اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال :
الأول : أن المراد بالورود الدخول ، ولكن الله يصرف أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول .
الثاني : أن المذكور : الجواز على الصراط ; لأنه جسر منصوب على متن جهنم . المراد بورود النار
[ ص: 478 ] الثالث : أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها .
الرابع : أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن ، فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية ، وقد قدمنا أمثلة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن رضي الله عنهما استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك . ابن عباس
وإيضاحه أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة ، والمراد في كل واحدة منها الدخول ، فاستدل بذلك على أن " الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول " ؛ لدلالة الآيات الأخرى على ذلك ، كقوله تعالى : ابن عباس يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود [ 11 \ 98 ] ، قال : فهذا ورود دخول ، وكقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [ 21 \ 99 ] ، فهو ورود دخول أيضا ، وكقوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] ، وقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 68 ] ، وبهذا استدل على ابن عباس نافع بن الأزرق في " أن الورود الدخول " .
واحتج من قال بأن الورود : الإشراف والمقاربة بقوله تعالى : ولما ورد ماء مدين الآية [ 28 \ 23 ] ، قال : فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه ، وكذا قوله تعالى : فأرسلوا واردهم الآية [ 12 \ 11 ] ، ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
واحتج من قال : بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين : حر الحمى في دار [ ص: 479 ] الدنيا بحديث " " ، وهو حديث متفق عليه من حديث الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء عائشة ، وأسماء ابنتي أبي بكر وابن عمر رضي الله عنهم ، ورواه ورافع بن خديج أيضا مرفوعا عن البخاري . ابن عباس
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة ، الأول : هو ما ذكره رضي الله عنهما من أن ابن عباس ، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن . جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع
الدليل الثاني : هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك ، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 70 - 71 ] ، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها [ 19 \ 72 ] ، أي : نترك الظالمين فيها ، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها ، إذ لو لم يدخلوها لم يقل : ونذر الظالمين فيها بل يقول : وندخل الظالمين ، وهذا واضح كما ترى ، وكذلك قوله : ثم ننجي الذين اتقوا ، دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة ، ولذا عطف على قوله : وإن منكم إلا واردها قوله : ثم ننجي الذين اتقوا .
الدليل الثالث : ما روي من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة : أخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت رضي الله عنهما فذكرت له ذلك فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " جابر بن عبد الله إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا " اهـ . وقال لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( في هذا الحديث : رواه أحمد ، وابن أبي شيبة قالوا : حدثنا وعبد بن حميد ، وأخرجه سليمان بن حرب أبو يعلى في الكنى ، والنسائي والبيهقي في الشعب في باب النار ، والحكيم في النوادر ، كلهم من طريق سليمان ، قال : حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان ، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم من اللفظ [ ص: 480 ] الذي ذكره ، وخالفهم كلهم الزمخشري الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الإسناد فقال : عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة . بدل أبي سمية عن جابر . اهـ . وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال الإمام أحمد : حدثنا ، حدثنا سليمان بن حرب غالب بن سليمان ، عن كثير بن زياد البرساني ، عن أبي سمية ، قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت فقلت : إنا اختلفنا في الورود فقال : يدخلونها جميعا ، ثم ذكر الحديث المتقدم ، ثم قال جابر بن عبد الله ابن كثير رحمه الله : غريب ولم يخرجوه .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن الإسناد المذكور لا يقل عن درجة الحسن لأن طبقته الأولى : ، وهو ثقة إمام حافظ مشهور ، وطبقته الثانية : سليمان بن حرب أبو صالح أو أبو سلمة غالب بن سليمان العتكي الجهضمي الخراساني أصله من البصرة ، وهو ثقة ، وطبقته الثالثة : كثير بن زياد أبو سهل البرساني بصري نزل بلخ ، وهو ثقة ، وطبقته الرابعة : أبو سمية وقد ذكره في الثقات ، قاله ابن حبان ابن حجر في تهذيب التهذيب . وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث ; لأن غيره من رجال هذا الإسناد ثقات معروفون ، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخرى التي استدل بها وآثار جاءت عن علماء السلف رضي الله عنهم كما ذكره ابن عباس ابن كثير عن ، خالد بن معدان رضي الله عنه ، وذكره هو وعبد الله بن رواحة عن وابن جرير أبي ميسرة ، وذكره ابن كثير عن عن عبد الله بن المبارك ، كلهم يقولون : إنه ورود دخول ، وأجاب من قال بأن الورود في الآية الدخول عن قوله تعالى : الحسن البصري أولئك عنها مبعدون [ 21 \ 101 ] ، بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها ، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها ، كما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية الكريمة .
