قوله تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة اختلف في قائل ذلك على قولين : أحدهما : أنهم كفار قوله تعالى : قريش ; قاله ابن عباس . والثاني : أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا : هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود . فقال الله تعالى : كذلك أي فعلنا لنثبت به فؤادك نقوي به قلبك فتعيه وتحمله ; لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون ، والقرآن أنزل على نبي أمي ; ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأيسر على العامل به ; فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب .
قلت : فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته ؟ . قيل : في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة ، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه ، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك . وقد قيل : إن قوله : كذلك من كلام المشركين ، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك ، أي كالتوراة والإنجيل ، فيتم الوقف على كذلك ثم يبتدئ : لنثبت به فؤادك . ويجوز أن يكون الوقف على قوله : جملة واحدة ثم يبتدئ كذلك لنثبت به فؤادك على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك . قال ابن الأنباري : والوجه الأول أجود وأحسن ، والقول الثاني قد جاء به التفسير ، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر قال : أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء ، فنجمه [ ص: 29 ] السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة . قال : فهو قوله فلا أقسم بمواقع النجوم يعني نجوم القرآن وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم . قال : فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة ، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ; فقال الله تبارك وتعالى : كذلك لنثبت به فؤادك يا محمد . ورتلناه ترتيلا يقول : ورسلناه ترسيلا ; يقول : شيئا بعد شيء .
ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا يقول : لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به ، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت . قال النحاس : وكان ذلك من علامات النبوة ، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه ، وهذا لا يكون إلا من نبي ، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم ، ويدل على هذا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم ، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا ، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة ، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه . وفيه ناسخ ومنسوخ ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح ، ثم ينزل النسخ بعد ذلك ; فمحال أن ينزل جملة واحدة : افعلوا كذا ولا تفعلوا . قال النحاس : والأولى أن يكون التمام جملة واحدة لأنه إذا وقف على كذلك صار المعنى : كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر . قال الضحاك : وأحسن تفسيرا أي تفصيلا . والمعنى : أحسن من مثلهم تفصيلا ; فحذف لعلم السامع . وقيل : كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل ، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم ; لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل ، ولهذا قال تعالى : ولا تلبسوا الحق بالباطل . وقيل : ولا يأتونك بمثل كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم .