فيه سبع وأربعون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم تقدم معنى اللغو في " البقرة " ومعنى في أيمانكم أي : من أيمانكم ، والأيمان جمع يمين ، وقيل : ويمين فعيل من اليمن وهو البركة ; سماها الله تعالى بذلك ; لأنها تحفظ الحقوق ، ويمين تذكر وتؤنث وتجمع أيمان وأيمن . قال زهير :
فتجمع أيمن منا ومنكم
الثانية : واختلف في سبب نزول هذه الآية ; فقال ابن عباس : سبب نزولها القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم ، حلفوا على ذلك فلما نزلت لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قالوا : كيف نصنع بأيماننا ؟ فنزلت هذه الآية . والمعنى على هذا القول ; إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها - أي : أسقطتم حكمها بالتكفير وكفرتم - فلا يؤاخذكم الله بذلك ; وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه ; أي : فلم تكفروا ; فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا . وهو دليل على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال ، وأن الشافعي ، كما أن تحريم الحلال لغو ، فتقتضي الآية على هذا القول أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغوا في أنه لا يحرم ; فقال : تحليل الحرام لغو مثل قول القائل : استحللت شرب الخمر لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم أي : بتحريم الحلال ، وروي عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف ، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل . فقال : أعشيتم ضيفي ؟ فقالوا : انتظرناك ; فقال : لا والله لا آكله الليلة ; فقال ضيفه : وما أنا بالذي يأكل ; وقال أيتامه : ونحن لا نأكل ; فلما رأى ذلك [ ص: 198 ] أكل وأكلوا . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له : أطعت الرحمن وعصيت الشيطان فنزلت الآية . أن
الثالثة : الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام : قسمان فيهما الكفارة ، وقسمان لا كفارة فيهما . خرج في سننه ، حدثنا الدارقطني عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا خلف بن هشام حدثنا عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله ، قال : الأيمان أربعة ، يمينان يكفران ويمينان لا يكفران ; فاليمينان اللذان يكفران فالرجل الذي ، والرجل يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل ، واليمينان اللذان لا يكفران فالرجل يقول والله لأفعلن كذا وكذا فلا يفعل ، والرجل يحلف والله ما فعلت كذا وكذا وقد فعل . قال يحلف لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله : وذكر ابن عبد البر في ( جامعه ) وذكره سفيان الثوري المروزي عنه أيضا ، قال سفيان : الأيمان أربعة ; يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل والله لا أفعل فيفعل ، أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل ; ويمينان لا يكفران وهو أن يقول الرجل والله ما فعلت وقد فعل ، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل ; قال المروزي : أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان ; وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف أهل العلم فيهما ; فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا ، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه فلا إثم عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وأصحاب الرأي وكذلك قال وسفيان الثوري أحمد وأبو عبيد ; وقال لا إثم عليه وعليه الكفارة . قال الشافعي المروزي : وليس قول في هذا بالقوي . قال : وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا وقد فعل متعمدا للكذب فهو آثم ولا كفارة عليه في قول عامة العلماء : الشافعي مالك وأصحاب الرأي وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد ، وكان يقول يكفر ; قال : وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي . قال الشافعي المروزي : أميل إلى قول مالك وأحمد . قال : فأما الذي اتفق عامة العلماء على أنها لغو فهو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله في حديثه ، وكلامه غير منعقد لليمين ولا مريدها . قال يمين اللغو : وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة . الشافعي
