الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع فسواهن خلقهن وقال مجاهد استوى علا على العرش وقال ابن عباس المجيد الكريم و الودود الحبيب يقال حميد مجيد كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد

                                                                                                                                                                                                        6982 حدثنا عبدان قال أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا بشرتنا فأعطنا فدخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم [ ص: 415 ] [ ص: 416 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 415 ] [ ص: 416 ] قوله باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم كذا ذكر قطعتين من آيتين ، وتلطف في ذكر الثانية عقب الأولى ؛ لرد من توهم من قوله في الحديث كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء أن العرش لم يزل مع الله تعالى وهو مذهب باطل ، وكذا من زعم من الفلاسفة أن العرش هو الخالق الصانع ، وربما تمسك بعضهم وهو أبو إسحاق الهروي بما أخرجه من طريق سفيان الثوري : حدثنا أبو هشام " هو الرماني بالراء والتشديد عن مجاهد عن ابن عباس قال إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فأول ما خلق الله القلم وهذه الأولية محمولة على خلق السماوات والأرض وما فيهما ، فقد أخرج عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة في قوله تعالى وكان عرشه على الماء قال هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء وعرشه من ياقوتة حمراء فأردف المصنف بقوله رب العرش العظيم إشارة إلى أن العرش مربوب وكل مربوب مخلوق ، وختم الباب بالحديث الذي فيه " فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " فإن في إثبات القوائم للعرش دلالة على أنه جسم مركب له أبعاض وأجزاء ، والجسم المؤلف محدث مخلوق ، وقال البيهقي في " الأسماء والصفات " : اتفقت أقاويل هذا التفسير على أن العرش هو السرير وأنه جسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه والطواف به كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة ، وفي الآيات - أي التي ذكرها - والأحاديث والآثار دلالة على صحة ما ذهبوا إليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع فسوى خلق ) في رواية الكشميهني " فسواهن خلقهن " وهو الموافق للمنقول عن أبي العالية لكن بلفظ " فقضاهن ، كما أخرجه الطبري من طريق أبي جعفر الرازي عنه في قوله تعالى ثم استوى إلى السماء قال ارتفع ، وفي قوله فقضاهن : خلقهن وهذا هو المعتمد والذي وقع فسواهن تغيير ، ووقع لفظ سوى أيضا في سورة النازعات في قوله تعالى رفع سمكها فسواها وليس المراد هنا وقد تقدم في تفسير سورة فصلت في حديث ابن عباس الذي أجاب به عن الأسئلة التي قال السائل إنها اختلفت عليه في القرآن فإن فيها أنه خلق الأرض قبل خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ثم دحا الأرض ثم إن في تفسير سوى بخلق نظرا ؛ لأن في التسوية قدرا زائدا على الخلق كما في قوله تعالى الذي خلق فسوى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وقال مجاهد استوى : علا على العرش ) وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه قال ابن بطال : اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا فقالت المعتزلة معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة واحتجوا بقول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                        قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق

                                                                                                                                                                                                        وقالت الجسمية معناه الاستقرار ، وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع ، وبعضهم معناه علا ، وبعضهم معناه الملك [ ص: 417 ] والقدرة ومنه استوت له الممالك ، يقال لمن أطاعه أهل البلاد ، وقيل معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء ، ومنه قوله تعالى ولما بلغ أشده واستوى فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق ، وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء وقيل إن " على " في قوله على العرش بمعنى : إلى ، فالمراد على هذا انتهى . إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش ؛ لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء ، ثم قال ابن بطال : فأما قول المعتزلة فإنه فاسد ؛ لأنه لم يزل قاهرا غالبا مستوليا ، وقوله ثم استوى يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن ، ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه ، وهذا منتف عن الله سبحانه ، وأما قول المجسمة ففاسد أيضا ؛ لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي ، وهو محال في حق الله تعالى ، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك وقوله لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه قال وأما تفسير استوى : علا فهو صحيح وهو المذهب الحق وقول أهل السنة ؛ لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلى ، وقال سبحانه وتعالى عما يشركون وهي صفة من صفات الذات ، وأما من فسره : ارتفع ففيه نظر ؛ لأنه لم يصف به نفسه ، قال واختلف أهل السنة هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل ، فمن قال معناه علا قال هي صفة ذات ، ومن قال غير ذلك قال هي صفة فعل ، وإن الله فعل فعلا سماه استوى على عرشه ، لا أن ذلك قائم بذاته لاستحالة قيام الحوادث به انتهى . ملخصا . وقد ألزمه من فسره بالاستيلاء بمثل ما ألزم هو به من أنه صار قاهرا بعد أن لم يكن ، فيلزم أنه صار غالبا بعد أن لم يكن ؛ والانفصال عن ذلك للفريقين بالتمسك بقوله تعالى وكان الله عليما حكيما فإن أهل العلم بالتفسير قالوا معناه لم يزل كذلك ، كما تقدم بيانه عن ابن عباس في تفسير فصلت ، وبقي من معاني استوى ما نقل عن ثعلب استوى الوجه اتصل ، واستوى القمر امتلأ واستوى فلان وفلان تماثلا ، واستوى إلى المكان أقبل ، واستوى القاعد قائما والنائم قاعدا ، ويمكن رد بعض هذه المعاني إلى بعض ، وكذا ما تقدم عن ابن بطال ، وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال : كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل الرحمن على العرش استوى فقال هو على العرش كما أخبر ، قال يا أبا عبد الله إنما معناه استولى ، فقال اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد ، ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول أرادني أحمد بن أبي داود أن أجد له في لغة العرب الرحمن على العرش استوى بمعنى استولى فقلت والله ما أصبت هذا ، وقال غيره لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش ؛ لأنه غالب على جميع المخلوقات ، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه ، وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر " ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش ؟ فقال : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، وعلى الله الرسالة ، وعلى رسوله البلاغ ، وعلينا التسليم " وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ، وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى ثم استوى على العرش فقال : هو كما وصف نفسه ، وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال : كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله " الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى وصف به نفسه ولا يقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه " ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن [ ص: 418 ] قال فيه " والإقرار به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال : كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف ، قال أبو داود وهو قولنا ، قال البيهقي وعلى هذا مضى أكابرنا وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير ، فمن فسر شيئا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفارق الجماعة ؛ لأنه وصف الرب بصفة لا شيء ، ومن طريق الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالكا والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف " وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر ، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه ، فقال ليس كمثله شيء وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال " كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه " ومن طريق أبي بكر الضبعي قال : مذهب أهل السنة في قوله الرحمن على العرش استوى قال بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة ، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل ، وقال الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه ، كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ، وقال في باب فضل الصدقة قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف ، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمروها بلا كيف ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، وأما الجهمية فأنكروها وقالوا هذا تشبيه ، وقال إسحاق ابن راهويه إنما يكون التشبيه لو قيل : يد كيد وسمع كسمع ، وقال في تفسير المائدة قال الأئمة نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير ، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك وقال ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، ولم يكيفوا شيئا منها ؛ وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فقالوا من أقر بها فهو مشبه فسماهم من أقر بها معطلة ، وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية : اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن ، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى . وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم ، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة ، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة ، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة ، وقسم بعضهم أقوال الناس في هذا الباب إلى ستة أقوال قولان لمن يجريها على ظاهرها ؛ أحدهما من يعتقد أنها من جنس صفات المخلوقين وهم المشبهة ويتفرع من قولهم عدة آراء ، والثاني من ينفي عنها شبه صفة المخلوقين ؛ لأن ذات الله لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات فإن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته ، وقولان لمن يثبت كونها صفة ولكن لا يجريها على ظاهرها ؛ أحدهما يقول لا نؤول شيئا منها بل نقول الله أعلم بمراده ، والآخر يؤول فيقول مثلا معنى الاستواء الاستيلاء ، واليد القدرة ونحو ذلك ، وقولان لمن لا يجزم بأنها صفة أحدهما يقول [ ص: 419 ] يجوز أن تكون صفة وظاهرها غير مراد ، ويجوز أن لا تكون صفة ، والآخر يقول لا يخاض في شيء من هذا بل يجب الإيمان به ؛ لأنه من المتشابه الذي لا يدرك معناه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وقال ابن عباس المجيد الكريم ، والودود الحبيب ) وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ذو العرش المجيد قال المجيد الكريم ، وبه عن ابن عباس في قوله تعالى وهو الغفور الودود قال الودود الحبيب وإنما وقع تقديم المجيد قبل الودود هنا ؛ لأن المراد تفسير لفظ المجيد الواقع في قوله ذو العرش المجيد فلما فسره استطرد لتفسير الاسم الذي قبله إشارة إلى أنه قرئ مرفوعا بالاتفاق ، وذو العرش بالرفع صفة له واختلفت القراء في المجيد " بالرفع ، فيكون من صفات الله ، وبالكسر فيكون صفة العرش ، قال ابن المنير : جميع ما ذكره البخاري في هذا الباب يشتمل على ذكر العرش إلا أثر ابن عباس ؛ لكنه نبه به على لطيفة وهي أن المجيد في الآية على قراءة الكسر ليس صفة للعرش ، حتى لا يتخيل أنه قديم بل هي صفة الله ، بدليل قراءة الرفع ، وبدليل اقترانه بالودود فيكون الكسر على المجاورة لتجتمع القراءتان على معنى واحد انتهى . ويؤيد أنها عند البخاري صفة الله تعالى ما أردفه به ، وهو يقال حميد مجيد إلخ ، ويؤيده حديث أبي هريرة الذي أخرجه الدارقطني بلفظ إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى مجدني عبدي ذكره ابن التين قال : ويقال المجد في كلام العرب : الشرف الواسع ، فالماجد من له آباء متقدمون في الشرف ، وأما الحسب والكرم فيكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء شرفاء ، فالمجيد صيغة مبالغة من المجد وهو الشرف القديم ، وقال الراغب : المجد السعة في الكرم والجلالة ، وأصله قولهم مجدت الإبل أي وقعت في مرعى كثير واسع وأمجدها الراعي ، ووصف القرآن بالمجيد لما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية انتهى . ومع ذلك كله فلا يمتنع وصف العرش بذلك لجلالته وعظيم قدره كما أشار إليه الراغب ، ولذلك وصف بالكريم في سورة قد أفلح ، وأما تفسير " الودود بالحبيب فإنه يأتي بمعنى المحب والمحبوب ؛ لأن أصل الود محبة الشيء ، قال الراغب : الودود يتضمن ما دخل في قوله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه وقد تقدم معنى محبة الله تعالى لعباده ومحبتهم له .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( يقال حميد مجيد كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد ) كذا لهم بغير ياء فعلا ماضيا ولغير أبي ذر عن الكشميهني محمود من حميد ، وأصل هذا قول أبي عبيدة في " كتاب المجاز " في قوله عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد أي محمود ماجد ، وقال الكرماني : غرضه منه أن مجيدا بمعنى فاعل كقدير بمعنى قادر وحميدا بمعنى مفعول ، فلذلك قال مجيد من ماجد وحميد من محمود ، قال وفي بعض النسخ : محمود من حميد ، وفي أخرى من حمد مبني للفاعل والمفعول أيضا ، وذلك لاحتمال أن يكون حميد بمعنى حامد ومجيد بمعنى ممجد ، ثم قال : وفي عبارة البخاري تعقيد . قلت : وهو في قوله محمود من حمد ، وقد اختلف الرواة فيه والأولى فيه ما وجد في أصله وهو كلام أبي عبيدة ، ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث لبعضها طريق أخرى .

