[ ص: 60 ] ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( 43 ) إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( 44 ) )
قوله تعالى : ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة ) هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه اختصار ، أي : كيف يجعلونك حكما بينهم فيرضون بحكمك وعندهم التوراة؟ ( فيها حكم الله ) وهو الرجم ، ( ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ) أي بمصدقين لك .
قوله عز وجل : ( يحكم بها النبيون الذين أسلموا إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( سورة البقرة ، 131 ) ، وكما قال : وله أسلم من في السماوات والأرض ( سورة آل عمران ، 83 ) ، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ( سورة المائدة 48 ) .
وقال الحسن : أراد به والسدي محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : " إن إبراهيم كان أمة قانتا " ( سورة النحل 120 ) .
وقوله تعالى : ( للذين هادوا ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادوا . ثم قال : يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون ، وقيل : هو على موضعه ، ومعناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال : " وإن أسأتم فلها " ( سورة الإسراء 7 ) أي : فعليها ، وقال : " أولئك لهم اللعنة " ( سورة الرعد ، 25 ) أي : عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا . [ ص: 61 ]
( والربانيون والأحبار ) يعني العلماء : واحدهم حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم للشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي يكتب به وقال قطرب هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها ، وفي الحديث " يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره " أي : حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمي العالم حبرا لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل : الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود ، وقيل : كلاهما من اليهود .
قوله عز وجل : ( بما استحفظوا من كتاب الله ) أي : استودعوا من كتاب الله ، ( وكانوا عليه شهداء ) أنه كذلك .
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة . روي عن رضي الله عنه في قوله : ( البراء بن عازب ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل : هي على الناس كلهم .
وقال ابن عباس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله فهو به كافر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر . وطاوس
قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .
وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم بجميع ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدا ، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا .