[ ص: 84 ] الزاهد القدوة أبو عبد الله ، كرز بن وبرة الحارثي ، الكوفي ، نزيل جرجان وكبيرها ، فإنه دخلها غازيا في سنة ثمان وتسعين ، مع يزيد بن المهلب ، فاتخذ كرز بها مسجدا بقرب قبره .
حدث عن أنس بن مالك ، والربيع بن خثيم ، ونعيم بن أبي هند ، وطاووس ، وطارق بن شهاب ، ومجاهد وغيرهم . وعطاء
حدث عنه أبو طيبة عيسى بن سليمان الدارمي ، وعبيد الله الوصافي ، وسفيان الثوري ، ومختار التيمي ، وابن شبرمة ، ومحمد بن النضر الحارثي ، ومحمد بن الفضل بن عطية ، وآخرون . ومحمد بن فضيل ،
قال : كان يسكن أبو نعيم الحافظ جرجان ، له الصيت البليغ في النسك والتعبد .
أخبرنا إسحاق الصفار ، أنبأنا يوسف الحافظ ، أنبأنا أبو المكارم التيمي ، أنبأنا أبو علي المقري ، أنبأنا أبو نعيم ، حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا شريح بن يونس ، حدثنا عن أبيه قال : دخلت على محمد بن فضيل ، كرز بيته ، فإذا عند مصلاه حفيرة قد ملأها تبنا وبسط عليها كساء من طول القيام ، فكان يقرأ في اليوم والليلة القرآن ثلاث مرات .
[ ص: 85 ] وبه قال أبو نعيم : حدثنا ابن حيان ، حدثنا أحمد بن الحسين ، حدثنا أحمد الدورقي ، حدثني سعيد أبو عثمان ، سمعت ابن عيينة يقول : قال ابن شبرمة : سأل كرز ربه أن يعطيه الاسم الأعظم ، على ألا يسأل به شيئا من الدنيا فأعطي ، فسأل أن يقوى حتى يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات .
وبه حدثنا ابن مالك ، حدثنا عبد الله ، حدثنا شريح ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، أو عن نفسه ، قال : كان كرز إذا خرج أمر بالمعروف ، فيضربونه حتى يغشى عليه .
وروى ابن فضيل عن أبيه قال : لم يرفع كرز بصره إلى السماء أربعين سنة ، وكان له عود عند المحراب يعتمد عليه إذا نعس .
قال : حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي جرير بن زياد بن كرز الحارثي ، عن شجاع بن صبيح مولى كرز بن وبرة ، قال : أخبرني أبو سليمان المكتب قال : صحبت كرزا إلى مكة ، فاحتبس يوما وقت الرحيل ، فانبثوا في طلبه ، فأصبته في وهدة يصلي في ساعة حارة ، وإذا سحابة تظله ، فقال لي : اكتم هذا -واستحلفني .
قال أحمد : وحدثني جرير ، عن النضر بن عبد الله ، حدثتني روضة مولاة كرز : قلت : من أين ينفق كرز ؟ قالت : كان يقول لي : يا روضة إذا أردت شيئا ، فخذي من هذه الكوة . فكنت آخذ كلما أردت .
وأنشد ابن شبرمة :
لو شئت كنت ككرز في تعبده أو كابن طارق حول البيت في الحرم قد حال دون لذيذ العيش خوفهما
وسارعا في طلاب الفوز والكرم
عن فضيل بن غزوان : كان كرز يصلي حتى ترم قدماه ، فيحفر الحفيرة -يعني تحت رجليه- وقيل : كان كرز لا ينزل منزلا إلا ابتنى فيه مسجدا ، فيصلي فيه .
[ ص: 86 ] وعن أبي حفص السائح ، عن أبي بشر قال : كان كرز بن وبرة من أعبد الناس ، وكان قد امتنع من الطعام ، حتى لم يوجد عليه من اللحم ، إلا بقدر ما يوجد على العصفور ، وكان يطوي أياما كثيرة ، وكان إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يمينا ، ولا شمالا . وكان من المحبين المخبتين لله ، قد وله من ذلك ، فربما كلم فيجيب بعد مدة من شدة تعلق قلبه بالله ، واشتياقه إليه .
ابن يمان عن سفيان ، عن كرز قال : لا يكون العبد قارئا حتى يزهد في الدرهم .
وعن عمرو بن حميد الدينوري ، عن بعض أهل جرجان ، عن أبيه ، رأيت في النوم : كأني أتيت على قبور أهل جرجان ، فإذا هم جلوس على قبورهم ، عليهم ثياب بيض فقلت : يا أهل القبور ما لكم ؟ قالوا : إنا كسينا ثيابا جددا لقدوم كرز بن وبرة علينا .
قلت : هكذا كان زهاد السلف وعبادهم ، أصحاب خوف وخشوع ، وتعبد وقنوع ، ولا يدخلون في الدنيا وشهواتها ، ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء ، والمحو ، والاصطلام ، والاتحاد ، وأشباه ذلك ، مما لا يسوغه كبار العلماء .
فنسأل الله التوفيق والإخلاص ، ولزوم الاتباع .