                                                                                                                                                                                                        حديث عمران بن حصين وقوله في السند " أنبأنا أبو حمزة " هو السكري ، وقد تقدم قريبا في باب : ويحذركم الله نفسه ووقع في رواية الكشميهني عن أبي حمزة ، وقوله عن جامع بن شداد تقدم في بدء الخلق في رواية حفص بن غياث عن الأعمش " حدثنا جامع " وجامع هذا يكنى أبا صخرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إني عند النبي صلى الله عليه وسلم ) في رواية حفص " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم " وهذا ظاهر في أن هذه القصة كانت بالمدينة ، ففيه تعقب على من وحد بين هذه القصة وبين القصة التي تقدمت في المغازي من حديث أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال ، فأتاه أعرابي فقال ألا تنجز لي [ ص: 420 ] ما وعدتني ؟ فقال له أبشر ، فقال : قد أكثرت علي من أبشر فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال : رد البشرى ، فاقبلا أنتما ، قالا قبلنا الحديث ففسر القائل مع بني تميم " بشرتنا فأعطنا " بهذا الأعرابي ، وفسر أهل اليمن بأبي موسى ووجه التعقب التصريح في قصة أبي موسى بأن القصة كانت بالجعرانة ، وظاهر قصة عمران أنها كانت بالمدينة فافترقا وزعم ابن الجوزي أن القائل " أعطنا " هو الأقرع بن حابس التميمي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إذ جاءه قوم من بني تميم ) في رواية أبي عاصم عن الثوري في المغازي " جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وهو محمول على إرادة بعضهم وفي رواية محمد بن كثير عنه في بدء الخلق : جاء نفر من بني تميم " والمراد وفد تميم ، جاء صريحا عند ابن حبان من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان " جاء وفد بني تميم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : اقبلوا البشرى يا بني تميم ) في رواية أبي عاصم " أبشروا يا بني تميم " والمراد بهذه البشارة أن من أسلم نجا من الخلود في النار ، ثم بعد ذلك يترتب جزاؤه على وفق عمله إلا أن يعفو الله ، وقال الكرماني : بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يقتضي دخول الجنة حيث عرفهم أصول العقائد التي هي المبدأ والمعاد وما بينهما كذا قال ، وإنما وقع التعريف هنا لأهل اليمن وذلك ظاهر من سياق الحديث ، ونقل ابن التين عن الداودي قال : في قول بني تميم جئناك لنتفقه في الدين دليل على أن إجماع الصحابة لا ينعقد بأهل المدينة وحدها ، وتعقبه بأن الصواب أنه قول أهل اليمن لا بني تميم ، وهو كما قال ابن التين لكن وقع عند ابن حبان من طريق أبي عبيدة بن معن عن الأعمش بهذا السند ما نصه : دخل عليه نفر من بني تميم فقالوا : يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر ولم يذكر أهل اليمن وهو خطأ من هذا الراوي كأنه اختصر الحديث فوقع في هذا الوهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قالوا بشرتنا فأعطنا ) زاد في رواية حفص " مرتين " وزاد في رواية الثوري عن جامع في المغازي " فقالوا أما إذ بشرتنا فأعطنا " وفيها " فتغير وجهه " وفي رواية أبي عوانة عن الأعمش عند أبي نعيم في المستخرج " فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك " وفي أخرى في المغازي من طريق سفيان أيضا " فرئي ذلك في وجهه " وفيها " فقالوا يا رسول الله بشرتنا " وهو دال على إسلامهم وإنما راموا العاجل ، وسبب غضبه صلى الله عليه وسلم استشعاره بقلة علمهم لكونهم علقوا آمالهم بعاجل الدنيا الفانية وقدموا ذلك على التفقه في الدين الذي يحصل لهم ثواب الآخرة الباقية ، قال الكرماني : دل قولهم " بشرتنا " على أنهم قبلوا في الجملة لكن طلبوا مع ذلك شيئا من الدنيا ، وإنما نفى عنهم القبول المطلوب لا مطلق القبول ، وغضب حيث لم يهتموا بالسؤال عن حقائق كلمة التوحيد والمبدأ والمعاد ولم يعتنوا بضبطها ولم يسألوا عن موجباتها والموصلات إليها ، قال الطيبي : لما لم يكن جل اهتمامهم إلا بشأن الدنيا ، قالوا " بشرتنا فأعطنا " فمن ثم قال إذ لم يقبلها بنو تميم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فدخل ناس من أهل اليمن ) في رواية حفص " ثم دخل عليه ، وفي رواية أبي عاصم " فجاءه ناس من أهل اليمن " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : قالوا قبلنا ) زاد أبو عاصم وأبو نعيم " يا رسول الله ، وكذا عند ابن حبان من رواية شيبان بن عبد الرحمن عن جامع .