع الخلد دير وفي فرات الصراة قرية ، وكانت القرية تسمى العتيقة ، وهي التي افتتحها المثنى بن حارثة ، وجاء فنزل المنصور الدير في موضع الخلد على الصراة ، فوجده قليل البق ، فقال: هذا موضع أرضاه ، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة . فبناه ، وكان موضع قرى ومزارع .
ولما احتاج في بنائه إلى الأنقاض قال المنصور لخالد بن برمك: ما ترى في نقض بناء كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه . فقال: لا أرى ذلك . قال: [ ص: 73 ] ولم؟ قال: لأنه علم من [أعلام] الإسلام يستدل به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا ، وإنما هو بأمر دين . فقال: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم . وأمر أن ينقض القصر الأبيض ، فنقضت ناحية منه ، وحمل نقضه ، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد ، فرفع ذلك إلى ، فدعا المنصور خالدا فأخبره وقال: ما ترى؟ قال: قد كنت أرى أن لا تفعل ، فأما إذ فعلت فأرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده لئلا يقال إنك عجزت عن هدمه . فأعرض عن ذلك وأمر أن لا يهدم . المنصور
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمر المرزباني قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الحصيني قال: حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: أمر بنقض إيوان المنصور المدائن فاستشار جماعة من أصحابه ، وكلهم أشار عليه بمثل ما هم ، وكان معه كاتب من لما صارت الخلافة إلى الفرس فاستشاره في ذلك فقال له: يا أمير المؤمنين ، أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من تلك القرية - يعني المدينة - وكان له بها مثل ذلك المنزل ، ولأصحابه مثل تلك الحجر ، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاءوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره ، حتى غلبوه وأخذوه من يديه قسرا وقهرا ، ثم قتلوه ، فيجيء الجائي من أقاصي الأراضي فينظر إلى تلك المدينة وإلى هذا الإيوان ، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الإيوان ، فلا يشك أنه بأمر الله عز وجل ، وأنه هو الذي أيده ، وكان معه ومع أصحابه ، وفي تركه فخر لكم ، فاستغشه واتهمه لقرابته من القوم ، ثم بعث في بعض الإيوان فنقض منه الشيء اليسير ، ثم كتب إليه أنه يغرم في نقضه أكثر مما يسترجع ، وأن هذا تلف للأموال وذهابها . فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إليه ، فقال له: قد كنت أشرت بشيء لم يقبل مني ، وأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن [ ص: 74 ] هدمه والصواب أن تبلغ به الماء . ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق ، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال فأمر بالإمساك عنه . المنصور
وقيل إن أبا جعفر لما أمر بحفر الخنادق وأنشأ بناء الأساس أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا ، وقدر أعلاه عشرين ذراعا ، فلما بلغ البناء قامة أتاه خروج محمد فقطع البناء ، وخرج إلى الكوفة ، فلما فرغ من حرب محمد رجع إلى بغداد .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عروة قال: أخبرنا قال: قال رجل من ولد أبو بكر الصولي الربيع: لما أراد أبو جعفر أن يبني لنفسه كان يؤتى من كل مدينة بتراب فيعفنه فيصير عقارب وهوام ، حتى أتى بتربة بغداد ، فخرج صرارات ، وأتى الخلد فنظر إلى دجلة والفرات فأعجبه ، فرآه راهب كان هناك وهو يقدر بناءها . فقال: لا يتم ، فبلغه فأتاه .
فقال: نعم! . نجد في كتبنا أن الذي يبنيها ملك يقال له: مقلاص . قال أبو جعفر : كانت والله أمي تلقبني في صغري مقلاصا .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب ابن أبي علي المعلى قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: أخبرنا محمد بن جرير إجازة: أن أبا جعفر ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة ، واستتم البناء سنة ست وأربعين ومائة وسماها مدينة السلام .
قال الخطيب: وبلغني أنه لما عزم على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرض ، فمثل لهم صفتها التي في نفسه ، ثم أحضر الفعلة والصناع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم ، وأجرى عليهم الأرزاق ، وكتب إلى كل بلد في حمل من فيه ممن يفهم شيئا من أمر البناء ، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل الصناعات ألوف كثيرة ، ثم اختطها وجعلها مدورة . ويقال: لا يعرف في أقطار الأرض كلها مدينة مدورة سواها ، ووضع أساسها في وقت اختاره نوبخت المنجم . [ ص: 75 ]
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان بن الفلو قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد بن الحكم قال: حدثني أبو الفضل العباس بن أحمد الحداد قال: سمعت أحمد البربري يقول: مدينة أبي جعفر ثلاثون ومائة جريب ، خنادقها وسورها ثلاثون جريبا ، وأنفق عليها ثمانية عشر ألف ألف .
قال الخطيب: ورأيت في بعض الكتب أن أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف وثلاثة وثمانين درهما ، مبلغها من الفلوس مائة ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس ، وذلك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقيراط إلى خمس حبات ، والروزداري يعمل بحبتين إلى ثلاث حبات ، وهذا خلاف ما تقدم ذكره ، وبين القولين تفاوت كثير . المنصور
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب محمد بن علي الوراق قال: أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال: حدثنا الحسن بن محمد السكوني قال: حدثنا محمد بن خلف قال: قال يحيى بن الحسن بن عبد الخالق: خط المدينة ميل في ميل ، ولبنها ذراع في ذراع .
قال قال ابن خلف: أحمد بن محمد الشروي: وهدمنا من السور الذي على باب المحول قطعة ، فوجدنا فيها لبنة مكتوب عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا ، فوزناها فوجدناها كذلك قال الخطيب: وبلغني عن محمد بن خلف أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان يتولى القيام بضرب لبن المدينة وعدده حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق . وكان يعد اللبن بالقصب ، وهو أول من فعل ذلك ، فاستفاده الناس منه . أبو حنيفة