وقال اركبوا فيها أمر بالركوب ; ويحتمل أن يكون من الله تعالى [ ص: 34 ] ويحتمل أن يكون من قوله تعالى : نوح لقومه . والركوب العلو على ظهر الشيء . ويقال : ركبه الدين . وفي الكلام حذف ; أي اركبوا الماء في السفينة . وقيل : المعنى اركبوها . و " في " للتأكيد كقوله تعالى : إن كنتم للرؤيا تعبرون وفائدة " في " أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها . قال عكرمة : ركب نوح - عليه السلام - في الفلك لعشر خلون من رجب ، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم ; فذلك ستة أشهر ; وقاله قتادة وزاد وهو يوم عاشوراء ; فقال لمن كان معه : من كان صائما فليتم صومه ، ومن لم يكن صائما فليصمه . وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع ، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء ، ففيه أرست على الجودي ، فصامه نوح ومن معه ) . وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة ، ومرت بالبيت فطافت به سبعا ، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق ، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه .
بسم الله مجراها ومرساها قراءة قوله تعالى : أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها ; فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء ; ويجوز أن تكون في موضع نصب ، ويكون التقدير : بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت ، وأقيم مجراها مقامه . وقرأ الأعمش وحمزة : " بسم الله مجريها " بفتح الميم و " مرساها " بضم الميم . وروى والكسائي يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب " بسم الله مجراها ومرساها " بفتح الميم فيهما ; على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى ، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت . وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري : " بسم الله مجريها ومرسيها " نعت لله - عز وجل - في موضع جر . ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ; أي هو مجريها ومرسيها . ويجوز النصب على الحال . وقال وأبو رجاء العطاردي الضحاك . كان نوح - عليه السلام - إذا قال بسم الله مجراها جرت ، وإذا قال بسم الله مرساها رست . وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبد الله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ ص: 35 ] بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم . وفي هذه الآية دليل ، على ; كما بيناه في البسملة ; والحمد لله . ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل
إن ربي لغفور رحيم أي لأهل السفينة . وروي عن ابن عباس قال : ( لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل ، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث ; فقال نوح : لو غمزت ذنب هذا الخنزير ! ففعل ، فخرج منه فأر وفأرة فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها ، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا على حبال السفينة ; فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها ، فخرج منها سنوران فأكلا الفأرة . ولما حمل الأسد في السفينة قال : يا رب من أين أطعمه ؟ قال : سوف أشغله ; فأخذته الحمى ; فهو الدهر محموم . قال ابن عباس : ( وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة ، وآخر ما حمل حمل الحمار ) ; قال : وتعلق إبليس بذنبه ، ويداه قد دخلتا في السفينة ، ورجلاه خارجة بعد فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل ، فصاح به نوح : ادخل ويلك فجعل يضطرب ; فقال : ادخل ويلك ! وإن كان معك الشيطان ، كلمة زلت على لسانه ، فدخل ووثب الشيطان فدخل . ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة ، فقال له : يا لعين ما أدخلك بيتي ؟ ! قال : أنت أذنت لي ; فذكر له ; فقال له : قم فاخرج . قال : ما لك بد في أن تحملني معك ، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك . وكان مع نوح - عليه السلام - خرزتان مضيئتان ، واحدة مكان الشمس ، والأخرى مكان القمر . ابن عباس : ( إحداهما بيضاء كبياض النهار ، والأخرى سوداء كسواد الليل ) ; فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة ; فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه ، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه ; على قدر الساعات .
وهي تجري بهم في موج كالجبال الموج جمع موجة ; وهي ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح . والكاف للتشبيه ، وهي في موضع خفض نعت للموج . وجاء في التفسير أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعا . قوله تعالى :
ونادى نوح ابنه قيل : كان كافرا واسمه كنعان . وقيل : يام . ويجوز على قول : ونادى سيبويه نوح ابنه بحذف الواو من ابنه في اللفظ ، وأنشد :
له زجل كأنه صوت حاد
فأما " ونادى نوح ابنها وكان " فقراءة شاذة ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب - كرم الله [ ص: 36 ] وجهه - . وزعم وعروة بن الزبير أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد " ابنها " فحذف الألف كما تقول : " ابنه " ; فتحذف الواو . وقال النحاس : وهذا الذي قاله أبو حاتم لا يجوز على مذهب ; لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها ، والواو ثقيلة يجوز حذفها سيبويه
وكان في معزل أي من دين أبيه . وقيل : عن السفينة . وقيل : إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا ، وأنه ظن أنه مؤمن ; ولذلك قال له : ولا تكن مع الكافرين وسيأتي . وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق ; وقبل رؤية اليأس ، بل كان في أول ما فار التنور ، وظهرت العلامة لنوح . وقرأ عاصم : " يا بني اركب معنا " بفتح الياء ، والباقون بكسرها . وأصل يا بني أن تكون بثلاث ياءات ; ياء التصغير ، وياء الفعل ، وياء الإضافة ; فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل ، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة ، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين ، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع ; هذا أصل قراءة من كسر الياء ، وهو أيضا أصل قراءة من فتح ; لأنه قلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف ، ثم حذف الألف لكونها عوضا من حرف يحذف ، أو لسكونها وسكون الراء . قال النحاس : أما قراءة عاصم فمشكلة ; قال أبو حاتم : يريد يا بنياه ثم يحذف ; قال النحاس : رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز ; لأن الألف خفيفة . قال : ما علمت أن أحدا من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبو جعفر النحاس أبا إسحاق ; فإنه زعم أن الفتح من جهتين ، والكسر من جهتين ; فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفا ; قال الله - عز وجل - إخبارا : " يا ويلتا " وكما قال الشاعر :
فيا عجبا من رحلها المتحمل
فيريد يا بنيا ، ثم حذف الألف ; لالتقاء الساكنين ، كما تقول : جاءني عبدا الله في التثنية . والجهة الأخرى أن تحذف الألف ; لأن النداء موضع حذف . والكسر على أن تحذف الياء للنداء . والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين .
قوله تعالى : قال سآوي أي أرجع وأنضم . " إلى جبل يعصمني " أي يمنعني من الماء فلا أغرق .
قال لا عاصم اليوم من أمر الله أي لا مانع ; فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار . وانتصب " عاصم " على التبرئة . ويجوز " لا عاصم اليوم " تكون لا بمعنى ليس .
إلا من رحم في موضع نصب استثناء ليس من الأول ; أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه ، قاله الزجاج . ويجوز أن يكون في موضع رفع ، على أن عاصما بمعنى معصوم ; مثل : ماء دافق أي مدفوق ; فالاستثناء . على هذا متصل ; قال الشاعر :
[ ص: 37 ]
بطيء القيام رخيم الكلا م أمسى فؤادي به فاتنا
دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي المطعوم المكسو . قال النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون " من " في موضع رفع ; بمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم ; أي إلا الله . وهذا اختيار الطبري . ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه ، ولا " إلا " بمعنى " لكن "
وحال بينهما الموج يعني بين نوح وابنه .
فكان من المغرقين قيل : إنه كان راكبا على فرس قد بطر بنفسه ، وأعجب بها ; فلما رأى الماء جاء قال : يا أبت فار التنور ، فقال له أبوه : يا بني اركب معنا فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه ، وحيل بينه وبين نوح فغرق . وقيل : إنه اتخذ لنفسه بيتا من زجاج يتحصن فيه من الماء ، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل ، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك . وقيل : إن الجبل الذي أوى إليه " طور سيناء " .
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي هذا مجاز لأنها موات . وقيل : جعل فيها ما تميز به . والذي قال إنه مجاز قال : لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة رصفها ، واشتمال المعاني فيها . وفي الأثر : إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عاما أو عامين ، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان ; فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك . وذلك قوله تعالى : قوله تعالى : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر ; فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك ، وأمر الله الأرض بالابتلاع . ويقال : بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد ; لغتان حكاهما الكسائي والفراء . والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء . قال : التقى الماءان على أمر قد قدر ، ما كان في الأرض وما نزل من السماء ; فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع ، فلم تمتص الأرض منه قطرة ، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط . وذلك قوله تعالى : ابن العربي وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقيل : ميز الله بين الماءين ، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته ، وصار ماء السماء بحارا .
[ ص: 38 ] وغيض الماء أي نقص ; يقال : غاض الشيء وغضته أنا ; كما يقال : نقص بنفسه ونقصه غيره ، ويجوز " غيض " بضم الغين . قوله تعالى :
وقضي الأمر أي أحكم وفرغ منه ; يعني أهلك قوم نوح على تمام وإحكام . ويقال : إن الله تعالى أعقم أرحامهم أي أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلم يكن فيمن هلك صغير . والصحيح أنه أهلك الولدان بالطوفان ، كما هلكت الطير والسباع . ولم يكن الغرق عقوبة للصبيان والبهائم والطير ، بل ماتوا بآجالهم . وحكي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه ; وكانت تحبه حبا شديدا ، فخرجت به إلى الجبل ، حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه ، فلما بلغها الماء استوت على الجبل ; فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها بابنها حتى ذهب بها الماء ; فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي .
واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين أي هلاكا لهم . قوله تعالى : الجودي جبل بقرب الموصل ; استوت عليه في العاشر من المحرم يوم عاشوراء ; فصامه نوح وأمر جميع من معه من الناس والوحش والطير والدواب وغيرها فصاموه ، شكرا لله تعالى وقد تقدم هذا المعنى . وقيل : كان ذلك يوم الجمعة . وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسى على واحد منها فتطاولت ، وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله ، فاستوت السفينة عليه : وبقيت عليه أعوادها . وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة . وقال مجاهد : تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق ; فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا ، وتطامن الجودي ، وتواضع لأمر الله تعالى فلم يغرق ، ورست السفينة عليه . وقد قيل : إن الجودي اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل .
سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
[ مسألة ] : لما تواضع الجودي وخضع عز ، ولما ارتفع غيره واستعلى ذل ، وهذه سنة الله في خلقه ، يرفع من تخشع ، ويضع من ترفع ; ولقد أحسن القائل :
[ ص: 39 ]
وإذا تذللت الرقاب تخشعا منا إليك فعزها في ذلها
[ مسألة ] : نذكر فيها من قصة نوح مع قومه وبعض ذكر السفينة ، ذكر الحافظ في التاريخ له عن ابن عساكر الحسن : أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ; فذلك قوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وكان قد كثرت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة وعتوا عتوا كبيرا ، وكان نوح يدعوهم ليلا ونهارا ، سرا وعلانية ، وكان صبورا حليما ، ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه حتى يترك وقيذا ، ويضربونه في المجالس ويطرد ، وكان لا يدعو على من يصنع به بل يدعوهم ويقول : " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " فكان لا يزيدهم ذلك إلا فرارا منه ، حتى إنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ، ويجعل أصبعيه في أذنيه لكيلا يسمع شيئا من كلامه ، فذلك قوله تعالى : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم . وقال مجاهد : كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " . وقال وعبيد بن عمير ابن عباس : ( إن نوحا كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ، ثم يخرج فيدعوهم ; حتى إذا يئس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا ; فقال : يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك ، قال : يا أبت أمكني من العصا ، فأمكنه فأخذ العصا ثم قال : ضعني في الأرض فوضعه ، فمشى إليه بالعصا فضربه [ ص: 40 ] فشجه شجة موضحة في رأسه ، وسالت الدماء ; فقال نوح : " رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك خيرية فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين " فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه ، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن )
قال : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ; أي لا تحزن عليهم . واصنع الفلك بأعيننا ووحينا قال : يا رب وأين الخشب ؟ قال : اغرس الشجر . قال : فغرس الساج عشرين سنة ، وكف عن الدعاء ، وكفوا عن الاستهزاء . وكانوا يسخرون منه ; فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها وجففها : فقال : يا رب كيف أتخذ هذا البيت ؟ قال : اجعله على ثلاثة صور ; رأسه كرأس الديك ، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير ، وذنبه كذنب الديك ; واجعلها مطبقة واجعل لها أبوابا في جنبها ، وشدها بدسر ، يعني مسامير الحديد . وبعث الله جبريل فعلمه صنعة السفينة ، وجعلت يده لا تخطئ . قال ابن عباس : ( كانت دار نوح - عليه السلام - دمشق ، وأنشأ سفينته من خشب لبنان بين زمزم وبين الركن والمقام ) ، فلما كملت حمل فيها السباع والدواب في الباب الأول ، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني ، وأطبق عليهما وجعل أولاد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى وأطبق عليهم ، وجعل الذر معه في الباب الأعلى لضعفها ألا تطأها الدواب . قال الزهري : إن الله - عز وجل - بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين ; من السباع والطير والوحش والبهائم . وقال : بعث الله جعفر بن محمد جبريل فحشرهم ، فجعل يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى ، فيدخله السفينة وقال : استصعبت على زيد بن ثابت نوح الماعزة أن تدخل السفينة ، فدفعها بيده في ذنبها ; فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوفا وبدا حياؤها . ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياؤها ; قال إسحاق : أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحا حمل أهل السفينة ، وجعل فيها من كل زوجين اثنين ، وحمل من الهدهد زوجين ، فماتت الهدهدة في السفينة قبل أن تظهر الأرض . فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا ، فلم يجد طينا ولا ترابا ، فرحمه ربه فحفر لها في قفاه قبرا فدفنها فيه ، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر ; فلذلك نتأت أقفية الهداهد . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كان حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر وكانت العجوة من الجنة مع نوح في السفينة ) . وذكر صاحب كتاب ( العروس ) وغيره : أن نوحا - عليه السلام - لما أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض قال الدجاج : أنا ; فأخذها وختم [ ص: 41 ] على جناحها وقال لها : أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا ، أنت ينتفع بك أمتي ; فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس فلعنه ، ولذلك يقتل في الحل والحرم ودعا عليه بالخوف ; فلذلك لا يألف البيوت . وبعث الحمامة فلم تجد قرارا فوقعت على شجرة بأرض سيناء فحملت ورقة زيتونة ، ورجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض ، ثم بعثها بعد ذلك فطارت حتى وقعت بوادي الحرم ، فإذا الماء قد نضب من مواضع الكعبة ، وكانت طينتها حمراء ، فاختضبت رجلاها ، ثم جاءت إلى نوح - عليه السلام - فقالت : بشراي منك أن تهب لي الطوق في عنقي ، والخضاب في رجلي ، وأسكن الحرم ; فمسح يده على عنقها وطوقها ، ووهب لها الحمرة في رجليها ، ودعا لها ولذريتها بالبركة . وذكر الثعلبي أنه بعث بعد الغراب التدرج وكان من جنس الدجاج ; وقال : إياك أن تعتذر ، فأصاب الخضرة والفرجة فلم يرجع ، وأخذ أولاده عنده رهنا إلى يوم القيامة .