فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى ما منعك ما في موضع رفع بالابتداء ; أي أي شيء منعك . وهذا سؤال توبيخ .
ألا تسجد في موضع نصب ، أي من أن تسجد . و لا زائدة . وفي " ص " ما منعك أن تسجد وقال الشاعر :
أبى جوده لا البخل فاستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود نائله
أراد أبى جوده البخل ، فزاد " لا " . وقيل : ليست بزائدة ; فإن المنع فيه طرف من القول والدعاء ، فكأنه قال : من قال لك ألا تسجد ؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد ؟ كما تقول : قد قلت [ ص: 154 ] لك ألا تفعل كذا . وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد . قال العلماء : الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد ; وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك . وكان أمره من قبل خلق آدم ; يقول الله تعالى : إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . فكأنه دخله أمر عظيم من قوله فقعوا له ساجدين . فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له ; فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت . فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا ، وبقي هو قائما بين أظهرهم ; فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره . فقال الله تعالى : ما منعك ألا تسجد أي ما منعك من الانقياد لأمري ; فأخرج سر ضميره فقال : أنا خير منه .الثانية قوله تعالى إذ أمرتك يدل على ما يقوله الفقهاء من أن ; لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة : الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة اسجدوا لآدم وهذا بين .
الثالثة قوله تعالى قال أنا خير منه أي منعني من السجود فضلي عليه ; فهذا من إبليس جواب على المعنى . كما تقول : لمن هذه الدار ؟ فيقول المخاطب : مالكها زيد . فليس هذا عين الجواب ، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب .
خلقتني من نار وخلقته من طين فرأى أن النار أشرف من الطين ; لعلوها وصعودها وخفتها ، ولأنها جوهر مضيء . قال ابن عباس والحسن : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس . فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس . قال وابن سيرين ابن سيرين : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس . وقالت الحكماء : أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين ، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق . فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة :
أحدها : أن من جوهر الطين الرزانة والسكون ، والوقار والأناة والحلم ، والحياء ، والصبر . وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع ، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية . ومن جوهر النار الخفة ، والطيش ، والحدة ، والارتفاع ، والاضطراب . وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ; فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء ; قاله القفال .
الثاني : أن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر ، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا .
[ ص: 155 ] الثالث : أن النار سبب العذاب ، وهي عذاب الله لأعدائه ; وليس التراب سببا للعذاب .
الرابع : أن الطين مستغن عن النار ، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب .
قلت : ويحتمل قولا خامسا ، وهو أن التراب مسجد وطهور ; كما جاء في صحيح الحديث . والنار تخويف وعذاب ; كما قال تعالى : ذلك يخوف الله به عباده . وقال ابن عباس : كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه ، وهو أول من قاس برأيه . والقياس في مخالفة النص مردود .
الرابعة : واختلف الناس في إلى قائل به ، وراد له ; فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون ، وجمهور من بعدهم ، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا ، وهو الصحيح . وذهب القياس القفال من الشافعية إلى وجوب التعبد به عقلا . وذهب وأبو الحسن البصري النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا ; ورده بعض أهل الظاهر . والأول الصحيح . قال في " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " : المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس . وقد ترجم على هذا " باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل " . وترجم بعد هذا " باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها " . وقال البخاري الطبري : الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب ، والفرض اللازم لأهل العلم . وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن جماعة الصحابة والتابعين . وقال أبو تمام المالكي : أجمعت الأمة على القياس ; فمن ذلك أنهم أجمعوا على . وقال قياس الذهب والورق في الزكاة أبو بكر : أقيلوني بيعتي . فقال علي : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا ؟ فقاس الإمامة على الصلاة . وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال : والله لا أفرق بين ما جمع الله . وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال : إنه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ; فحده حد القاذف . وكتب عمر إلى كتابا فيه : الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة ، اعرف الأمثال والأشباه ، ثم قس الأمور عند ذلك ، فاعمد إلى أحبها إلى الله [ ص: 156 ] تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى . الحديث بطوله ذكره أبي موسى الأشعري . وقد قال الدارقطني أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء ، حين رجع عمر من سرغ : نفر من قدر الله ؟ فقال عمر : نعم ! نفر من قدر الله إلى قدر الله . ثم قال له عمر : أرأيت . . . فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار ، وحسبك . وأما الآثار وآي القرآن في هذا المعنى فكثير . وهو يدل على أن ، وعصمة من عصم المسلمين ، يرجع إليه المجتهدون ، ويفزع إليه العلماء العاملون ، فيستنبطون به الأحكام . وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة ، ولا يلتفت إلى من شذ عنها . وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة ; لأن ذلك ظن ونزغ من الشيطان ; قال الله تعالى : القياس أصل من أصول الدين ولا تقف ما ليس لك به علم . وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم ، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم . وتتميم هذا الباب في كتب الأصول .