فصل
قال مؤلف الكتاب: وقد روينا عن بعض ملوك الحيرة قصة مستطرفة يحسن ذكرها .
أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي ، قال: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن إبراهيم الحيري ، قالت: أخبرنا علي بن الحسن بن الفضل ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن محمد بن خالد الكاتب ، قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن المغيرة الجوهري ، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي ، قال: حدثني ، قال: حدثني عمي الزبير بن بكار مصعب بن عبد الله ، عن ، عن أبيه ، قال: كان الهيثم بن عدي المنصور أمير المؤمنين ضم الشرقي من قطامي إلى حين وضعه [ ص: 73 ] المهدي بالري ، العرب ومكارم أخلاقها ، ودراسة أخبارها وقراءة أشعارها ، فقال له فأمره أن يأخذه بالحفظ لأيام ذات ليلة: يا المهدي شرقي ، مرح قلبي [ الليلة ] بشيء يلهيه ، قال: نعم ، أصلح الله الأمير ، ذكروا أنه كان في ملوك الحيرة ملك له نديمان قد نزلا من قلبه منزلة نفيسة ، وكانا لا يفارقانه في لهوه وبأسه ، ويقظته ومنامه ، وكان لا يقطع أمرا دونهما ، ولا يصدر إلا عن رأيهما ، فغبر بذلك دهرا طويلا .
فبينما هو ذات ليلة في شغله ولهوه ، إذ غلب عليه الشراب فأثر فيه تأثيرا أزال عقله ، فدعا بسيفه فانتضاه وشد عليهما فقتلهما ، وغلبته عيناه فنام ، فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بما كان منه ، فأكب على الأرض عاضا عليها تأسفا عليهما وجزعا لفراقهما ، فامتنع من الطعام والشراب ، وتسلب عليهما ، ثم حلف ألا يشرب شرابا يخرج عقله ما عاش ، فواراهما وبنى على قبريهما الغرنين ، وسن أن لا يمر بهما أحد من الملك فمن دونه إلا سجد لهما . قال: وكان إذا سن الملك سنة توارثوها وأحيوا ذكرها ، وأوصى بها الآباء أعقابهم .
قال: فغبر الناس بذلك دهرا طويلا ، لا يمر بقبرهما أحد صغيرا ولا كبيرا إلا سجد لهما ، فصار ذلك سنة لازمة ، وأمرا كالشريعة والفريضة ، وحكم في من أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد أن يحكم في خصلتين يجاب إليهما كائنا ما كانتا .
قال: فمر يوما قصار ومعه كارة ثيابه ، وفيها مدقته ، فقال الموكلون بالقبر للقصار: اسجد! فأبى أن يفعل ، فقالوا: إنك مقتول إن لم تسجد ، فأبى ، فرفع إلى الملك وأخبر بقصته . فقال: ما منعك أن تسجد ؟ فقال: قد سجدت ، ولكن كذبوا [ ص: 74 ] علي ، قالوا الباطل . قال الملك: فاحتكم في خصلتين فإنك مجاب إليهما وإني قاتلك ، قال: ولا بد من قتلي بقول هؤلاء ؟ قال: لا بد من ذلك ، قال: فإني أحكم أن أضرب رقبة الملك بمدقتي هذه ، قال له الملك: يا جاهل ، لو حكمت بما يجدي على من تخلف كان أصلح لهم . قال: ما أحكم إلا بضربة لرقبة الملك . فقال الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم به هذا الجاهل ؟ قالوا: نرى أن هذه سنة أنت سننتها ، وأنت تعلم ما في نقض السنن من العار والبوار وعظيم الإثم ، ومتى نقضت سنة نقضت أخرى ثم أخرى ، ثم يكون ذلك لمن بعدك كما كان لك ، فتبطل السنن . قال: فاطلبوا لي القصار أن يحكم بما شاء ويعفيني من هذه ، فإني أجيبه إلى ذلك ولو بلغ شطر ملكي .
فطلبوا إليه ، قال: ما أحكم إلا بضربة في رقبته ، فلما رأى الملك ما عزم عليه القصار عقد له مجلسا عاما ، وأحضر القصار وأبدى مدقته فضرب بها عنق الملك ضربة أزاله [ عن موضعه ] ، فخر الملك مغشيا عليه ، فأقام ستة أشهر عليلا ، وبلغت به العلة حدا كان يجرع فيها الماء بالقطن .
فلما أفاق وتكلم ، وطعم وشرب سأل عن القصار ، فقيل له: إنه محبوس ، فأمر بإحضاره ، وقال: قد بقيت لك خصلة فاحكم فيها فإني قاتلك لا محالة . فقال القصار: فإذا كان ولا بد فإني أحكم أن أضرب الجانب الآخر ضربة أخرى ، فلما سمع الملك بذلك خر على وجهه من الجزع ، وقال: ذهبت والله إذا نفسي . ثم قال للقصار: ويلك دع عنك ما لا ينفعك ، فإنه لن ينفعك ما مضى ، فاحكم بغيره أنفذه لك كائنا ما كان ، قال: ما راحتي إلا في ضربة أخرى . فقال الملك لرؤسائه ووزرائه: ما ترون ؟ قالوا: تموت على السنة ، قال: ويلكم ، والله إنه إن ضرب الجانب الآخر لم أشرب الماء البارد أبدا ، لأني أعلم بما قد مر بي . قالوا: فما عندنا حيلة . [ ص: 75 ]
فلما رأى ذلك وما قد أشرف عليه ، قال للقصار: أخبرني ، ألم أكن قد سمعتك يوم جاء بك الشرط أنك قد سجدت ؟ قال: نعم . فوثب من مجلسه وقبل رأسه ، وقال: أشهد أنك أصدق من أولئك ، وأنهم كذبوا عليك . فانصرف راشدا ، فحمل كارته ومضى . فضحك حتى فحص برجله ، وقال: أحسنت والله ، ووصله وبره المهدي