قوله تعالى : إذ قال لأبيه وهو آزر . وقد تقدم . يا أبت قد تقدم القول فيه في ( يوسف ) لم تعبد أي لأي شيء تعبد : ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يريد الأصنام . ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت ، وأن من عبد غير الله عذب . فاتبعني إلى ما أدعوك إليه . أهدك صراطا سويا أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة . يا أبت لا تعبد الشيطان أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر ، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده .
إن الشيطان كان للرحمن عصيا ( كان ) صلة زائدة ، وقيل : بمعنى صار . وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن . وعصيا وعاص بمعنى واحد قاله الكسائي . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن أي إن مت على ما أنت عليه . ويكون أخاف بمعنى أعلم . ويجوز أن يكون أخاف على بابها فيكون المعنى : إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب . فتكون للشيطان وليا أي قرينا في النار . قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم أي أترغب عنها إلى غيرها . لئن لم تنته لأرجمنك قال الحسن : يعني بالحجارة . الضحاك : بالقول ؛ أي لأشتمنك . ابن عباس : لأضربنك . وقيل : لأظهرن أمرك . لأرجمنك واهجرني قال ابن عباس : أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبك مني معرة ؛ واختاره الطبري ، فقوله : مليا على هذا حال من إبراهيم . وقال الحسن ومجاهد : مليا دهرا طويلا ؛ ومنه قول المهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
[ ص: 37 ] قال الكسائي : يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة ، فهو على هذا القول ظرف ، وهو بمعنى الملاوة من الزمان ، وهو الطويل منه .
قوله تعالى : قال سلام عليك لم يعارضه إبراهيم - عليه السلام - بسوء الرد ؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره . والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية ؛ قال الطبري : معناه أمنة مني لك . وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام . وقال النقاش : حليم خاطب سفيها ؛ كما قال : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . وقال بعضهم في معنى تسليمه : هو تحية مفارق ؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها . قيل : هل يجوز لابن عيينة ؟ قال : نعم ؛ قال الله تعالى : السلام على الكافر لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . وقال قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم الآية ؛ وقال إبراهيم لأبيه سلام عليك .
قلت : الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة ؛ وفي الباب حديثان صحيحان : روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبو هريرة اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه لا تبدءوا خرجه البخاري ومسلم . وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أسامة بن زيد ؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، وذلك قبل وقعة بدر ، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفيهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة ، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ، ثم قال : لا تغبروا علينا ، فسلم عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ الحديث . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية ، وأردف وراءه
فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء ؛ لأن ذلك إكرام ، والكافر ليس أهله . والحديث الثاني [ ص: 38 ] يجوز ذلك . قال الطبري : ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث فإنه ليس في أحدهما خلاف للآخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم ، وخبر أبي هريرة أسامة يبين أن معناه الخصوص . وقال : إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث النخعي لا تبدءوهم بالسلام إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءوهم بالسلام ، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم ، أو حق صحبة أو جوار أو سفر . قال أبي هريرة الطبري : وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب . وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه ؛ قال علقمة : فقلت له يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدءوا بالسلام ؟ ! قال : نعم ، ولكن حق الصحبة . وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه ؛ قيل له في ذلك فقال : أمرنا أن نفشي السلام . وسئل الأوزاعي عن فقال : إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك ، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك . وروي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه ، أنه قال : إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم . الحسن البصري
قلت : وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة ؛ لحديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم : السلام وهي تحية أهل الجنة الحديث ؛ ذكره وقد مضى في الفاتحة بسنده . وقد مضى الكلام في معنى قوله : الترمذي الحكيم ؛ سأستغفر لك ربي وارتفع السلام بالابتداء ؛ وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة . قوله تعالى : إنه كان بي حفيا الحفي المبالغ في البر والإلطاف ؛ يقال : حفي به وتحفى إذا بره . وقال الكسائي يقال : حفي بي حفاوة وحفوة . وقال الفراء : إنه كان بي حفيا أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته . قوله تعالى : وأعتزلكم العزلة المفارقة وقد تقدم في ( الكهف ) بيانها . قوله : عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا قيل : أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم ، حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه . ولهذا قال : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب أي آنسنا وحشته بولد ؛ عن ابن عباس وغيره . وقيل : عسى يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل . وقيل : دعا لأبيه بالهداية . ف " عسى " شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا ؟ والأول أظهر .
وقوله : [ ص: 39 ] وجعلنا لهم لسان صدق عليا أي أثنينا عليهم ثناء حسنا ؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم . واللسان يذكر ويؤنث ؛ وقد تقدم .