الرابعة : قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان مخفف القاف من العقد ، والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل ، وحكمي كعقد البيع ; قال الشاعر ( هو الحطيئة ) :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد ، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل ; أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم . فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي ، وقرئ [ ص: 199 ] " عاقدتم " بألف بعد العين على وزن فاعل وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر ، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه ، أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان ; لأن عاقد قريب من معنى عاهد فعدي بحرف الجر ، لما كان في معنى عاهد ، وعاهد يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر ; قال الله تعالى : ومن أوفى بما عاهد عليه الله وهذا كما عديت ناديتم إلى الصلاة بإلى ، وبابها أن تقول ناديت زيدا وناديناه من جانب الطور الأيمن لكن لما كانت بمعنى دعوت عدي بإلى ; قال الله تعالى : ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ثم اتسع في قوله تعالى : " عاقدتم عليه الأيمان " . فحذف حرف الجر ; فوصل الفعل إلى المفعول فصار عاقدتموه ، ثم حذفت الهاء كما حذفت من قوله تعالى : فاصدع بما تؤمر . أو يكون فاعل بمعنى فعل كما قال تعالى : قاتلهم الله أي : قتلهم ، وقد تأتي المفاعلة في كلام العرب من واحد بغير معنى ( فاعلت ) كقولهم : سافرت وظاهرت ، وقرئ " عقدتم " بتشديد القاف . قال مجاهد : معناه تعمدتم أي : قصدتم ، وروي عن ابن عمر أن التشديد يقتضي التكرار فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر ، وهذا يرده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . فذكر وجوب إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني . قال الكفارة في اليمين التي لم تتكرر أبو عبيد : التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة ، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا . وهذا قول خلاف الإجماع . وروى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين ، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة . قيل لنافع ما معنى وكد اليمين ؟ قال : أن يحلف على الشيء مرارا .الخامسة : اختلف في فالذي عليه الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها ، وقال اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا ؟ : هي يمين منعقدة ; لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله تعالى ، وفيها الكفارة ، والصحيح الأول . قال الشافعي ابن المنذر : وهذا قول مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من أهل الشام ، وهو قول الثوري وأهل العراق ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ، وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي من أهل الكوفة ; قال أبو بكر : وقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 200 ] فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها وقوله : من يدل على أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله ، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله . وفي المسألة قول ثان وهو أن يكفر وإن أثم وعمد الحلف بالله كاذبا ; هذا قول فليكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير . قال الشافعي أبو بكر : ولا نعلم خبرا يدل على هذا القول ، والكتاب والسنة دالان على القول الأول ; قال الله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس قال ابن عباس : هو الرجل فجعل الله له مخرجا في التكفير ، وأمره ألا يعتل بالله وليكفر عن يمينه ، والأخبار دالة على أن يحلف ألا يصل قرابته . قال اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين : الآية وردت بقسمين : لغو ومنعقدة ، وخرجت على الغالب في أيمان الناس فدع ما بعدها يكون مائة قسم فإنه لم تعلق عليه كفارة . ابن العربي
قلت : خرج عن البخاري عبد الله بن عمرو قال : ، وخرج جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : الإشراك بالله قال : ثم ماذا ؟ قال : عقوق الوالدين قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس قلت : وما اليمين الغموس ؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب مسلم عن أبي أمامة ، ومن حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال : وإن كان قضيبا من أراك ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن مسعود إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية ولم يذكر كفارة ، فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه ، ولقي الله وهو عنه راض ، ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه ; وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب ، واستحلال مال الغير ، [ ص: 201 ] والاستخفاف باليمين بالله تعالى ، والتهاون بها وتعظيم الدنيا ؟ فأهان ما عظمه الله ، وعظم ما حقره الله وحسبك ، ولهذا قيل : إنما من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان . فنزلت . سميت اليمين الغموس غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار
السادسة : الحالف بألا يفعل على بر ما لم يفعل ، فإن فعل حنث ولزمته الكفارة لوجود المخالفة منه ; وكذلك إذا قال إن فعلت ، وإذا حلف بأن ليفعلن فإنه في الحال على حنث لوجود المخالفة ، فإن فعل بر ، وكذلك إن قال إن لم أفعل .
