[ ص: 236 ] وأصبح فؤاد أم موسى فارغا قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وأبو عمران الجوني وأبو عبيدة : فارغا أي خاليا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى وقال الحسن أيضا وابن إسحاق وابن زيد : فارغا من الوحي إذ أوحى إليها حين أمرت أن تلقيه في البحر ولا تخافي ولا تحزني والعهد الذي عهده إليها أن يرده ويجعله من المرسلين ; فقال لها الشيطان : يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فغرقتيه أنت ! ثم بلغها أن ولدها وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وقال أبو عبيدة : فارغا من الغم والحزن لعلمها أنه لم يغرق ; وقاله الأخفش أيضا وقال العلاء بن زياد : فارغا نافرا الكسائي : ناسيا ذاهلا وقيل : والها ; رواه سعيد بن جبير .
ابن القاسم عن مالك : هو ذهاب العقل ; والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش ، ونحوه قوله تعالى : وأفئدتهم هواء أي جوف لا عقول لها كما تقدم في سورة ( إبراهيم ) وذلك أن القلوب مراكز العقول ; ألا ترى إلى قوله تعالى : فتكون لهم قلوب يعقلون بها ويدل عليه قراءة من قرأ : ( فزعا ) النحاس : أصح هذه الأقوال الأول ، والذين قالوه أعلم بكتاب الله عز وجل ; فإذا كان فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى فهو فارغ من الوحي . وقول أبي عبيدة : فارغا من الغم . غلط قبيح ; لأن بعده إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كادت تقول : واابناه ! وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه ومحمد بن السميقع وأبو العالية وابن محيصن : ( فزعا ) بالفاء والعين المهملة من الفزع ، أي خائفة عليه أن يقتل ابن عباس : ( قرعا ) بالقاف والراء والعين المهملتين ، وهي راجعة إلى قراءة الجماعة ( فارغا ) ولذلك قيل للرأس الذي لا شعر عليه : أقرع ; لفراغه من الشعر وحكى قطرب أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : ( فرغا ) : بالفاء والراء والغين المعجمة من غير ألف ، وهو كقولك : هدرا وباطلا ; يقال : دماؤهم بينهم فرغ أي هدر ; والمعنى بطل قلبها وذهب وبقيت لا قلب لها من شدة ما ورد عليها . وفي قوله تعالى : ( وأصبح ) وجهان : أحدهما : أنها ألقته ليلا فأصبح فؤادها في النهار فارغا . الثاني : ألقته نهارا ، ومعنى : ( وأصبح ) أي صار ; كما قال الشاعر :
مضى الخلفاء بالأمر الرشيد وأصبحت المدينة للوليد
[ ص: 237 ] إن كادت لتبدي به أي إنها كادت ; فلما حذفت الكناية سكنت النون فهي ( إن ) المخففة ولذلك دخلت اللام في ( لتبدي به ) أي لتظهر أمره ; من : بدا يبدو : إذا ظهر . قال ابن عباس : أي تصيح عند إلقائه : واابناه : كادت تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته : هو ابني . وقيل : إنه لما شب سمعت الناس يقولون : السدي موسى ابن فرعون ; فشق عليها وضاق صدرها ، وكادت تقول : هو ابني ، وقيل : الهاء في ( به ) عائدة إلى الوحي ، تقديره : إن كادت لتبدي بالوحي الذي أوحيناه إليها أن نرده عليها ، والأول أظهر . قال ابن مسعود : كادت تقول : أنا أمه . وقال الفراء : إن كادت لتبدي باسمه لضيق صدرها لولا أن ربطنا على قلبها قال قتادة : بالإيمان : بالعصمة وقيل : بالصبر . والربط على القلب : إلهام الصبر السدي لتكون من المؤمنين أي من المصدقين بوعد الله حين قال لها : إنا رادوه إليك وقال ( لتبدي به ) ولم يقل ( لتبديه ) لأن حروف الصفات قد تزاد في الكلام ; تقول : أخذت الحبل وبالحبل . وقيل : أي لتبدي القول به .
وقالت لأخته قصيه أي قالت أم قوله تعالى : موسى لأخت موسى : اتبعي أثره حتى تعلمي خبره . واسمها مريم بنت عمران ; وافق اسمها اسم مريم أم عيسى عليه السلام ; ذكره السهيلي والثعلبي وذكر عن الماوردي الضحاك : أن اسمها كلثمة وقال السهيلي : كلثوم ; جاء ذلك في حديث رواه الزبير بن بكار : أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة لخديجة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون فقالت : الله أخبرك بهذا ؟ فقال : نعم ، فقالت : بالرفاء والبنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فبصرت به عن جنب أي بعد ; قال مجاهد ومنه الأجنبي .
قال الشاعر :
فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
وأصله : عن مكان جنب . وقال ابن عباس : عن جنب ، أي عن جانب ، وقرأ النعمان بن سالم : ( عن جانب ) أي عن ناحية . وقيل : عن شوق ; وحكى أبو عمرو بن العلاء أنها لغة لجذام ; يقولون : جنبت إليك ، أي : اشتقت . وقيل : عن جنب ، أي عن مجانبة لها منه فلم يعرفوا أنها أمه بسبيل . وقالقتادة : جعلت تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده ، وكان يقرأ : ( عن جنب ) [ ص: 238 ] بفتح الجيم وإسكان النون وهم لا يشعرون أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه .
وحرمنا عليه المراضع من قبل أي منعناه من الارتضاع من قبل ; أي من قبل مجيء أمه وأخته و ( المراضع ) جمع مرضع . ومن قال : مراضيع ، فهو جمع ( مرضاع ) و ( مفعال ) يكون للتكثير ، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المؤنث والمذكر لأنه ليس بجار على الفعل ، ولكن من قال : ( مرضاعة ) : جاء بالهاء للمبالغة ; كما يقال : مطرابة . قال قوله تعالى : ابن عباس : لا يؤتى بمرضع فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع ; قال امرؤ القيس :
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي ممتنع .
فلما رأت أخته ذلك قالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم الآية . فقالوا لها عند قولها : وهم له ناصحون وما يدريك ؟ لعلك تعرفين أهله ؟ فقالت : لا ، ولكنهم يحرصون على مسرة الملك ، ويرغبون في ظئره وقال السدي : قيل لها لما قالت : وابن جريج وهم له ناصحون قد عرفت أهل هذا الصبي فدلينا عليهم ، فقالت : أردت وهم للملك ناصحون . فدلتهم على أم موسى ، فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها ، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه ، وهو يبكي يطلب الرضاع ، فدفعه إليها ; فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها . وقال ابن زيد استرابوها حين قالت ذلك فقالت : وهم للملك ناصحون . وقيل : إنها لما قالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وكانوا يبالغون في طلب مرضعة يقبل ثديها ، فقالوا : من هي ؟ فقالت : أمي ، فقيل : لها لبن ؟ قالت : نعم ! لبن هارون وكان ولد في سنة لا يقتل فيها الصبيان ، فقالوا : صدقت والله . وهم له ناصحون أي فيهم شفقة ونصح ، فروي أنه قيل لأم موسى حين ارتضع منها : كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك ؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني . قال أبو عمران الجوني : وكان فرعون يعطي أم موسى كل يوم دينارا . قال : فإن قلت كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها ؟ قلت : ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ، ولكنه مال حربي تأخذه على وجه الاستباحة . الزمخشري
فرددناه إلى أمه أي رددناه وقد عطف الله قلب العدو عليه ، ووفينا لها بالوعد قوله تعالى : كي تقر عينها أي بولدها . ( ولا تحزن ) أي بفراق ولدها ولتعلم أن وعد الله حق أي لتعلم وقوعه ، فإنها كانت عالمة بأن رده إليها سيكون . ولكن أكثرهم لا يعلمون [ ص: 239 ] يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون ; أي كانوا في غفلة عن التقرير وسر القضاء وقيل : أي أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله في كل ما وعد حق .
ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما قد مضى الكلام في الأشد في ( الأنعام ) وقول قوله تعالى : ربيعة أنه الحلم أولى ما قيل فيه ، لقوله تعالى : ومالك حتى إذا بلغوا النكاح فإن ذلك أول الأشد ، وأقصاه أربع وثلاثون سنة ، وهو قول ، واستوى قال سفيان الثوري ابن عباس : بلغ أربعين سنة . والحكم : الحكمة قبل النبوة وقيل : الفقه في الدين . وقد مضى بيانها في ( البقرة ) وغيرها . والعلم : الفهم في قول وقيل : النبوة ، وقال السدي مجاهد : الفقه . محمد بن إسحاق : أي العلم بما في دينه ودين آبائه ، وكان له تسعة من بني إسرائيل يسمعون منه ، ويقتدون به ويجتمعون إليه ، وكان هذا قبل النبوة وكذلك نجزي المحسنين أي كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله ، وألقت ولدها في البحر ، وصدقت بوعد الله ، فرددنا ولدها إليها بالتحف والطرف وهي آمنة ، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة ، وكذلك نجزي كل محسن .