قوله تعالى : حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا .
في معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن :
الأول : أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول هذه الكلمات كدعاء المباهلة بينه وبين المشركين ، وإيضاح معناه : قل يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين الذين ادعوا أنهم خير منكم ، وأن الدليل على ذلك أنهم خير منكم مقاما وأحسن منكم نديا : من كان منا ومنكم في الضلالة - أي الكفر والضلال عن طريق الحق - فليمدد له الرحمن مدا ، أي : فأمهله الرحمن إمهالا فيما هو فيه حتى يستدرجه بالإمهال ويموت على ذلك ولا يرجع عنه ، بل يستمر على ذلك حتى يرى ما يوعده الله ، وهو : إما عذاب في الدنيا بأيدي المسلمين ، كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] ، أو بغير ذلك ، وإما عذاب الآخرة إن ماتوا وهم على ذلك الكفر ، وعلى ذلك التفسير فصيغة الطلب المدلول عليها باللام في قوله : فليمدد على بابها ، وعليه فهي لام الدعاء بالإمهال في الضلال على الضال من الفريقين ، حتى يرى ما يوعده من الشر وهو على أقبح حال من الكفر والضلال ، واقتصر على هذا التفسير ابن كثير ، وهو الظاهر من صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، ونظير هذا المعنى في القرآن قوله تعالى : وابن جرير فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [ 3 \ 61 ] ; لأنه على ذلك التفسير يكون في كلتا الآيتين دعاء بالشر على الضال من الطائفتين ، وكذلك قوله تعالى في اليهود : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ 2 \ 94 ] ، في " البقرة والجمعة " عند من يقول : إن المراد بالتمني الدعاء بالموت على الكاذبين من الطائفتين ، وهو اختيار ابن كثير ، وظاهر الآية لا يساعد عليه .
الوجه الثاني أن صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين ، وعليه فالمعنى : أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه [ ص: 488 ] بذلك حتى يرى ما يوعده ، وهو في غفلة وكفر وضلال .
وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة ، كقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما الآية [ 3 \ 178 ] ، وقوله : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة الآية [ 6 \ 44 ] ، كما قدمنا قريبا بعض الآيات الدالة عليه .
ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم قال : في حرف حبيب بن أبي ثابت أبي : " قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة " اهـ . قاله صاحب الدر المنثور ، ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة ، فإن قيل على هذا الوجه : ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر ؟ فالجواب : أن أجاب في كشافه عن ذلك ، قال في تفسير قوله تعالى : الزمخشري فليمدد له الرحمن مدا ، أي : مد له الرحمن ، يعني أمهله وأملى له في العمر ، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك ، وأنه مفعول لا محالة ، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر [ 35 \ 37 ] . انتهى محل الغرض منه ، وأظهر الأقوال عندي في قوله : حتى إذا رأوا ما يوعدون ، أنه متعلق بما قبله وما يليه ، والمعنى : فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظن .
وقال : إن حتى في هذه الآية هي التي تحكى بعدها الجمل ، واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها . الزمخشري
وقوله : ما يوعدون لفظة ما ، مفعول به لـ ما ، وقوله : إما العذاب وإما الساعة ، بدل من المفعول به الذي هو " ما " ولفظة من من قوله : فسيعلمون من هو ، قال بعض العلماء : هي موصولة في محل نصب على المفعول به لـ " يعلمون " وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد ، وقال بعض أهل العلم : من استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام ، وهذا أظهر عندي .
وقوله : شر مكانا وأضعف جندا ، في مقابلة قولهم : خير مقاما وأحسن نديا ; لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم ، والندي : المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم ، والجند هم الأنصار والأعوان ، فالمقابلة المذكورة ظاهرة ، وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق شر مكانا ، والمراد اتصاف الشخص بالشر [ ص: 489 ] لا المكان ، وهو قوله تعالى : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا [ 12 \ 72 ] ، فتفضيل المكان في الشر هاهنا الظاهر أن المراد به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان ، اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي ، أي : أنتم شر منزلة عند الله تعالى .
وقوله في هذه الآيات المذكورة مقاما ، و نديا ، و أثاثا ، و مكانا ، و جندا ، كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كـ " أنت أعلى منزلا "