أحمد بن عبد الملك بن هود
الملقب بالمستنصر بالله الأندلسي من بيت مملكة وحشمة ، وأموال عظيمة ، وكان بيده قطعة من الأندلس ، فاستعان بالفرنج على إقامة دولته .
ذكره اليسع بن حزم ، فقال : انعقد الصلح بين المستنصر بن هود وبين السليطين ملك الروم وهو ابن بنت أذفونش إلى مدة عشرين سنة ، على أن يدفع للفرنج روطة ، ويدفعوا إليه حصونا عوضها ، ويعينوه بخمسين ألفا من الروم ، يخرج بها إلى بلاد المسلمين ليملك ، فجعل الله تدميره في تدبيره ، وكنا نجد في الآثار عن السلف فساد الأندلس على يدي بني هود ، [ ص: 42 ] وصلاحها بعد على أيديهم ، فخرج اللعين السليطين وابن هود في نحو من أربعين ألف فارس ، وتاشفين بالزهراء ، فقصد ابن هود جهة إشبيلية ، وبقي ينفق على جيوش السليطين نحو ثمانية أشهر ، وشرط عليهم أنهم لا يأسرون أحدا ، فحدثني المستنصر -وقد ندم على فعله من شيطنة الشبيبة وطلب ملك آبائه- فقال لي : الذي أنفقت في تلك السفرة من الذهب الخالص ثلاثة آلاف ألف دينار ، والذي دفعت إليهم من مخازن روطة من الدروع أربعون ألف درع ، ومن البيض مثلها ، ومن الطوارق ثلاثون ألفا .
وذكر لي جماعة أنه دفع إلى السليطين خيمة كان يحملها أربعون بغلا ، وذكر لي محمد بن مالك الشاعر أنه أبصر تلك الخيمة ، قال : فما سمع بأكبر منها قط ، ولما طالت إقامته على البلاد ، ولم يخرج إلى ابن هود أحد ، رجع ومعه ابن هود ، ولم يكن مع ابن هود إلا نحو من مائتي فارس ، فأقام ابن هود بطليطلة ليذهب منها إلى حصونه التي عوض بها - بئس للظالمين بدلا - ثم إن قرطبة اضطرب أمرها ، واشتغل أمير المسلمين بما دهمه من خروج التومرتية فجاء المستنصر بالله أحمد من مدينة غرليطش ، وقصد قرطبة .
وكان محببا إلى الناس بالصيت ، فبرز إليه ابن حمدين زعيم قرطبة بعسكرها ، فقصد عسكرها نحو ابن هود طائعين ، ففر حينئذ ابن حمدين إلى بليدة ، ودخل ابن هود قرطبة بلا كلفة ولا ضربة ولا طعنة ، فاستوزر أبا سعيد المعروف بفرج الدليل ، وكاتب نواب البلاد ، ففرحوا به لأصالته في الملك ، ثم خرج فرج الدليل إلى حصن المدور ، فقيل لابن هود : قد نافق وفارق ، فخرج بنفسه ، واستنزله من [ ص: 43 ] الحصن ، فنزل غير مظهر خلافا ، وكان رجلا صالحا ، فقتله صبرا ، فساء ذاك أهل قرطبة ، وثارت نفوسهم ، وعظم عليهم قتل أسد من أسد الله ، فزحفوا إلى القصر ، ففر ابن هود من قرطبة ، فقصدها ابن حمدين ، فأدخله أهله ، وكثر الهيج ، واشتد البلاء بالأندلس ، وغلت مراجل الفتنة .
وأما أبو محمد بن عياض ، فكان على مملكة لاردة ، فخرج في خمس مائة فارس ، ليسعى في إصلاح أمر الأمة ، وقصده أهل مرسية وبلنسية ليملكوه عليهم ، فامتنع ، ثم بايع أهل بلنسية عن الخليفة عبد الله العباسي ، ثم اتفق ابن عياض وابن هود على أن اسم الخلافة لأمير المؤمنين العباسي ، وأن النظر في الجيوش والأموال لابن عياض -رحمه الله ، وأن السلطنة لابن هود .
قال اليسع : فكتبت بينهما عهدا هذا نصه :
كتاب اتفاق ونظام وائتلاف لجمع كلمة الإسلام يفرح به المؤمنون ، انعقد بين الأمير المستنصر بالله أحمد ، وبين المجاهد المؤيد أبي محمد عبد الله بن عياض ، وصل الله بهما أبواب التوفيق . . . إلى أن قال : وأنا لي في جزيرة الأندلس غرباء في مادة الروم ، فلم لا تعزم على إذاعة العدل وتروم ؟ وقد توجه نحوكم كاتبنا ابن اليسع ، وكل ما عقده وفي أموركم اعتمده أمضيناه .
قال : فلما وصلت المدينة ، وقرأت الكتاب ، فرحوا . . .
إلى أن قال : فأغارت الروم على أحواز شاطبة ، فبعثني عبد الله بن عياض إلى المستنصر يقول له : أنا أحتفل للقاء القوم ، فلا تخرج . فلما جئته بهذه الرسالة ، قال لي : إنما تريد أن تفسد ما بيني وبين الروم من وكيد الذمة ، وإذا أنا خرجت ، واجتمعت بملوكهم ، ردوا ما أخذوه ، فأعلمت ابن عياض ، فقال لي : يحسب هذا أن الروم تفي له ، سيتبع رأيي حين لا [ ص: 44 ] ينفعه ، فتضرعت إلى المستنصر ، فأبى ، فخرجنا جميعا نؤم العدو ، حتى وصلنا ، فأمراني بكتابين عنهما إلى الملكين مونق وفراندة ، وكتاب عن ابن عياض إلى صهره أبي محمد ليصل بعسكر بلنسية ، فقال له ابن عياض : يقرب صيدنا ، والحرب خدعة ، فأبى ، وقال : إذا وصلهم كتابي ، ردوا الغنائم ، فلم يغن كتابه شيئا .
إلى أن قال : فالتقينا نحن والروم ، فكمنوا لنا ألفي فارس ، وظهر لنا أربعة آلاف ، ونحن نحو الألفين ، ووقع الحرب ، فمات من أهل بلنسية نحو سبع مائة ، ومن الروم نحو الألف ، وفر أهل مرسية عن ابن عياض ، وفر ابن هود ، فثبت ابن عياض في نحو مائة فارس ، وانكسرت الروم ، لكن خرج كمينهم ، فانكسرنا بعد بأس شديد ، واستشهد الأمير أبو محمد عبد الله بن مردنيش صهر ابن عياض ، وأحمد بن مردنيش ، فشق حينئذ ابن عياض وسط الروم ، وجاز نهر شقر حتى وصل مدينة جنجالة ، وتوصل الفل إليه ، وفقدنا ابن هود ، ودخلنا مرسية ، واستبشر أهلها بسلامة الملك المجاهد عبد الله بن عياض وذلك سنة بضع وثلاثين وخمس مائة .