قوله تعالى
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق فيه خمس مسائل قوله تعالى
[ ص: 68 ] الأولى : روى أبو داود قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله عز وجل : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الآية . وروى عن النسائي ابن عباس في قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قال : خاصمهم المشركون فقالوا : ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه ; فقال الله سبحانه لهم : لا تأكلوا ; فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها . وتنشأ هنا مسألة أصولية ، وهي :
الثانية : وذلك أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا ; فقال علماؤنا : لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم . أما ما ذكره جوابا لسؤال ففيه تفصيل ، على ما هو معروف في أصول الفقه ; إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم . فقوله : لا تأكلوا ظاهر في تناول الميتة ، ويدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله ، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقوله : وما أهل به لغير الله . وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح ، وعند إرسال الصيد . اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة ، وهي المسألة :
الثالثة : القول الأول : إن تركها سهوا أكلا جميعا ، وهو قول إسحاق ورواية عن . فإن تركها عمدا لم يؤكلا ; وقاله في الكتاب أحمد بن حنبل مالك وابن القاسم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ ، وقاله سعيد بن جبير ، واختاره وعطاء النحاس وقال : هذا أحسن ، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا .
الثاني : إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما . وهو قول الشافعي والحسن ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة . وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال : تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا . وروي عن ربيعة أيضا . قال عبد الوهاب : التسمية سنة ; فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه . الثالث : إن تركها عامدا أو ساهيا حرم أكلها ; قاله محمد بن سيرين وعبد الله بن [ ص: 69 ] عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن زيد الخطمي ; وبه قال والشعبي أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية . الرابع : إن تركها عامدا كره أكلها ; قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا . الخامس : قال أشهب : تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا ، وقال نحوه الطبري .
أدلة : قال الله تعالى : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقال : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فبين الحالين وأوضح الحكمين . فقوله : لا تأكلوا نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة ; لتناوله في بعض مقتضياته الحرام المحض ، ولا يجوز أن يتبعض ، أي يراد به التحريم والكراهة معا ; وهذا من نفيس الأصول . وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه ; فالشرط ليس بواجب عليه . وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال : إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول : قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر بلساني ; فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جل جلاله وعظمه . أو يقول : إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة ، إذ ليست بقربة ; فهذا أيضا يجزئه . أو يقول : لا أسمي ، وأي قدر للتسمية ; فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته . قال : وأعجب لرأس المحققين ابن العربي إمام الحرمين حيث قال : ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب ، والذبح ليس بقربة . وهذا يعارض القرآن والسنة ; قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح : . فإن قيل : المراد بذكر اسم الله بالقلب ; لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب ، وقد روى ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل : البراء بن عازب اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم . قلنا : الذكر باللسان وبالقلب ، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان ، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة ، واشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك : هل يسمي الله تعالى إذا توضأ فقال : أيريد أن يذبح . وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله : اسم [ ص: 70 ] الله على قلب كل مؤمن فحديث ضعيف . وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة ; . أخرجه لقوله عليه السلام لأناس سألوه ، قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سموا الله عليه وكلوا عن الدارقطني عائشة مرسلا عن ومالك عن أبيه ، لم يختلف عليه في إرساله . وتأوله بأن قال في آخره : وذلك في أول الإسلام . يريد قبل أن ينزل عليه : هشام بن عروة ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه . قال أبو عمر : وهذا ضعيف ، وفي الحديث نفسه ما يرده ، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل ; فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه . ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة ، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه نزل في سورة " الأنعام " بمكة .
وإنه لفسق أي لمعصية ; عن ابن عباس . والفسق : الخروج . وقد تقدم .
الرابعة : قوله تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل . روى أبو داود عن ابن عباس في قوله : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه ، وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قال عكرمة : عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس . وقال ابن عباس : بل الشياطين : الجن ، وكفرة الجن أولياء وعبد الله بن كثير قريش . وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قيل له : إن المختار يقول : يوحى إلي ، فقال : صدق ، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم .
وقوله : ليجادلوكم . يريد قولهم : ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه . والمجادلة : دفع القول على طريق الحجة بالقوة ; مأخوذ من الأجدل ، [ ص: 71 ] طائر قوي . وقيل : هو مأخوذ من الجدالة ، وهي الأرض ; فكأنه يغلبه بالحجة ويقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض . وقيل : هو مأخوذ من الجدل ، وهو شدة الفتل ; فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها ، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل .
الخامسة قوله تعالى : وإن أطعتموهم أي في تحليل الميتة
إنكم لمشركون فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا . وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا ; فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك . قال : إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد ; فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص ; فافهموه . وقد مضى في المائدة . ابن العربي