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان ) هذه الرواية أتم الروايات الواقعة عند المصنف ، وحذف ذلك كله في بعضها أو بعضه ، ووقع في رواية أبي معاوية عن الأعمش عند الإسماعيلي " قالوا : قد بشرتنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان " ولم أعرف اسم قائل ذلك من أهل اليمن ، والمراد بالأمر في قولهم [ ص: 421 ] " هذا الأمر " تقدم بيانه في بدء الخلق .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) تقدم في بدء الخلق بلفظ " ولم يكن شيء غيره " وفي رواية أبي معاوية كان الله قبل كل شيء وهو بمعنى كان الله ولا شيء معه وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب ، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية ، ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها ، مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق لا العكس ، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق ، قال الطيبي : قوله ولم يكن شيء قبله حال ، وفي المذهب الكوفي خبر ، والمعنى يساعده إذ التقدير كان الله منفردا ، وقد جوز الأخفش دخول الواو في خبر كان وأخواتها نحو : كان زيد وأبوه قائم ، على جعل الجملة خبرا مع الواو تشبيها للخبر بالحال ، ومال التوربشتي إلى أنهما جملتان مستقلتان ، وقد تقدم تقريره في بدء الخلق ، وقال الطيبي لفظة " كان " في الموضعين بحسب حال مدخولها ، فالمراد بالأول الأزلية والقدم ، وبالثاني الحدوث بعد العدم ، ثم قال : فالحاصل أن عطف قوله وكان عرشه على الماء على قوله " كان الله " من باب الإخبار عن حصول الجملتين في الوجود وتفويض الترتيب إلى الذهن قالوا : وفيه بمنزلة ثم ، وقال الكرماني قوله وكان عرشه على الماء معطوف على قوله كان الله ولا يلزم منه المعية إذ اللازم من الواو العاطفة الاجتماع في أصل الثبوت وإن كان هناك تقديم وتأخير ، قال غيره ومن ثم جاء شيء غيره ومن ثم جاء قوله " ولم يكن شيء غيره " لنفي توهم المعية قال الراغب كان عبارة عما مضى من الزمان ؛ لكنها في كثير من وصف الله تعالى تنبئ عن معنى الأزلية كقوله تعالى وكان الله بكل شيء عليما ، قال وما استعمل منه في وصف شيء متعلقا بوصف له هو موجود فيه فللتنبيه على أن ذلك الوصف لازم له أو قليل الانفكاك عنه ، كقوله تعالى وكان الشيطان لربه كفورا ، وقوله وكان الإنسان كفورا وإذا استعمل في الزمن الماضي جاز أن يكون المستعمل على حاله ، وجاز أن يكون قد تغير ، نحو : كان فلان كذا ثم صار كذا ، واستدل به على أن العالم حادث ؛ لأن قوله : ولم يكن شيء غيره " ظاهر في ذلك فإن كل شيء سوى الله وجد بعد أن لم يكن موجودا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : أدرك ناقتك فقد ذهبت ) في رواية أبي معاوية " انحلت ناقتك من عقالها " وزاد في آخر الحديث " فلا أدري ما كان بعد ذلك " أي مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم تكملة لذلك الحديث . قلت : ولم أقف في شيء من المسانيد عن أحد من الصحابة على نظير هذه القصة التي ذكرها عمران ، ولو وجد ذلك لأمكن أن يعرف منه ما أشار إليه عمران ، ويحتمل أن يكون اتفق أن الحديث انتهى . عند قيامه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وأيم الله ) تقدم شرحها في " كتاب الأيمان والنذور " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم ) الود المذكور تسلط على مجموع ذهابها وعدم قيامه لا على أحدهما فقط ؛ لأن ذهابها كان قد تحقق بانفلاتها ، والمراد بالذهاب الفقد الكلي .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية