يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون . قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن فيه أربع مسائل : الأولى : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم قيل عند الله . وقيل : خيرا منهم أي : معتقدا وأسلم باطنا . والسخرية : الاستهزاء . سخرت منه أسخر سخرا ( بالتحريك ) ومسخرا وسخرا ( بالضم ) . وحكى قوله تعالى : أبو زيد سخرت به ، وهو أردأ اللغتين . وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزئت منه وهزئت به ، كل يقال . والاسم السخرية والسخري ، وقرئ بهما قوله تعالى : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا وقد تقدم . وفلان سخرة ، يتسخر في العمل . يقال : خادم سخرة . ورجل سخرة أيضا يسخر منه . وسخرة ( بفتح الخاء ) يسخر من الناس .
[ ص: 294 ] الثانية : واختلف في سبب نزولها ، فقال ابن عباس : نزلت في كان في أذنه وقر ، فإذا سبقوه إلى مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ أصحابه مجالسهم منه ، فربض كل رجل منهم بمجلسه ، وعضوا فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما ، فلما انصرف ثابت بن قيس بن شماس ثابت من الصلاة تخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا ، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينه وبينه رجل فقال له : تفسح . فقال له الرجل : قد وجدت مجلسا فاجلس! فجلس ثابت من خلفه مغضبا ، ثم قال : من هذا ؟ قالوا فلان ، فقال ثابت : ابن فلانة! يعيره بها ، يعني أما له في الجاهلية ، فاستحيا الرجل ، فنزلت . وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول ( السورة ) استهزءوا بفقراء الصحابة ، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم . وقال وسالم مولى أبي حذيفة مجاهد : هو سخرية الغني من الفقير . وقال ابن زيد : لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله ، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة . وقيل : نزلت في حين قدم عكرمة بن أبي جهل المدينة مسلما ، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة . فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت .
وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله ، والاستهزاء بمن عظمه الله . ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع . وعن عمرو بن شرحبيل : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا . وقوم في اللغة للمذكرين خاصة . قال عبد الله بن مسعود زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد . وقيل : إنه جمع قائم ، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين . وقد يدخل في القوم النساء مجازا ، وقد مضى في ( البقرة ) بيانه .