السابعة : قول الحالف : لأفعلن ; وإن لم أفعل ، بمنزلة الأمر وقوله : لا أفعل ، وإن فعلت ، بمنزلة النهي . ففي الأول لا يبر حتى يفعل جميع المحلوف عليه : مثاله لآكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبر حتى يأكل جميعه : لأن كل جزء منه محلوف عليه . فإن قال : والله لآكلن - مطلقا - فإنه يبر بأقل جزء مما يقع عليه الاسم ; لإدخال ماهية الأكل في الوجود . وأما في النهي فإنه يحنث بأقل ما ينطلق عليه الاسم ; لأن مقتضاه ألا يدخل فرد من أفراد المنهي عنه في الوجود ; فإن حنث ; والدليل عليه أنا وجدنا الشارع غلظ جهة التحريم بأول الاسم في قوله تعالى : حلف ألا يدخل دارا فأدخل إحدى رجليه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ; فمن ، ولم يكتف في جهة التحليل بأول الاسم فقال : ( عقد على امرأة ولم يدخل بها حرمت على أبيه وابنه ) . لا حتى تذوقي عسيلته
الثامنة : ، كالرحمن والرحيم والسميع والعليم والحليم ، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا ، كعزته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته ; لأنها يمين بقديم غير مخلوق ، فكان الحالف بها كالحالف بالذات . روى المحلوف به هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى الترمذي وغيرهما والنسائي جبريل عليه السلام لما نظر إلى الجنة ورجع إلى الله تعالى قال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، وكذلك قال في النار : وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، وخرجا أيضا وغيرهما عن أن ابن عمر قال : وأجمع أهل العلم على أن من كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب وفى رواية لا ومصرف القلوب أن عليه الكفارة . قال حلف فقال : والله أو بالله أو تالله فحنث ابن المنذر : وكان مالك والشافعي وأبو [ ص: 202 ] عبيد وأبو ثور وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون : من ، وبه نقول ولا أعلم في ذلك خلافا . حلف باسم من أسماء الله وحنث فعليه الكفارة
قلت : قد نقل ( في باب ذكر الحلف بالقرآن ) ; وقال يعقوب : من فلا كفارة عليه . حلف بالرحمن فحنث
قلت : والرحمن من أسمائه سبحانه مجمع عليه ولا خلاف فيه .
التاسعة : واختلفوا في ; فقال وحق الله وعظمة الله وقدرة الله وعلم الله ولعمر الله وايم الله مالك : كلها أيمان تجب فيها الكفارة ، وقال : في وحق الله وجلال الله وعظمة الله وقدرة الله ، يمين إن نوى بها اليمين ، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين ; لأنه يحتمل وحق الله واجب وقدرته ماضية ، وقال في أمانة الله : ليست بيمين ، ولعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين ، وقال أصحاب الرأي إذا قال : وعظمة الله وعزة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله فحنث فعليه الكفارة ، وقال الشافعي الحسن في وحق الله : ليست بيمين ولا كفارة فيها ; وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه الرازي ، وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين ، وقال بعض أصحابه هي يمين ، وقال : ليست بيمين ، وكذا إذا قال : وعلم الله لم يكن يمينا في قول الطحاوي أبي حنيفة ، وخالفه صاحبه أبو يوسف فقال : يكون يمينا . قال : والذي أوقعه في ذلك أن العلم قد ينطلق على المعلوم وهو المحدث فلا يكون يمينا ، وذهل عن أن القدرة تنطلق على المقدور ، فكل كلام له في المقدور فهو حجتنا في المعلوم . قال ابن العربي ابن المنذر : وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في قصة وايم الله إن كان لخليقا للإمارة زيد وابنه أسامة ، وكان ابن عباس يقول : وايم الله ; وكذلك قال ابن عمر ، وقال إسحاق : إذا أراد بايم الله يمينا كانت يمينا بالإرادة وعقد القلب .
العاشرة : واختلفوا في ; فقال الحلف بالقرآن ابن مسعود : عليه بكل آية يمين ; وبه قال الحسن البصري ، وقال وابن المبارك أحمد : ما أعلم شيئا يدفعه ، وقال أبو عبيد : يكون يمينا واحدة ، وقال أبو حنيفة : لا كفارة عليه ، وكان قتادة يحلف بالمصحف ، وقال أحمد وإسحاق لا نكره ذلك .
الحادية عشرة لا تنعقد ، وقال اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته : إذا أحمد بن حنبل صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه ; لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله ، وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف بالنبي عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه ، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا [ ص: 203 ] بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا ، ومما يحقق ذلك ما رواه أنه أدرك أبو داود وغيرهما عن والنسائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة ثم ينتقض عليه بمن لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه ، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به . قال :
الثانية عشرة : روى الأئمة واللفظ لمسلم عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة فليقل لا إله إلا الله ومن فقال في حلفه باللات فليتصدق قال لصاحبه تعال أقامرك . وخرج من حلف منكم عن النسائي مصعب بن سعد عن أبيه قال : . قال العلماء : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة ، وتذكيرا من الغفلة ، وإتماما للنعمة ، وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم ، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها ، وكذا من قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات ; لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل . كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى ، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس ما قلت : وفي رواية قلت هجرا ; فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد
الثالثة عشرة : قال أبو حنيفة في أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله : إنها يمين تلزم فيها الكفارة ، ولا تلزم فيما إذا قال : واليهودية والنصرانية والنبي الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام والكعبة وإن كانت على صيغة الأيمان ، ومتمسكه ما رواه عن الدارقطني أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت : هي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ; وكل مال لها في سبيل الله ، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما ، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس فكلهم قال لها : أتريدين أن تكوني مثل وأم سلمة هاروت وماروت ؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما ، وخرج [ ص: 204 ] أيضا عنه قال : قالت مولاتي لأفرقن بينك وبين امرأتك ، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك ; قال : فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت : إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي ; فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها : إن هذا لا يحل لك ; قال : فرجعت إليها ; قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال : هاهنا هاروت وماروت ; فقالت : إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة . قال : فمم تأكلين ؟ قالت : وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية ; فقال : إن تهودت قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت ; قالت : فما تأمرني ؟ قال : تكفرين عن يمينك ، وتجمعين بين فتاك وفتاتك ، وأجمع العلماء على أن أنها يمين ، واختلفوا إذا الحالف إذا قال : أقسم بالله فإنها تكون أيمانا عند قال أقسم أو أشهد ليكونن كذا وكذا ولم يقل بالله مالك إذا أراد بالله ، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانا تكفر ، وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنخعي : هي أيمان في الموضعين ، وقال : لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى ; هذه رواية الشافعي المزني عنه ، وروى عنه الربيع مثل قول مالك .
الرابعة عشرة : ; فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين ; وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفا . إذا قال : أقسمت عليك لتفعلن
الخامسة عشرة : وبيته لا شيء عليه ; لأنها أيمان غير جائزة ، وحلف بغير الله تعالى . من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله : وخلق الله ورزقه
السادسة عشرة : إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء ، وقال ابن الماجشون : الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين . قال ابن القاسم : هي حل لليمين ; وقال : وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح ; وشرطه أن يكون متصلا منطوقا به لفظا ; لما رواه ابن العربي النسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث حلف فاستثنى فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه ، وقال من محمد بن المواز : ; قال : فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك ; لأن اليمين فرغت عارية من الاستثناء ، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي ; وهذا يرده الحديث من حلف فاستثنى ، والفاء للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم ، وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل ، وقال يكون الاستثناء مقترنا باليمين اعتقادا ولو بآخر حرف ابن خويز منداد : واختلف أصحابنا متى ، فقال بعض أصحابنا : [ ص: 205 ] يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له . وقال بعضهم : لا يصح حتى يسمع المحلوف له ، وقال بعضهم : يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له . قال استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه ابن خويز منداد : وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه ، فلأن الأيمان تعتبر بالنيات ، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه ، فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما ، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره ; وإنما قلنا لا يصح بحال فلأن ذلك حق للمحلوف له ، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم ، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه ، وجب ألا يكون له فيها حكم ، وقال ابن عباس : يدرك الاستثناء اليمين بعد سنة ; وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية ; فلما كان بعد عام نزل إلا من تاب ، وقال مجاهد : من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه ، وقال سعيد بن جبير : إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه ، وقال طاوس : له أن يستثني ما دام في مجلسه ، وقال قتادة : إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : يستثني ما دام في ذلك الأمر ، وقال عطاء : له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة .
السابعة عشرة : قال : أما ما تعلق به ابن العربي ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها ; لأن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله وفي لوحه ، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله ذلك فيها ، أما إنه يتركب عليها فرع حسن ; وهو أن الحالف إذا الأول إن شاء الله في قلبه ، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد ، ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف له ، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه ; وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة ; فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء ، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا . قال والله لا دخلت الدار ، وأنت طالق إن دخلت الدار ، واستثنى في يمينه
قلت : وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الأولى وأخفى الثانية ، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابا وأخفى الاستثناء ، والله أعلم . قال : وكان ابن العربي أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام ، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده ، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه ; فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل ، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل ، فقرأ فيها ما لو أن واحدا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم ، فحمد الله ورحل [ ص: 206 ] على دابة قماشه وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان ، وتقدمه الكري بالدابة وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته ، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر : أما سمعت العالم يقول - يعني الواعظ - إن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة ، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظللت فيه متفكرا ، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وما الذي يمنعه من أن يقول : قل إن شاء الله ! فلما سمعه يقول ذلك قال : بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة ؟ لا أفعله أبدا ; واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات .
الثامنة عشرة : الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى ، ولا خلاف في هذا ، واختلفوا في ; فقال الاستثناء في اليمين بغير الله الشافعي : الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى : قال وأبو حنيفة أبو عمر : ما أجمعوا عليه فهو الحق ، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : فكفارته اختلف العلماء في هل تجزئ أم لا ؟ - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال : تقديم الكفارة على الحنث
أحدها : يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجزئ بوجه ، وهي رواية أشهب عن مالك ; وجه الجواز ما رواه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو موسى الأشعري خرجه وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خيرأبو داود ; ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة ; لقوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها ; وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث . ووجه المنع ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : زاد من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها ; وكان معنى قوله تعالى : النسائي إذا حلفتم أي : إذا حلفتم وحنثتم ، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات ، وقال : تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ، ولا تجزئ بالصوم ; لأن عمل البدن لا يقوم قبل وقته ، ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة ; وهو القول الثالث . الشافعي
[ ص: 207 ] الموفية عشرين : ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها ، وعقب عند عدمها بالصيام ، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم ، ولا خلاف في أن ; قال كفارة اليمين على التخيير : والذي عندي أنها تكون بحسب الحال ; فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل ; لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم ، وكذلك الكسوة تليه ، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم . ابن العربي
الحادية والعشرون : إطعام عشرة مساكين لا بد عندنا وعند قوله تعالى : من الشافعي ، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه ; لقوله تعالى : تمليك المساكين ما يخرج لهم وهو يطعم ولا يطعم وفي الحديث ; ولأنه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك ; أصله الكسوة ، وقال أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس أبو حنيفة : لو غداهم وعشاهم جاز ; وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا ; قال ابن الماجشون : إن التمكين من الطعام إطعام ، قال الله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فبأي وجه أطعمه دخل في الآية .
الثانية والعشرون : من أوسط ما تطعمون أهليكم قد تقدم في " البقرة " أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار ، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصف بين طرفين ، ومنه الحديث قوله تعالى : خير الأمور أوسطها ، وخرج ابن ماجه ; حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة ; فنزلت : من أوسط ما تطعمون أهليكم ، وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين .
الثالثة والعشرون : الإطعام عند مالك ، إن كان مد لكل واحد من المساكين العشرة بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ; وبه قال الشافعي وأهل المدينة . قال سليمان بن يسار : أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر ، ورأوا ذلك مجزئا عنهم ; وهو قول ابن عمر وابن عباس وبه قال وزيد بن ثابت عطاء بن أبي رباح ، واختلف إذا كان بغيرها ; فقال ابن القاسم : يجزئه المد بكل مكان ، وقال ابن المواز : أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف ، وأشهب بمد وثلث ; قال : وإن مدا وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء ، [ ص: 208 ] وقال أبو حنيفة : يخرج من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير صاعا ; على حديث عن أبيه قال : عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، وبه أخذ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر ، أو صاع من شعير عن كل رأس ، أو صاع بر بين اثنين سفيان ، وروي عن وابن المبارك علي وعمر وابن عمر ، رضي الله عنهم وبه قال وعائشة ، وهو قول عامة فقهاء سعيد بن المسيب العراق ; لما رواه ابن عباس قال : ; خرجه كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك ، فمن لم يجد فنصف صاع من بر من أوسط ما تطعمون أهليكم ابن ماجه في سننه .
الرابعة والعشرون : ، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال لا يجوز أن يطعم غنيا ولا ذا رحم تلزمه نفقته مالك : لا يعجبني أن يطعمه ، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه ، فإن أطعم غنيا جاهلا بغناه ففي " المدونة " وغير كتاب لا يجزئ ، وفي " الأسدية " أنه يجزئ .
الخامسة والعشرون : ; قال ويخرج الرجل مما يأكل : وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا : إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس ; وهذا سهو بين فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه ; وقد قال صلى الله عليه وسلم : صاعا من طعام صاعا من شعير ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل ; وهذا مما لا خفاء فيه . ابن العربي
السادسة والعشرون : قال مالك : إن ، وقال غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه : لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة ; لأنهم يختلفون في الأكل ، ولكن يعطي كل مسكين مدا ، وروي عن الشافعي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة ; يعني غداء دون عشاء ، أو عشاء دون غداء ، حتى يغديهم ويعشيهم ; قال أبو عمر : وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار .
السابعة والعشرون : قال ابن حبيب : قفارا بل يعطي معه إدامه زيتا أو كشكا أو كامخا أو ما تيسر ; قال ولا يجزئ الخبز : هذه زيادة ما أراها واجبة أما إنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر - نعم - واللحم ، وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه ; لأن اللفظ لا يتضمنه . ابن العربي
قلت : نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل ، وما كان في معناه من [ ص: 209 ] الجبن والكشك كما قال ابن حبيب ، والله أعلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال نعم الإدام الخل : إن أطعمهم خبزا ولحما ، أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه ، وهو قول الحسن البصري ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول ، وروي ذلك عن أنس بن مالك .
الثامنة والعشرون : لا يجوز عندنا ، وبه قال دفع الكفارة إلى مسكين واحد ، وأصحاب الشافعي أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة ، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة ; فمنهم من أجاز ذلك ، وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولا ; فإن اسم المسكين يتناوله ، وقال آخرون : يجوز دفع ذلك إليه في أيام ، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين ، وقال أبو حنيفة : يجزئه ذلك ; لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم ، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه ، ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم ، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا ، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه ، فيغفر للمكفر بسبب ذلك ، والله أعلم .
التاسعة والعشرون : قوله تعالى : فكفارته الضمير على الصناعة النحوية عائدا على ( ما ) ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون مصدرية . أو يعود على إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه .
الموفية ثلاثين : قوله تعالى : أهليكم هو جمع أهل على السلامة ، وقرأ : ( أهاليكم ) وهذا جمع مكسر ; قال جعفر بن محمد الصادق أبو الفتح : أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات ; والعرب تقول : أهل وأهلة . قال الشاعر ( هو أبو الطمحان القيني ) :
وأهلة ود قد تبريت ودهم وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي
الحادية والثلاثون : قوله تعالى : أو كسوتهم قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة . وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني : ( أو كإسوتهم ) يعني كإسوة أهلك ، والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد ; فأما في حق النساء فأقل [ ص: 210 ] ما يجزئهن فيه الصلاة ، وهو الدرع والخمار ، وهكذا حكم الصغار . قال ابن القاسم في ( العتبية ) : تكسى الصغيرة كسوة كبيرة ، والصغير كسوة كبير ، قياسا على الطعام ، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري : أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد ; وفي رواية والأوزاعي أبي الفرج عن مالك ، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة : ما يستر جميع البدن ; بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك . وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : نعم الثوب التبان ; أسنده الطبري . وقال تجزئ عمامة يلف بها رأسه ، وهو قول الحكم بن عتيبة الثوري . قال : وما كان أحرصني على أن يقال : إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الرجوع فأقول به ، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه ; والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه . ابن العربي
قلت : قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة ; فقال بعضهم : لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيا به كالكساء والملحفة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : ، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء ، وروي عن الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار أنه أمر أن يكسي عنه ثوبين ثوبين ; وبه قال أبي موسى الأشعري الحسن وهذا معنى ما اختاره وابن سيرين والله أعلم . ابن العربي
الثانية والثلاثون : لا تجزئ ; وبه قال القيمة عن الطعام والكسوة . وقال الشافعي أبو حنيفة : تجزئ ; وهو يقول : تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة ! قال : وعمدته أن الغرض سد الخلة ، ورفع الحاجة ; فالقيمة تجزئ فيه . قلنا : إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة ؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة ، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ؟ ! ابن العربي
الثالثة والثلاثون : إذا لم يجزه ، وقال دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد أبو حنيفة : يجزئه ; لأنه مسكين يتناوله لفظ المسكنة ، ويشتمل عليه عموم الآية . قلنا : هذا يخصه بأن يقول : جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر ; أصله الزكاة ; وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد ; فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي ، والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني .
الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : أو تحرير رقبة التحرير الإخراج من الرق ; [ ص: 211 ] ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها ، ومنه قول أم مريم : إني نذرت لك ما في بطني محررا أي : من شغوب الدنيا ونحوها ، ومن ذلك قول : الفرزدق بن غالب
أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
الخامسة والثلاثون : لا يجوز عندنا إلا ، ولا عتق إلى أجل ، ولا كتابة ولا تدبير ، ولا تكون أم ولد ولا من يعتق عليه إذا ملكه ، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب ، سليمة غير معيبة ; خلافا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره ، ولا عتاقة بعضها لداود في تجويزه إعتاق المعيبة . وقال أبو حنيفة : يجوز ; لأن مطلق اللفظ يقتضيها . ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة ; وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ . وإنما قلنا : لا يكون فيها شرك ، لقوله تعالى : فتحرير رقبة وبعض الرقبة ليس برقبة . وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق ; لأن التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم . وإنما قلنا : سليمة ; لقوله تعالى : عتق الكافرة فتحرير رقبة والإطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا نص ، وقد روي في الأعور قولان في المذهب ، وكذلك في الأصم والخصي . ما من مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج
السادسة والثلاثون : من كانت الكفارة باقية عليه ، بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء ، أو ليشتري به رقبة فتلف ، لم يكن عليه غيره لامتثال الأمر . أخرجه مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف
السابعة والثلاثون : اختلفوا في ; فقال الكفارة إذا مات الحالف الشافعي : كفارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت ، وقال وأبو ثور أبو حنيفة : تكون في الثلث ; وكذلك قال مالك إن أوصى بها .
الثامنة والثلاثون : من ، أو حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر ، أو حنث وهو معسر فلم [ ص: 212 ] يكفر حتى أيسر ، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث . حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق
التاسعة والثلاثون : روى مسلم عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله هو المضي على مقتضاه ، وإن لزم من ذلك حرج ومشقة ، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة ; فإن كان شيء من ذلك فالأولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة ، ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى : اللجاج في اليمين ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وقال عليه السلام : أي الذي هو أكثر خيرا . من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير
الموفية أربعين : روى مسلم عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة قال العلماء : معناه أن من اليمين على نية المستحلف لم تنفعه نيته ، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين ، وهو معنى قوله في الحديث الآخر : وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره ، وروي يصدقك به صاحبك خرجه يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك مسلم أيضا . قال مالك : من حلف لطالبه في حق له عليه ، واستثنى في يمينه ، أو حرك لسانه أو شفتيه ، أو تكلم به ، لم ينفعه استثناؤه ذلك ; لأن النية نية المحلوف له ; لأن اليمين حق له ، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف ; لأنها مستوفاة منه . هذا تحصيل مذهبه وقوله .
الحادية والأربعون : قوله تعالى : فمن لم يجد معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة ; من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع ; فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام ، والعدم يكون بوجهين إما بمغيب المال عنه أو عدمه ; فالأول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم ، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه ; فقيل : ينتظر إلى بلده ; قال : وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام ; لأن الوجوب قد تقرر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر ; فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة ; لقوله تعالى : ابن العربي فمن لم يجد ، وقيل : من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد ، وقيل : هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته ، وليس عنده فضل يطعمه ; [ ص: 213 ] وبه قال واختاره الشافعي الطبري ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم ; قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين : إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع ، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه . وقال أبو حنيفة : إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد ، وقال أحمد وإسحاق : إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه ، وقال أبو عبيد : إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله ، وكسوة تكون لكفايتهم ، ثم يكون بعد ذلك مالكا لقدر الكفارة فهو عندنا واجد . قال ابن المنذر : قول أبي عبيد حسن .
الثانية والأربعون : فصيام ثلاثة أيام قرأها قوله تعالى : ابن مسعود ( متتابعات ) فيقيد بها المطلق ; وبه قال أبو حنيفة ، وهو أحد قولي والثوري واختاره الشافعي المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار ، واعتبارا بقراءة عبد الله ، وقال مالك في قوله الآخر : يجزئه التفريق ; لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما . والشافعي
الثالثة والأربعون : من فقال أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيا مالك : عليه القضاء ، وقال : لا قضاء عليه ; على ما تقدم بيانه في الصيام في " البقرة " . الشافعي
الرابعة والأربعون : هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق . واختلفوا فيما يجب منها على ; فكان العبد إذا حنث سفيان الثوري وأصحاب الرأي يقولون : ليس عليه إلا الصوم ، لا يجزئه غير ذلك ; واختلف فيه قول والشافعي مالك ، فحكى عنه ابن نافع أنه قال : لا يكفر العبد بالعتق ; لأنه لا يكون له الولاء ، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده ; وأصوب ذلك أن يصوم .
وحكى ابن القاسم عنه أنه قال : إن أطعم أو كسا بإذن السيد فما هو بالبين ، وفي قلبي منه شيء .
الخامسة والأربعون : قوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم أي : تغطية أيمانكم ; وكفرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدم ، ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى ، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف في تركه ، وترجم ابن ماجه في سننه ( من قال كفارتها تركها ) حدثنا علي بن محمد حدثنا عن عبد الله بن نمير حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأسند عن من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصح فبره ألا يتم على ذلك عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها
[ ص: 214 ] قلت : ويعتضد هذا الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام ، وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه ، وحلف الضيف - أو الأضياف - ألا يطعمه أو لا يطعموه حتى يطعمه ، فقال أبو بكر : كان هذا من الشيطان ; فدعا بالطعام فأكل وأكلوا . خرجه بقصة ، وزاد البخاري مسلم قال : فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، بروا وحنثت ; قال : فأخبره ; قال : بل أنت أبرهم وأخيرهم قال : ولم تبلغني كفارة .
السادسة والأربعون : واختلفوا في ; فقال كفارة غير اليمين بالله عز وجل مالك : من أخرج ثلثه ، وقال حلف بصدقة ماله : عليه كفارة يمين ; وبه قال الشافعي إسحاق ، وروي عن وأبو ثور عمر رضي الله عنهما ، وقال وعائشة الشعبي وعطاء : لا شيء عليه ، وأما وطاوس مكة فعليه أن يفي به عند اليمين بالمشي إلى مالك ، وتجزئه كفارة يمين عند وأبي حنيفة الشافعي وأحمد بن حنبل ، وقال وأبي ثور ابن المسيب : لا شيء عليه ; قال والقاسم بن محمد : أكثر أهل العلم ابن عبد البر بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل ; وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين ، وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبد الصمد ، وذكر له أنه قول الليث بن سعد ، والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه ; وهو قول مالك . وأما فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول الحالف بالعتق مالك وغيرهما ، وروي عن والشافعي ابن عمر وابن عباس أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق - وقال وعائشة عطاء : يتصدق بشيء . قال المهدوي : وأجمع من يعتمد على قوله من العلماء على أن . الطلاق لازم لمن حلف به وحنث
السابعة والأربعون : واحفظوا أيمانكم أي : بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم ، وقيل : أي : بترك الحلف ; فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات . لعلكم تشكرون تقدم معنى الشكر و ( لعل ) في البقرة ، والحمد لله . قوله تعالى :