قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون
فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : أحل لكم صيد البحر هذا حكم بتحليل صيد البحر ، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد ، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب ، وقد مضى القول في البحر في " البقرة " والحمد لله . و ( متاعا ) نصب على المصدر أي : متعتم به متاعا . قوله تعالى :
الثانية : قوله تعالى : و ( طعامه ) الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم ، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده ، والبر وحده ، والتمر وحده ، واللبن وحده ، وقد يطلق على النوم كما تقدم ; وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه ; أسند عن الدارقطني ابن عباس في قول الله عز وجل : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة الآية . صيده ما [ ص: 242 ] صيد وطعامه ما لفظ البحر ، وروي عن مثله ; وهو قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، وروي عن أبي هريرة ابن عباس ميتته وهو في ذلك المعنى ، وروي عنه أنه قال : طعامه ما ملح منه وبقي ; وقاله معه جماعة ، وقال قوم : طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره .
الثالثة : قال أبو حنيفة : لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك ، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية عنه ، وكره أبي إسحاق الفزاري الحسن . وروي عن أكل الطافي من السمك علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كرهه ، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح ; ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن عن جعفر بن محمد علي قال : الجراد والحيتان ذكي ; فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر أنه كرهه ، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : وجابر بن زيد حرمت عليكم الميتة ، وبما رواه أبو داود عن والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جابر بن عبد الله . قال كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه : تفرد به الدارقطني عبد العزيز بن عبيد الله عن عن وهب بن كيسان جابر ، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به . وروى عن سفيان الثوري عن أبي الزبير جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ; قال : لم يسنده عن الدارقطني الثوري غير وخالفه أبي أحمد الزبيري والعدنيان ، وكيع وعبد الرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم ; رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب ، وكذلك رواه أيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر ، وابن جريج وزهير وغيرهم عن وحماد بن سلمة موقوفا قال أبي الزبير أبو داود : وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن عن أبي الزبير جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وروي عن الدارقطني إسماعيل بن أمية عن وابن أبي ذئب مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، رفعه أبي الزبير يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره ، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي في رواية والثوري الأشجعي : يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب ، وسائر ما في البحر من الحيوان ، وسواء اصطيد أو وجد ميتا ، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر : وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته جابر في الحوت [ ص: 243 ] الذي يقال له : ( العنبر ) وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان ، وفيه : المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال : هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ; لفظ فلما قدمنا مسلم وأسند عن الدارقطني ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها ، وأسند عنه أيضا أنه قال : أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء ، وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه ، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال : أطيبة هي لم تتغير ؟ قالوا : نعم قال : فكلوها وارفعوا نصيبي منها ; وكان صائما ، وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال : أهدوها إلي ، وقال عمر بن الخطاب : الحوت ذكي والجراد ذكي كله ; رواه عنه فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية ، وهو حجة للجمهور ; إلا أن الدارقطني كان يكره مالكا من جهة اسمه ولم يحرمه وقال : أنتم تقولون خنزيرا ! وقال خنزير الماء : لا بأس بخنزير الماء وقال الشافعي الليث : ليس بميتة البحر بأس . قال : وكذلك . قال : ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء . كلب الماء وفرس الماء
الرابعة : اختلف العلماء في أم لا ؟ فقال الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم مالك وأبو مجلز وعطاء وغيرهم : كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر ، إن قتله المحرم وداه ، وزاد وسعيد بن جبير أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان . الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن في أنه لا يجوز الشافعي ، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك ، والصحيح أكل ذلك كله ; لأنه نص على الخنزير في جواز أكله ، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل ، ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين ، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب . قال أكل الضفدع ابن عطية : ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر ، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في " المدونة " فإنه قال : الضفادع من صيد البحر ، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه ، وهو أنه يراعى أكثر عيش الحيوان ; سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر ؟ فقال : حيث يكون أكثر فهو منه ، وحيث يفرخ فهو منه ; وهو قول أبي حنيفة ، والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب . قال ابن [ ص: 244 ] العربي : الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه ; لأنه تعارض فيه دليلان ، دليل تحليل ودليل تحريم ، فيغلب دليل التحريم احتياطا ، والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : وللسيارة فيه قولان : أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم ، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام ، كما أحله لمن سافر . الثاني : أن السيارة هم الذين يركبونه ، كما جاء في حديث مالك : والنسائي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته أفنتوضأ بماء البحر قال أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا قاله علماؤنا : فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم ( نعم ) لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش ; لأن الجواب مرتبط بالسؤال ، فكان يكون محالا عليه ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة ، وبيان الشرع فقال : ابن العربي . هو الطهور ماؤه الحل ميتته
قلت : وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم ، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع ، إلا ما نص بالتخصيص عليه ، كقوله لأبي بردة في العناق : . ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك
السادسة : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما الأولى : التحريم ليس صفة للأعيان ، إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله : قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر أي : فعل الصيد ، وهو المنع من الاصطياد ، أو يكون الصيد بمعنى المصيد ، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم ، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك ; لعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي .
السابعة : اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقال مالك وأصحابهما والشافعي وأحمد وروي عن إسحاق ، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان : إنه ، ولا من أجله ، لما رواه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له الترمذي والنسائي عن والدارقطني جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم أبو عيسى : هذا أحسن حديث في الباب ; وقال : النسائي ليس بالقوي في الحديث ، وإن [ ص: 245 ] كان قد روى عنه عمرو بن أبي عمرو مالك . فإن ، وبه قال أكل من صيد صيد من أجله فداه الحسن بن صالح ، واختلف قول والأوزاعي مالك فيما صيد لمحرم بعينه ، والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم : كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي ; وبه قالت طائفة من أهل المدينة ، وروي عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فحرم صيده وقتله على المحرمين ، دون ما صاده غيرهم . واحتجوا بحديث البهزي - واسمه زيد بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق ، من حديث مالك وغيره . وبحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أبي قتادة ، وهو قول إنما هي طعمة أطعمكموها الله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه ، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء ، وروي عن وسعيد بن جبير علي بن أبي طالب وابن عباس أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال ، سواء صيد من أجله أو لم يصد ; لعموم قوله تعالى : وابن عمر وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما . قال ابن عباس : هي مبهمة وبه قال طاوس وروي ذلك عن وجابر بن زيد أبو الشعثاء الثوري وبه قال إسحاق . واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الليثي ، أنه بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ; قال : فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم خرجه الأئمة واللفظ أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا ، وهو لمالك . قال أبو عمر : وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء عنه ، وطاوس الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش ; وقال أن سعيد بن جبير في حديثه : ( عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت ) ; وقال مقسم في حديثه : ( رجل حمار وحش ) . وقال عطاء في حديثه : أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال : إنا حرم وقال طاوس في حديثه : عضدا من لحم صيد ; حدث به إسماعيل عن عن علي بن المديني ، يحيى بن سعيد عن ، عن ابن جريج الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن . قال زيد بن أرقم إسماعيل : سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من [ ص: 246 ] أجل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لكان أكله جائزا ; قال سليمان : ومما يدل على أنه صيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث : فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت . قال إسماعيل : إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل ; فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل ; لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه ; قال إسماعيل : وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى .
الثامنة : إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك : إن كان في يده فعليه إرساله ، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله ، وهو قول أبي حنيفة ، وقال وأحمد بن حنبل في أحد قوليه : سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله ، وبه قال الشافعي أبو ثور ، وروي عن مجاهد وعبد الله بن الحارث مثله وروي عن مالك ، وقال ابن أبي ليلى والثوري في القول الآخر : عليه أن يرسله ، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن ، وجه القول بإرساله قوله تعالى : والشافعي وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وهذا عام في الملك والتصرف كله ، ووجه القول بإمساكه : أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه ، أصله النكاح .
التاسعة : فإن جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه ، وأكل لحمه ، وقال صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم أبو حنيفة : لا يجوز . ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال ، كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها .
العاشرة : إذا اختلف فيه ، فقال دل المحرم حلا على صيد فقتله الحلال مالك والشافعي : لا شيء عليه ، وهو قول وأبو ثور ابن الماجشون ، وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين : عليه الجزاء ; لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض ; فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة .
الحادية عشرة : واختلفوا في ; فذهب الكوفيون المحرم إذا دل محرما آخر وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاء ، وقال مالك والشافعي : الجزاء على المحرم القاتل ; لقوله تعالى : وأبو ثور ومن قتله منكم متعمدا فعلق وجوب الجزاء بالقتل ، فدل على انتفائه بغيره ; ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في [ ص: 247 ] الحرم ، وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث : أبي قتادة وهذا يدل على وجوب الجزاء ، والأول أصح ، والله أعلم . هل أشرتم أو أعنتم ؟
الثانية عشرة : إذا ففيه الجزاء ; لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين : الجزاء نظرا إلى الأصل ، ونفيه نظرا إلى الفرع . كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد
الثالثة عشرة : قوله تعالى : واتقوا الله الذي إليه تحشرون تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم ، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ، والله أعلم .