الآية الخامسة عشرة قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=67وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } .
فيها مسألتان :
المسألة الأولى : في أمره لهم بالتفرق : وفي ذلك أقوال ; أظهرها أنه تقاة العين ، ولا خلاف بين الموحدين أن
nindex.php?page=treesubj&link=18717_18716العين حق ، وهو من أفعال الله موجود ، وعند جميع المتشرعين معلوم ، والبارئ تعالى هو الفاعل الخالق ، لا فاعل بالحقيقة ولا خالق إلا هو سبحانه وتعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } .
[ ص: 61 ] فليس في الوجود شيء من الفلك إلى الذرة ، ولا من دورانه إلى حركة واحدة إلا وهي موجودة بقدرته وعلمه ، ومصرفة بقضائه وحكمه ، فكل ما ترى بعينك أو تتوهمه بقلبك فهو صنع الله وخلقه ، إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون . ولو شاء لجعل الكل ابتداء من غير شيء ، ولكنه سبب الأسباب ، وركب المخلوقات بعضها على بعض ; فالجاهل إذا رأى موجودا بعد موجود ، أو موجودا مرتبطا في العيان بموجود ظن أن ذلك إلى الرابطة منسوب ، وعليها في الفعل محسوب ، وحاش لله ، بل الكل له ، والتدبير تدبيره ، والارتباط تقديره ، والأمر كله له . ومن أبدع ما خلق النفس ; ركبها في الجسم ، وجعلها معلومة للعبد ضرورة ، مجهولة الكيفية ، إن جاء ينكرها لم يقدر بما يظهر من تأثيرها على البدن وجودا وعدما ، وإن أراد المعرفة بها لم يستطع فإنه لا يعلم لأي شيء ينسبها ، ولا على أي معنى يقيسها ، وضعها الله المدبر في البدن على هذا الوضع ليميز الإيمان به ; إذ يعلم بأفعاله ضرورة ، ولا يوصل إلى كيفيته لعدمها فيه ، واستحالتها عليه ; وذلك هو معنى قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وفي أنفسكم أفلا تبصرون } على أحد التأويلات . ولها آثار يخلقها الباري في الشيء عند تعلقها به ، منها العين وهو معنى يحدث بقدرة الله على جري العادة في المعين ، إذا أعجبت منظرته العائن فيلفظ به ، إما إلى عرو ألم في المعين ، وإما إلى الفناء ، بحسب ما يقدره الله تعالى ; ولهذا المعنى
nindex.php?page=treesubj&link=18740نهي العائن عن التلفظ بالإعجاب ; لأنه إن لم يتكلم لم يضر اعتقاده عادة ، وكما أنفذ الباري من حكمه أن يخلق في بدن المعين ألما أو فناء ، فكذلك سبق من حكمته أن
nindex.php?page=treesubj&link=18740العائن إذا برك أسقط قوله بالبركة قوله بالإعجاب ، فإن لم يفعل سقط حكمه بالاغتسال .
وقد اعترض على ذلك الأطباء ، واعتقدوه من أكاذيب النقلة ، وهم محجوجون بما سطروا في كتبهم من أن الكون والفساد يجري على حكم الطبائع الأربع ، فإذا شذ شيء
[ ص: 62 ] قالوا : هذه خاصة خرجت من مجرى الطبيعة لا يعرف لها سبب ، وجمعوا من ذلك ما لا يحصى كثرة ; فهذا الذي نقله الرواة عن صاحب الشريعة خواص شرعية بحكم إلهية ، يشهد لصدقها وجودها كما وصفت ; فإنا نرى العائن إذا برك امتنع ضرره ، وإن اغتسل شفي معينه ، وهذا بالغ في فنه ، فلينظر على التمام في مواضعه من كتب الأصول وشرح الحديث ; وهذه النبذة تكفي في هذه العارضة .
المسألة الثالثة : قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=68ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } قالوا : هذا يدل على أنه حملهم على التفرق مخافة العين ، ثم قال : وهذا لا يرد القدر ، إنما هو أمر تأنس به النفوس ، وتتعلق به القلوب ; إذ خلقت ملاحظة للأسباب .
ويفترق اعتقاد الخلق ; فمن لحظ الأسباب من حيث إنها أسباب في العادة لا تفعل شيئا ، وإنما هي علامات ; فهو الموحد ، ومن نسبه إليها فعلا واعتقدها مدبرة فهو الجاهل أو الملحد . .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=67وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي أَمْرِهِ لَهُمْ بِالتَّفَرُّقِ : وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ ; أَظْهَرُهَا أَنَّهُ تُقَاةُ الْعَيْنِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18717_18716الْعَيْنَ حَقٌّ ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ مَوْجُودٌ ، وَعِنْدَ جَمِيعِ الْمُتَشَرِّعِينَ مَعْلُومٌ ، وَالْبَارِئُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ الْخَالِقُ ، لَا فَاعِلَ بِالْحَقِيقَةِ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } .
[ ص: 61 ] فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ مِنْ الْفَلَكِ إلَى الذَّرَّةِ ، وَلَا مِنْ دَوَرَانِهِ إلَى حَرَكَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ ، وَمُصَرَّفَةٌ بِقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ ، فَكُلُّ مَا تَرَى بِعَيْنِك أَوْ تَتَوَهَّمُهُ بِقَلْبِك فَهُوَ صُنْعُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ ، إذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ . وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْكُلَّ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ، وَلَكِنَّهُ سَبَّبَ الْأَسْبَابَ ، وَرَكَّبَ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ; فَالْجَاهِلُ إذَا رَأَى مَوْجُودًا بَعْدَ مَوْجُودٍ ، أَوْ مَوْجُودًا مُرْتَبِطًا فِي الْعِيَانِ بِمَوْجُودٍ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إلَى الرَّابِطَةِ مَنْسُوبٌ ، وَعَلَيْهَا فِي الْفِعْلِ مَحْسُوبٌ ، وَحَاشَ لِلَّهِ ، بَلْ الْكُلُّ لَهُ ، وَالتَّدْبِيرُ تَدْبِيرُهُ ، وَالِارْتِبَاطُ تَقْدِيرُهُ ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ . وَمِنْ أَبْدَعِ مَا خَلَقَ النَّفْسُ ; رَكَّبَهَا فِي الْجِسْمِ ، وَجَعَلَهَا مَعْلُومَةً لِلْعَبْدِ ضَرُورَةً ، مَجْهُولَةَ الْكَيْفِيَّةِ ، إنْ جَاءَ يُنْكِرُهَا لَمْ يَقْدِرْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ تَأْثِيرِهَا عَلَى الْبَدَنِ وُجُودًا وَعَدَمًا ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ بِهَا لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَنْسُبُهَا ، وَلَا عَلَى أَيْ مَعْنًى يَقِيسُهَا ، وَضَعَهَا اللَّهُ الْمُدَبِّرُ فِي الْبَدَنِ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ لِيُمَيِّزَ الْإِيمَانَ بِهِ ; إذْ يُعْلَمُ بِأَفْعَالِهِ ضَرُورَةً ، وَلَا يُوصَلُ إلَى كَيْفِيَّتِهِ لِعَدَمِهَا فِيهِ ، وَاسْتِحَالَتِهَا عَلَيْهِ ; وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ . وَلَهَا آثَارٌ يَخْلُقُهَا الْبَارِي فِي الشَّيْءِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ ، مِنْهَا الْعَيْنُ وَهُوَ مَعْنًى يَحْدُثُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ فِي الْمُعَيَّنِ ، إذَا أَعْجَبَتْ مَنْظَرَتُهُ الْعَائِنَ فَيَلْفِظُ بِهِ ، إمَّا إلَى عُرُوِّ أَلَمٍ فِي الْمُعَيَّنِ ، وَإِمَّا إلَى الْفَنَاءِ ، بِحَسَبِ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى
nindex.php?page=treesubj&link=18740نُهِيَ الْعَائِنُ عَنْ التَّلَفُّظِ بِالْإِعْجَابِ ; لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَمْ يَضُرَّ اعْتِقَادُهُ عَادَةً ، وَكَمَا أَنَفَذَ الْبَارِي مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَخْلُقَ فِي بَدَنِ الْمُعَيَّنِ أَلَمًا أَوْ فِنَاءً ، فَكَذَلِكَ سَبَقَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18740الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ أَسْقَطَ قَوْلُهُ بِالْبَرَكَةِ قَوْلَهُ بِالْإِعْجَابِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سَقَطَ حُكْمُهُ بِالِاغْتِسَالِ .
وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ ، وَاعْتَقَدُوهُ مِنْ أَكَاذِيبِ النَّقَلَةِ ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا سَطَّرُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْكَوْنَ وَالْفَسَادَ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ ، فَإِذَا شَذَّ شَيْءٌ
[ ص: 62 ] قَالُوا : هَذِهِ خَاصَّةٌ خَرَجَتْ مِنْ مَجْرَى الطَّبِيعَةِ لَا يُعْرَفُ لَهَا سَبَبٌ ، وَجَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ; فَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الرُّوَاةُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ خَوَاصُّ شَرْعِيَّةٌ بِحِكَمٍ إلَهِيَّةٍ ، يَشْهَدُ لِصِدْقِهَا وُجُودُهَا كَمَا وُصِفَتْ ; فَإِنَّا نَرَى الْعَائِنَ إذَا بَرَّكَ امْتَنَعَ ضَرَرُهُ ، وَإِنْ اغْتَسَلَ شُفِيَ مَعِينُهُ ، وَهَذَا بَالِغٌ فِي فَنِّهِ ، فَلْيُنْظَرْ عَلَى التَّمَامِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ; وَهَذِهِ النُّبْذَةُ تَكْفِي فِي هَذِهِ الْعَارِضَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=68مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } قَالُوا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّفَرُّقِ مَخَافَةَ الْعَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ ، إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَأْنَسُ بِهِ النُّفُوسُ ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُلُوبُ ; إذْ خُلِقَتْ مُلَاحِظَةً لِلْأَسْبَابِ .
وَيَفْتَرِقُ اعْتِقَادُ الْخَلْقِ ; فَمَنْ لَحَظَ الْأَسْبَابَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَسْبَابٌ فِي الْعَادَةِ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَاتٌ ; فَهُوَ الْمُوَحِّدُ ، وَمَنْ نَسَبَهُ إلَيْهَا فِعْلًا وَاعْتَقَدَهَا مُدَبَّرَةً فَهُوَ الْجَاهِلُ أَوْ الْمُلْحِدُ . .