وأجابوا عن الاستدلال بحديث " " ، بالقول بموجبه ، قالوا : الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع ; لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا ; لأن أول الكلام قوله تعالى : الحمى من فيح جهنم فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا إلى أن قال وإن منكم إلا واردها [ 19 \ 68 - 70 ] ، فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى .
والقراءة في قوله : جثيا ، كما قدمنا في قوله : [ ص: 481 ] ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا .
وقوله : ثم ننجي ، قراءة بإسكان النون الثانية وتخفيف الجيم ، وقرأه الباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ، وقد ذكرنا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( أن جماعة رووا عن الكسائي : أن ورود النار المذكور في الآية هو المرور عليها ; لأن الناس تمر على الصراط وهو جسر منصوب على متن جهنم ، وأن ابن مسعود الحسن وقتادة روي عنهما نحو ذلك أيضا ، وروي عن أيضا مرفوعا : " ابن مسعود أنهم يردونها جميعا ويصدرون عنها بحسب أعمالهم " ، وعنه أيضا تفسير الورود بالوقوف عليها ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في الآية الكريمة : كان على ربك حتما مقضيا ، يعني أن ورودهم النار المذكور كان حتما على ربك مقضيا ، أي : أمرا واجبا مفعولا لا محالة ، والحتم : الواجب الذي لا محيد عنه ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
عبادك يخطئون وأنت رب بكفيك المنايا والحتوم
واستدل من قال : إن في الآية قسما ، بحديث الثابت في الصحيحين ، قال أبي هريرة في صحيحه : حدثنا البخاري علي ، حدثنا سفيان قال : سمعت عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " قال لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم أبو عبد الله : وإن منكم إلا واردها اهـ . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " ، حدثنا لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ، أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد قالوا ، حدثنا وزهير بن حرب ) ح ( وحدثنا سفيان بن عيينة ، عبد بن حميد ، عن وابن رافع عبد الرزاق ، أخبرنا معمر كلاهما عن بإسناد الزهري مالك ، وبمعنى حديثه إلا أن في حديث سفيان " " اهـ . فيلج النار إلا تحلة القسم
قالوا : المراد بالقسم المذكور في هذا الحديث الصحيح هو قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ، وهو معنى ما ذكرنا عن في قوله : قال البخاري أبو عبد الله وإن منكم إلا واردها ، [ ص: 482 ] والذين استدلوا بالحديث المذكور على أن الآية الكريمة قسم اختلفوا في موضع القسم من الآية ، فقال بعضهم : هو مقدر دل عليه الحديث المذكور ، أي : والله إن منكم إلا واردها ، وقال بعضهم : هو معطوف على القسم قبله ، والمعطوف على القسم قسم ، والمعنى : فوربك لنحشرنهم والشياطين وربك إن منكم إلا واردها ، وقال بعضهم : القسم المذكور مستفاد من قوله : كان على ربك حتما مقضيا أي : قسما واجبا كما قدمناه عن ابن مسعود ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق ، فإن قوله تعالى : كان على ربك حتما مقضيا ، تذييل وتقرير لقوله : وإن منكم إلا واردها ، وهذا بمنزلة القسم في تأكيد الإخبار ، بل هذا أبلغ للحصر في الآية بالنفي والإثبات .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم ; لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم ، ولا قرينة واضحة دالة على القسم ، ولم يتعين عطفها على القسم ، والحكم بتقدير قسم في كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه ، زيادة على معنى كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وحديث المذكور المتفق عليه لا يتعين منه أن في الآية قسما ; لأن من أساليب اللغة العربية التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة وإن لم يكن هناك قسم أصلا ، يقولون : ما فعلت كذا إلا تحلة القسم ، يعنون إلا فعلا قليلا جدا قدر ما يحلل به الحالف قسمه ، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب ، ومنه قول أبي هريرة كعب بن زهير في وصف ناقته :
تخدي على يسرات وهي لاصقة ذوابل مسهن الأرض تحليل