[ ص: 158 ] قوله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " لينفق " أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه . ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك . بالاجتهاد على مجرى حياة العادة ; فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق ، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه ، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله . وقال الإمام فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه رضي الله عنه وأصحابه : الشافعي . وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره ، ولا يعتبر بحالها وكفايتها . قالوا : فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس . فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان ، وإن كان متوسطا فمد ونصف ، وإن كان معسرا فمد . واستدلوا بقوله تعالى : النفقة مقدرة محددة ، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها لينفق ذو سعة من سعته الآية . فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها ; ولأن الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره ; فيؤدي إلى الخصومة ; لأن الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها ، وهي تزعم أن الذي تطلب قدر كفايتها ; فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة . والأصل في هذا عندهم قوله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته - كما ذكرنا - وقوله : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره . والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير ، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره . وهذا مسلم . فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه ، وقد قال الله تعالى : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما ; لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما . وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة ; وقد لهند : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " . فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي سفيان الواجب عليه بطلبها ، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدر ، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم . ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف ; والآية لا تقتضيه .
[ ص: 159 ] الثانية : روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم ، وفرض له عثمان خمسين درهما . : واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس ، وقد روى ابن العربي محمد بن هلال المزني قال : حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها ، فقال لأهله : ما لي لا أرى فلانة ؟ فقالت امرأته : يا أمير المؤمنين ، ولدت الليلة ; فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية . ثم قال : هذا عطاء ابنك وهذه كسوته ، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة . وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ ففرض له مائة . قال : هذا الفرض قبل الفطام مما اختلف فيه العلماء ; فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية ، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته ; وبه أقول . ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام . وقد روى ابن العربي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال : إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدي حنطة وقسطي خل وقسطي زيت . زاد غيره : وقال : إنا قد أجرينا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر ، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا ; فدعا عليه . قال أبو الدرداء : كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام ; وقد درسا بعرف آخر . فأما المد فدرس إلى الكيلجة . وأما القسط فدرس إلى الكيل ، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام . وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير . وهذا الأصل ، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة .
الثالثة : هذه الآية أصل في وجوب ; خلافا النفقة للولد على الوالد دون الأم لمحمد بن المواز يقول : إنها على الأبوين على قدر الميراث . : ولعل ابن العربي محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب . وفي عن النبي صلى الله عليه وسلم البخاري فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة . " تقول لك المرأة : أنفق علي وإلا فطلقني . ويقول لك العبد : أنفق علي واستعملني . ويقول لك ولدك : أنفق علي ، إلى من تكلني "
[ ص: 160 ] الرابعة : قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني . سيجعل الله بعد عسر يسرا أي بعد الضيق غنى ، وبعد الشدة سعة .