[ ص: 42 ] ذكر حوادث الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ] حرب
قال : لما قصدت ابن إسحاق اليهود عيسى عليه السلام فصلبوا الذي شبه به ، عدوا على الحواريين فشمسوهم وعذبوهم وطافوا بهم ، فسمع بذلك ملك الروم - وكانوا تحت يده ، وكان صاحب وثن - فقيل له: إن رجلا كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدوا عليه فقتلوه ، وكان يخبرهم أنه رسول الله ، قد أراهم العجائب ، وأحيا لهم الموتى ، وأبرأ لهم الأسقام ، وأخبرهم بالغيوب . قال: ويحكم ، فما منعكم أن تذكروا هذا لي ، فوالله لو علمت فما خليت بينهم وبينه . ثم بعث فانتزع الحواريين من أيديهم ، وسألهم عن دين عيسى وأمره ، فأخبروه خبره ، فبايعهم على دينهم ، وأخذ الخشبة التي صلب عليها فأكرمها وصانها لما مسها منه . وقتل في بني إسرائيل قتلى كثيرة ، فمن هنالك كان أصل النصرانية في الروم .
قال : اجتمع وهب بن منبه الحواريون بعد رفع عيسى ، فقالوا: نريد أن نخرج دعاة في الأرض ، وكان ممن توجه إلى الروم : نسطور ، وصاحبان له . فأما نسطور فحبسته حاجة ، فقال لصاحبيه: أرفقا ولا تحرقا ولا تستبطئاني . فلما قدما الكورة ، إذا قوم في يوم عيدهم ، وقد برز ملكهم وأهل مملكته ، فأتاه الرجلان فقاما بين يديه فقالا له: اتق الله ، فإنكم تعملون بالمعاصي وتنتهكون حرم الله . فغضب الملك وهم بقتلهما ، فقام إليه نفر من أهل مملكته ، فقالوا: إن هذا يوم لا تهريق فيه دماء ، وقد ظفرت بصاحبيك ، فإن أحببت أن تحبسهما حتى يمضي عيدنا ثم ترى فيهما رأيك فعلت .
فأمر بحبسهما ، ثم ضرب على أذنه بالنسيان لهما حتى قدم نسطور ، فسأل [ ص: 43 ] عنهما فأخبر بشأنهما وأنهما محبوسان في السجن ، فدخل عليهما ، فقال: ألم أقل لكما أرفقا ، ولا تحرقا ، ولا تستبطئاني ، فهل تدريان ما مثلكما ؟ [ مثلكما ] مثل امرأة لم تصب واحدا حتى دخلت في السن ، فأصابت بعد ما دخلت في السن ولدا ، فأحبت أن يعجل شبابه حتى يكبر ، فحملت على معدته ما لا يطيق فقتلته . ثم قال لهما: والآن فلا تستبطئاني حتى آتي إلى باب الملك .
فأتاه وقد جلس للناس ، وكانوا إذا ابتلوا بحرام وبحلال رفعوه إلى الملك ، فنظر فيه ثم سأل عنه ما يليه ، وسأل الناس بعضهم بعضا حتى ينتهي إلى أقصى المجلس . فجلس نسطور في أقصى المجلس ، فلما ردوا على الملك جواب من أجابه ، وردوا عليه جواب نسطور ، فسمع بشيء عليه نور ، [ وحلا ] في مسامعه ، فقال: من صاحب هذا القول ؟ قالوا: الرجل الذي في أقصى المجلس ، قال: علي به . فلما جاءه قال: أنت القائل كذا ؟ قال: نعم ، قال: فما تقول في كذا وكذا ؟ فجعل لا يسأله عن شيء إلا فسره له ، فقال له الملك: عندك هذا العلم وأنت تجلس في آخر القوم ؟ ضعوا له عند سريري مجلسا . ثم قال له: إن أتاك ابني فلا تقم له .
ثم أقبل على نسطور وترك الناس ، فلما عرف أن منزلته قد ثبتت ، قال: لأروزنه . فقال: أيها الملك ، أنا رجل بعيد الدار ، فإن أحببت أن تقضي حاجتك مني فأذن لي فأنصرف إلى أهلي ، فقال: يا نسطور ، ما إلى ذلك سبيل ، فإن أردت أن تحمل أهلك إلينا فلك المواساة ، وإن [ أحببت أن ] تأخذ من بيت المال حاجتك فتبعث به إلى أهلك فعلت . فسكت نسطور .
ثم تخير يوما مات لهم فيه ميت ، فقال: أيها الملك ، بلغني أن رجلين أتياك يعيبان عليك دينك . قال: فذكرهما ، فأرسل إليهما ، فقال: يا نسطور ، أنت حكم بيني وبينهما ، ما قلت من شيء رضيت به ، قال: نعم ، أيها الملك ، هذا ميت قد مات في بني إسرائيل ، فمرهما يدعوان ربهما فيحييه لهما ، ففي ذلك آية بينة .
قال: فأتي بالميت فوضع عنده ، وقاما وتوضئا ودعوا ربهما ، فرد عليه روحه وتكلم ، [ ص: 44 ] فقال: أيها الملك [ إن ] في هذا لآية بينة ، ولكن مرهما بغير ذلك ، اجمع أهل مملكتك ، ثم قل لآلهتك ، فإن كنت تقدر على أن تضر بهما فليس أمرهما بشيء ، وإن كانا يقدران على أن يضرا آلهتك فأمرهما قوي .
فجمع الملك أهل مملكته ، ودخل البهو الذي فيه الآلهة ، فخر ساجدا هو ومن معه من أهل مملكته ، وخر نسطور ساجدا ، وقال: اللهم إني أسجد لك وأكيد هذه الآلهة أن تعبد من دونك ، ثم رفع الملك رأسه وقال: إن هذين يريدان أن يبدلا دينكم ، ويدعوا إلى إله غيركم ، فافقئوا أعينهم ، أو جدعوهما . فلم ترد عليه الآلهة شيئا ، فقام نسطور وأمر صاحبيه أن يحملا معهما فأسا ، فقال: أيها الملك ، قل لهذين: أتقدران على أن تضرا آلهتي . [ فقال لهما: أتقدران على أن تضرا آلهتنا ؟ ] قالا: خل بيننا وبينهم . ففعل ، فأقبلا عليها فكسراها ، فقال نسطور : أما أنا فقد آمنت برب هذين . وقال الملك: وأنا فقد آمنت برب هذين . وقال جميع الناس: آمنا برب هذين ، فقال نسطور لصاحبيه: هكذا الرفق .